عندما يجتمع الأعداء... 5 تكتيكات تفاوضية غيّرت وجه العالم

جلوس الأعداء على طاولة واحدة والتفاوض، ترسيم الحدود، أو الهدنة، أو وقف إطلاق النار أو السلام، عملية بطيئة، وتحتاج لمراجعات طويلة، إلا أن الزمن المتأني داخل الغرف المغلقة للمفاوضات يمر ثقيلاً ومرعباً على أولئك الذين ينتظرون نتائجها.

فمن يربح عادة في تلك الغرف؟ المفاوض الأفضل أم الطرف الأقوى؟

في التقرير التالي يستعرض رصيف22 أهم خمسة تكتيكات ومدارس للتفاوض بين الأعداء من السياسيين، لا سيما في قضايا حساسة، يشكل الوقت فيها عاملاً فارقاً بين الحياة والموت، كتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، كما نشير إلى أهم الحوادث التاريخية ومتى شهدنا كل تكتيك في نشرات الأخبار، دون أن نعرف أننا بصدد تفاوض من نوع "حافة الهاوية" أو "المقايضة الكبرى". وأخيراً، نختم بأهم الوساطات الناجحة في العالم. 

أهم التكتيكتات التي يعتمدها المفاوضون

التكتيك الأول... التفاوض على مراحل 

لدى التفاوض بين الأعداء، تسعى الأطراف إلى إدارة المصالح المتعارضة والخلافات الكبيرة بشكل استراتيجي، بما يضمن تحقيق مكاسب، وتجنب الانهيار الكامل للمحادثات.

وبحسب كتاب "الوصول إلى نعم" (Getting to Yes: Negotiating Agreement Without Giving In) تأليف روجر فيشر وويليام يوري، فإن أبرز التكتيكات المستخدمة في هذا السياق هو "التفاوض على مراحل"، حيث يتم تقسيم العملية إلى خطوات صغيرة، مثل وقف إطلاق النار أو تبادل أسرى على دفعات قبل الخوض في القضايا الكبرى. 

جلوس الأعداء على طاولة واحدة والتفاوض وترسيم الحدود، أو الهدنة، أو وقف إطلاق النار، أو السلام، عملية بطيئة، وتحتاج لمراجعات طويلة، إلا أن الزمن المتأني داخل الغرف المغلقة للمفاوضات يمر ثقيلاً ومرعباً على أولئك الذين ينتظرون نتائجها. فمن يربح عادة في تلك الغرف؟ المفاوض الأفضل أم الطرف الأقوى؟

يُساهم هذا الأسلوب في بناء الثقة تدريجياً وتقليل احتمالات الفشل؛ فعلى سبيل المثال، في اتفاق تبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس عام 2011، تم تنفيذ الصفقة على مرحلتين؛ إذ أفرجت إسرائيل عن دفعة أولى كبيرة مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ثم أعقبتها دفعة ثانية لضمان الالتزام الكامل بالاتفاق.

التكتيك الثاني… المقايضة الكبرى

تكتيك آخر يُعتمد عليه كثيراً هو المقايضة الكبرى، ويسمى أيضاً "التفاوض التوزيعي"، حيث يقدم كل طرف تنازلات تدريجية مقابل تنازلات متبادلة، ما يمنح كل طرف إحساساً بأنه خرج بمكاسب دون تقديم تنازلات مجانية.

هذا الأسلوب يعزى للمدرسة الروسية في التفاوض، وبحسب معهد كارنيغي، فالنجاح في المفاوضات به يعني الاتفاق على حل المشكلة فقط، دون حدوث انفراج سياسي في العداء نفسه، وقد تم اعتماده في مفاوضات تبادل الأسرى بين روسيا والغرب، وبين روسيا وأوكرانيا، وكان واضحاً في اتفاقية تبادل الأسرى بين الولايات المتحدة وإيران عام 2022، حيث وافق الطرفان على إطلاق سراح معتقلين مقابل تحرير أموال مجمدة لإيران، مع إبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة. 

يُركز أسلوب "التفاوض التوزيعي" على تقسيم الموارد والمصالح المتاحة، ويُعد بمثابة "لعبة محصلتها صفر"، بمعنى أن ما يربحه طرف قد يكون خسارة للطرف الآخر. ولهذا السبب، يُستخدم هذا الأسلوب غالباً في الحالات التي يكون فيها الهدف واحداً وواضحاً، وبين من لا يسعون للسلام في تلك المرحلة. 

في تكتيك "التفاوض على مراحل" الذي تعتمده روسيا، تُقسّم العملية لخطوات صغيرة قبل الخوض في القضية الكبرى. بينما يُعتمد تكتيك "المقايضة الكبرى" بين من لا يسعون للسلام، وإنما لحلّ أزمة مرحلية فقط.

من أبرز سمات هذا أسلوب هو التركيز على المواقف الثابتة في الهدف البعيد. مع إبداء المرونة في طرق التنفيذ، حيث قد يؤدي التشبث بالمواقف كلها إلى تعقيد المفاوضات وربما انهيارها.

التكتيك الثالث… الضغط المتبادل

الضغط المتبادل هو أيضاً من أبرز الأساليب المستخدمة، وهو أسلوب نتعرف على مدرسته من كتاب "استراتيجيات الصراع" (The Strategy of Conflict)، من تأليف توماس شيلينغ، الذي يعد كتاباً مرجعياً مهماً في فهم استراتيجيات التصعيد في المفاوضات، وكيفية استخدام التهديدات المحسوبة.

في هذا النوع من التفاوض، تُمارس الأطراف ضغوطاً اقتصادية أو سياسية وحتى عسكرية لإجبار الطرف الآخر على تقديم تنازلات. يُدمج هذا الأسلوب غالباً مع دبلوماسية مرنة تبقي باب الحوار مفتوحاً؛ فعلى سبيل المثال، خلال مفاوضات تبادل الأسرى بين الحوثيين والحكومة اليمنية في آذار/مارس 2023، ترافق الضغط الميداني مع استمرار الوساطة الأممية، ما أدى إلى إطلاق سراح مئات الأسرى من الجانبين بعد أشهر من المفاوضات المتوترة.

التكتيك الرابع… الدبلوماسية السرية

يمكن فهم هذا الأسلوب من اسمه، إذ يتم إخراج جميع الأطراف والخبراء وممثلي المصالح من الغرفة، والتأكد من عدم تدوين الاجتماع أو أخذ المحاضر، فلا يحضر إلا شخصان أو أربعة من أصحاب الصلاحيات بالتوقيع النهائي مع الوسيط، لتكون المفاوضات واضحة وصريحة وسريعة.

في معظم الحالات، تُجرى الدبلوماسية السرية بعيداً عن أعين الإعلام والجمهور، لتجنب ردود فعل تؤدي إلى تعقيد المفاوضات، كما حدث في تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل عام 2008، حيث استمرت المفاوضات سراً قبل إعلانها بعد إتمام الصفقة. هذه السرية تساعد الأطراف على تقديم تنازلات دون خوف من انتقادات داخلية.

التكتيك الخامس والأخطر… حافة الهاوية

ومن التكتيكات الخطيرة هو سياسة حافة الهاوية، حيث تتعمد الأطراف التصعيدَ حتى حافة الصراع المفتوح، ثم تقدم تنازلات للعودة إلى طاولة الحوار وتجنب الكارثة. نعرف أن هذا هو الأسلوب المتبع حين نشهد التصعيد الإعلامي والعسكري، وتقلبات البورصة، وتغير أسعار النفط والغاز، حتى اللحظة الأخيرة قبل الاتفاق. 

تسعى الأطراف في هذا النوع من المفاوضات أيضاً إلى الحصول على دعم أطراف ثالثة لإحداث توازن في المفاوضات، عبر اللجوء إلى قوى أو منظمات قادرة على ممارسة نفوذ مؤثر؛ على سبيل المثال، في تبادل الأسرى بين الحكومة السورية والمعارضة، لعبت وساطة الأمم المتحدة والصليب الأحمر دوراً حيوياً في إنجاح العملية وضمان تنفيذها بشكل آمن للطرفين. 

في تكتيك "الدبلوماسية السرية" يتم إخراج جميع الأطراف من الغرفة، والتأكد من عدم تدوين الاجتماع أو أخذ المحاضر، فلا يحضر إلا شخصان أو أربعة من أصحاب الصلاحيات بالتوقيع النهائي مع الوسيط، لتكون المفاوضات واضحة وسريعة. وقد شهدناه في تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل عام 2008

تُعتبر أزمة الصواريخ الكوبية 1962 واحدة من أشهر الأمثلة على تكتيك حافة الهاوية في التاريخ. عندما قامت الولايات المتحدة باكتشاف صواريخ نووية سوفياتية منصوبة في كوبا، فرض الرئيس الأمريكي جون كينيدي، حصاراً بحرياً على الجزيرة، وهدد بعمل عسكري إذا لم يتم إزالة الصواريخ. في المقابل، رفض الاتحاد السوفياتي التراجع في البداية، ما أدى إلى اقتراب العالم بشكل خطير من حرب نووية شاملة. ومع ذلك، تم التوصل إلى تسوية حيث سحب السوفيات الصواريخ من كوبا مقابل وعد أمريكي بعدم غزو كوبا وإزالة الصواريخ الأمريكية من تركيا سرّاً.

كذلك تستخدم كوريا الشمالية مراراً تكتيكَ حافة الهاوية عبر اختبار صواريخ نووية والتهديد بمهاجمة جيرانها أو الولايات المتحدة، ما أثار أزمات متتالية دفعت الأطراف الدولية إلى تقديم تنازلات، مثل المساعدات الاقتصادية، مقابل تخفيف التصعيد. ورغم فترات التهدئة، استمرت كوريا الشمالية في استخدام هذا التكتيك لانتزاع مكاسب سياسية.

ويمكن القول إنه الأسلوب المفضل لدى الإيرانيين، فبعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018، تصاعدت التوترات بين البلدين، خاصة بعد إسقاط إيران لطائرة استطلاع أمريكية عام 2019، واقتربت الولايات المتحدة من تنفيذ ضربة عسكرية رداً على ذلك، لكن الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، أوقف الضربة في اللحظة الأخيرة. استخدمت إيران موقفها التصعيدي كورقة ضغط للتأثير على مسار العقوبات الأمريكية ومحاولةً إعادة فتح باب المفاوضات بشروط جديدة.

قوة الطرف الثالث… سحر الوسيط 

قال هنري كيسنجر، عن الفترة التي قاد بها الوساطات خلال الحرب الباردة: "الدبلوماسية هي فن تقييد القوة، وتوسيع الفرص". والوسيط الناجح في النزاعات هو جهة أو دولة أو منظمة تسعى لتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة بهدف تحقيق حل سلمي للأزمة. الوساطة ليست فقط أداة لتحقيق السلام، بل تُعد أيضاً وسيلة لحماية المصالح الاستراتيجية للدول الوسيطة. فيما يلي توسع في مفهوم الوسيط، أدواته، ومصالحه، مع أمثلة ناجحة من الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا.

بداية، تتطلب الوساطة الناجحة، التي لا تتم مفاوضات بدونها عدة عوامل لضمان تحقيق نتائج إيجابية. أولها الحياد والقبول، وثانيها أن يحظى الوسيط بثقة الطرفين لضمان عدم انهيار المفاوضات بسبب شبهة الانحياز. يقول روجر فيشر في كتابه "الوصول إلى نعم": "الوسيط الناجح لا يحل المشكلة فحسب، بل يُظهر للأطراف كيفية بناء الثقة من خلال التزامات متبادلة". 

في تكتيك "حافة الهاوية" تتعمد الأطراف التصعيد حتى حافة الصراع المفتوح، ثم تقدم تنازلات للعودة إلى طاولة الحوار وتجنب الكارثة، وأكثر من يستخدمه كوريا الشمالية وإيران. 

ومن الأمثلة البارزة الوساطة المصرية في العديد من اتفاقات تبادل الأسرى بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، إذ تحظى القاهرة بثقة الأطراف، ما جعلها وسيطاً فاعلاً في إنجاز صفقات معقدة.

لكن ذلك لا يعني غياب المصالح التي يسعى الوسيط لتحقيقها بدوره، فالوسيط غالباً ما يستفيد من دوره لتعزيز نفوذه السياسي أو الاقتصادي، أو لتحقيق استقرار إقليمي يخدم أهدافه الاستراتيجية.

ثالث الشروط المهمة لنجاح الوساطة، هي وجود جدول أعمال واضح يُعد ضرورياً لتنظيم المفاوضات وتقليل فرص هدر الوقت، إلى جانب إدارة الأزمات، حيث يلعب الوسيط دوراً محورياً في تهدئة التصعيد إذا توترت المفاوضات، والحفاظ على استمراريتها في لحظات التعقيد. وتزداد فرص نجاح الوساطة حين يقدم الوسيط خيارات مبتكرة لحلول وسط، مثل تقديم تسويات جزئية أو تأجيل بعض البنود الخلافية لضمان تحقيق تقدم تدريجي.

نجاح الوساطة يعتمد أيضاً على الدعم الدولي والإقليمي، حيث تزداد فرص التنفيذ عندما تكون الوساطة مدعومة من قوى مؤثرة، كما حدث في صفقة تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، التي شاركت فيها أطراف دولية لضمان تنفيذها وتقديم ضمانات للطرفين.

باختصار، إن المفاوضات بين الأعداء لا تقتصر على تبادل المطالب فقط، بل هي عملية معقدة تتطلب تحقيق توازن دقيق بين الضغط والمرونة، وضمان وجود وسيط يتمتع بالثقة والحياد ويقدم حلولاً إبداعية لضمان نجاح الاتفاقيات، خاصة في القضايا الإنسانية مثل تبادل الأسرى، التي قد تكون الخطوة الأولى نحو إنهاء النزاعات الممتدة. وتالياً بعض أشهر الوساطات الناجحة في التاريخ الحديث:

وساطات ناجحة

مؤتمر يالطا وتقاسم النفوذ العالمي (1945)

خلال الحرب العالمية الثانية، تولت الولايات المتحدة، الاتحاد السوفيتي، والمملكة المتحدة، دورَ الوسيط في مؤتمر يالطا عام 1945. كان الهدف من المؤتمر تقاسم النفوذ العالمي، وإعادة تنظيم أوروبا بعد انتهاء الحرب. واعتمدت الدول الوسيطة على قوتها المشتركة، والتوافق في ما بينها حول مناطق النفوذ، لضمان الاستقرار الإقليمي والدولي.

وتعتبر هذه واحدة من أقوى أمثلة الوساطة، لا سيما بين الخصوم.

أزمة الصواريخ الكوبية (1962)

في ذروة الحرب الباردة، لعبت الأمم المتحدة والفاتيكان دور الوسيط لمنع التصعيد النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، خلال أزمة الصواريخ الكوبية. تضمنت الوساطة استخدام الدبلوماسية السرية وضمانات متبادلة، حيث تم الاتفاق على إزالة الصواريخ السوفيتية من كوبا، مقابل التزام أمريكي بعدم غزو كوبا وسحب الصواريخ الأمريكية من تركيا.

الحرب العراقية الإيرانية (1988)

بعد ثماني سنوات من القتال بين العراق وإيران، تدخلت الأمم المتحدة كوسيط لتحقيق وقف إطلاق النار. أصدرت قرار مجلس الأمن رقم 598، الذي دعا إلى وقف العمليات العسكرية وبدء مفاوضات مباشرة بين الطرفين. ساهم القرار في إنهاء الحرب بشكل رسمي.

وتعتبر الأمم المتحدة وسيطاً محايداً، وفق الممارسات الفضلى في العالم.

حرب البوسنة والهرسك (1995)

أنهت اتفاقية دايتون الحربَ الأهلية في البوسنة عام 1995 بعد وساطة أمريكية مكثفة. عُقدت المفاوضات في قاعدة دايتون الجوية، حيث تم جمع القادة المتنازعين للتوصل إلى تسوية شاملة. تضمنت الوساطة تقديم ضمانات أمنية ودعم اقتصادي لإعادة إعمار البوسنة وضمان الاستقرار.

الوساطات المصرية

لعبت مصر دور الوسيط بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية خلال النزاعات المتكررة في غزة. ركزت الوساطة على تحقيق الهدن، وتبادل الأسرى، مع تقديم ضمانات للأطراف لضمان الالتزام بالاتفاقيات.

الوساطات القطرية

موضعت قطر نفسها مؤخراً كوسيط ناجح في العالم، لا سيما مع الجماعات الإسلامية، وساهمت الدولة الخليجية في التوصل إلى اتفاق سلام بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في عام 2020. تضمنت الوساطة اجتماعات سرية واستضافة المفاوضات في الدوحة، مع تقديم تسهيلات لوجستية للأطراف المتفاوضة.