تنويه: تتضمّن المادة حرقاً للأحداث
يستمر مسلسل "لعبة الحبار" الجزء الثاني، بتقديم رمزية جريئة تستدعي التأمل في بنية الأنظمة القامعة والمجتمعات الرأسمالية التي نعيش تحت وطأتها، والتي لا تنفك عن تشكيلنا وتدجيننا. وفي ادعاء يحتمل المبالغة، أرى في هذا المسلسل تكثيف لواقعنا المعقد. وهنا تحديداً يكمن سِحر الدراما والسينما، فإنها تخلق حالة مكثفة ومبالغ فيها من الواقع لنتمكن من رؤيته بوضوح، هنا لا يعد تبهير الحقيقة شكلاً من أشكال التضليل بل إشارة اليها.
لعنة الإدراك
في هذا الجزء، يعود سيونغ جي هون، الشخصية المركزية، لينتقم من صنّاع اللعبة، ليجد نفسه متورطاً بها من جديد، ويبدأ صراع الانتقام. يعود سيونع جي هون مع بصيرة أكبر ورؤية أوضح لما يحدث، ويتشارك معنا، نحن المشاهدين، هذه المعرفة، بخلاف الأشخاص الآخرين الذين يشاركون للمرة الأولى في اللعبة ولا يفهمون أبعادها، لذلك فهم أقل قهراً وحزناً من الشخصية المركزية، وهنا يجعلنا المسلسل نتأمل ضريبة المعرفة والبصيرة، ولعنة الإدراك كما يسميها ديستويفسكي، مقابل الجنون أو الانفصال عن الواقع، فقد خلق المسلسل لنا هذه المقاربة، بوجود شخصية مغني الراب الذي يبقى في حالة من الهلوسة نتيجة المخدرات التي يتعاطاها، فنراه في المسلسل يمرح ويضحك غير مكترث بما يحدث، فـ "ذو العقلِ يشقى بالنعيمِ بعقله، وأخو الجهالةِ بالشقاوةِ ينعم ".
يستمر مسلسل "لعبة الحبار" الجزء الثاني، بتقديم رمزية جريئة تستدعي التأمل في بنية الأنظمة القامعة والمجتمعات الرأسمالية التي نعيش تحت وطأتها، والتي لا تنفك عن تشكيلنا وتدجيننا
وهم الاختيار
في هذا الجزء، يُضاف عنصر جديد يتمثل في قانون يسمح للاعبين بالتصويت بعد كل لعبة لتقرير استمرارهم أو انسحابهم. هذا الإجراء يوهم اللاعبين بأنهم يمتلكون السيطرة، ولكنه في جوهره انعكاس دقيق لما يعيشه الأفراد في المجتمعات الرأسمالية، كما أشار عالم الاجتماع زيجمونت باومان، فإن حرية الاختيار في هذا السياق هي مجرد وهم. الأنظمة المهيمنة تعِد العالم مسبقاً بما يتناسب مع مصالحها، تاركة الأفراد يختارون من بين خيارات محدودة صُمّمت لتخدمها.
ففي لعبة الحبار، قادت الديون الطاحنة والظروف المعيشية القاسية المشاركين إلى اللعبة، ما يبرز فكرة أنهم لم يختاروا اللعبة بوعي تام، بل أجبروا عليها نتيجة لواقعهم المأساوي، في حين أن خطاب اللعبة يحمّلهم مسؤولية اختيارهم، ويقنعهم انهم أحرار في تقرير مصيرهم. إنها الخدعة الأكبر للرأسمالية، حيث تقنع الأخيرة الأفراد بأنهم أحرار في اختيار ما يشترونه أو الطريقة التي يعيشون بها، لكن في الواقع، هذه الخيارات موجهة ومقيدة من قبل الشركات والأسواق، إذ يقوم النظام بدفعهم للاختيار بطرق خفية، سواء من خلال الحملات الإعلانية، أو المعايير الاجتماعية، أو الضغوط الاقتصادية، وهكذا تسير حياة الأفراد كأنها مشروع استثماري، حيث يتم تقديم مجموعة خيارات على أنها وسيلة لتحقيق السعادة والنجاح، لكن هذه الخيارات تظل محصورة ضمن القيود التي يفرضها النظام الاقتصادي، فيعيش الأفراد حرية زائفة، تكون دائماً مشحونة بمشاعر القلق والخوف، فهم مجبرون على تحمل مسؤولية خياراتهم حتى في الظروف التي لا يستطيعون السيطرة عليها، ما يضع عبئاً نفسياً كبيراً عليهم، الأمر الذي كان جلياً في المسلسل.
نقاتل من؟
في إحدى الليالي، اشتعلت الفتنة بين المشاركين في اللعبة بفعل الفتيل الذي زرعه صنّاعها، ولكن بعد ما أدرك سيونغ جي هون أبعاد اللعبة بفعل تجربته السابقة، حاول إعادة تصويب أصابع الاتهام للمشاركين، مقنعاً إياهم بوجوب محاربة صناع اللعبة بدلاً من التناحر بين بعضهم البعض، لأن العدو الحقيقي ليس بينهم، بل هو النظام الذي وضعهم في هذا الوضع القاتل.
وهنا تظهر قدرة الوعي على تجاوز الانقسامات المصطنعة التي تغذيها الأنظمة القامعة من خلال توفير أدوات القتال ودوافعه وأسبابه، بينما تظل هي في موقع المتفرج المستفيد. إن هذه الجزئية من المسلسل كانت في غاية الأهمية، وتعكس الضرورة التاريخية لقراءة الواقع ضمن نظرة شمولية، وتعكس أيضاً الدور المترتب على الشخص الذي يحمل المعرفة والوعي في إعادة توجيه غضب الناس وتوعيتهم لما يحدث.
كل إنسان راضخ وتابع على أي مستوى من سلم السيطرة والقهر، يلعب دور المتسلّط على من هم أدنى منه مرتبة أو قوة، من الكبار إلى الأطفال، من رب العمل إلى العامل، ومن الرجل إلى المرأة
سيكولوجية الإنسان المقهور
رأينا في المسلسل أن هناك طبقات من العنصرية بين المشاركين، عنصرية على خلفية العمر، النوع الاجتماعي والميول الجنسية، فعلى الرغم من أن جميع من في المسلسل يتشاركون في الطبقة والهم الطبقي إلا أن هناك طبقات أخرى من القمع داخل المجموعة نفسها، الأمر الذي يتوافق مع معايير الإنسان المقهور كما عرفه مصطفى حجازي، إذ يعتقد حجازي أن البيئة المأزقية أو القاهرة، تفرض دائماً وجود علاقات تسلط وعنف تفرض من خلال لغة العنف أساساً، ويمكننا أن نجد هذا النمط من أعلى قمة الهرم إلى أدناها، أي من الأقوى إلى الأضعف، وهكذا كيفما تحرك إنسان العالم الثالث يجابه باستمرار بأشكال متنوعة من علاقات التسلط والقهر ، تفقده الشعور الأساسي بالأمن والسيطرة على مصيره، وتجعله مليئاً بالقلق .
كل إنسان راضخ وتابع على أي مستوى من سلم السيطرة والقهر، يلعب دور المتسلّط على من هم أدنى منه مرتبة أو قوة، من الكبار إلى الأطفال، من رب العمل إلى العامل، ومن الرجل إلى المرأة.
ثمن البطولة!
يظهر المسلسل كيف تتعامل الأنظمة المهيمنة مع كل من يحاول تحديها. في المشهد الأخير من المسلسل، يقتل صديق سيونغ شي هون أمام عينيه، ويقول القاتل: "هذا ثمن لعب دور البطولة". هذه الجملة تلخص الاستراتيجية التي تلجأ إليها الأنظمة القامعة لابتزاز متحدييها. لم يتم قتل سيونغ شي هون لأنه ليس هو المستهدف كجسد، بل المستهدف هو ما يحاول ممارسته من بطولة. أراد القاتل أن يريه ثمن هذه البطولة ويقتلها، ومن ثم يضع مكانها عقدة ذنب وكأنه هو السبب في قتل صديقه. أليس هكذا تماماً يتم التعامل مع مفاهيم البطولة والإيثار والهمّ المجتمعي في عصرنا؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ يوميناسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومينفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته