عزيزي العام القديم الجديد، يسعدني اليوم أن أكتب إليك بصفتك رقماً. أختبر معك شعور ترقيم الوقت، فنتساوى باعتباري فرداً يعيش في بقعةٍ شرق أوسطية، ولا يعدو أن يكون رقماً أيضاً. إذن... من أين أبدأ؟ كنت أود لو كنتَ أكثر لطفاً، مثلي حين كنت طفلة وكما علمتنا أمي. لكني في كلً يوم أكبر أراك تزداد جلافة، فيما عليّ أن أبقى كائناً أليفاً. تخدش ذاكرتي الجميلة تلك التي وضّبت فيها أرجوحتي وكوز الرّمان في دار جدّي، وزرعت فيها مساكب جوريّة، ولا تكتفي.
عزيزي العام القديم الجديد، كنت أوّد لو تعطيني بعض الوقت كالذي تعطيه للشيب في شعري، ليس فقط لأبحث في ذاكرتي عن أحلامي المنسية، بل لشيء أبسط من ذلك. كنت أريد بعض الوقت كي أدرك وكي أنسى.
تخيّل أنه قد انقضى أكثر من ثلاثين يوماً على وقف العدوان الشامل على لبنان، أحتفظ خلالها في رفوف قلبي بكثير ممّا أجّجه الخوف والنّار، لكنّني كتمته. لم تعطني مساحتي كي أصغي إلى ذاتي فأحاول تهجير مشاعري وندوبي التي تزعجني بعد عودتي إلى بيتي. اليوم، بصفتنا أرقاماً متساوية وبصفتك منكفئاً هالكاً، سأبوح بها علّها تتحرر منّي، أتحرر منّها وتحلّق بعيداً بعيداً.
عزيزي، خلال الستة وستين يوماً من العدوان، كنت أغفو ما أغفوه من الليل ملتصقة بطفلتي، أنظر إليها وأدعو ربي أن يبعد عنّا كلّ سوء. أتلعثم ثمّ أصمت. أتذكر الأمهات اللواتي يدعونه منذ أكثر من عام وفي كل لحظة، يسألونه أن يحميهن وأطفالهن من عدوّ دون رحمة، لكنهم مع الأسف رحلوا، أخشى ألا يسمعنا الله. قل عنّي ما شئت، لم يعد مهمّاً، فأنا من كرهت فيك عبثية الأشياء حتّى الدعاء، وأدركت كم هو صعب أن يعيش الإنسان قاحلاً دون أي أمل.
عزيزي العام القديم الجديد، كنت أوّد لو تعطيني بعض الوقت كالذي تعطيه للشيب في شعري، ليس فقط لأبحث في ذاكرتي عن أحلامي المنسية، بل لشيء أبسط من ذلك. كنت أريد بعض الوقت كي أدرك وكي أنسى
عزيزي، لست أدري من منّا كان سلبياً أو لا يزال، لكن بالتأكيد لا يمكنك ملامتي، فلقد كنت امتداداً لأعوامٍ تشبهك، كنت فضاءً فسيحاً يمتلئ خوفاً تلو آخر، حتّى صار ضباباً يحجب كل رؤية للحبّ والشغف.
صرت أخشى أن أحبّ تفاصيلي الصغيرة السعيدة، لأنك روضتني كي لا أنسى أنّي هنا مجرد رقم، وأن كل تفاصيلي الثمينة هذه لا تعنيك. خساراتها وتهديدها لا يعنيان أحداً، فألمي يؤلمني وحدي. لقد سلبتني مع أقرانك من الأعوام الفائتة أغلب أفراد عائلتي الذين انتشروا في أصقاع الأرض، يأساً أو بحثاً عن أملٍ أكبر، فصارت العائلة الكبيرة حدثاً موسميّاً يندر عاماً تلو الآخر كالمطر.
أعطيتني عالماً رديفاً كي تشغلني، عالماً مزيّفاً يحاول تصوير الحياة على أنّها شاشة جُمعت بياناتي فيها بتفصيلٍ ممل، حتّى صرت أكره هذا الهاتف. أحمله كمن يحمل نبضات قلبه، إن تركته يفوتك ما يقتلك خصوصاً بعد العدوان الأخير الذي رسّخ شعوري بسذاجتنا، نستخدم هواتفنا ونتشارك حيواتنا الشّخصية ومناسباتنا، فيتحكم عدونا بها كي يرعبنا ويمارس علينا أبشع حروبه النّفسيّة.
عزيزي، لقد فاض قلبي. أعطني بعض الوقت كي أبكي، عندي من البكاء الكثير
عزيزي، تبيّن لي مع مرور الأيّام أنك تلعب معنا لعبة السماسرة القذرة، وكأنّ بيننا ثأراً أو مشاكل شخصّية. يمكن للحظةٍ واحدة فيك أن تجهض ذاكرتي، رحم أحلامي، ثمّ تسلّف أعوامك القادمة كي تصنع ذكريات جديدة. يرهقني اللاتكافؤ في الوقت بين سرعة التّدمير وسرعة البناء والترميم، فيه لنا من الإجحاف الكثير.
كنت أعتقد دائماً أن الأطفال هم عصارة الفرح الصافي، إكسير الحياة البسيطة. كنت قد عاهدت ذاتي أن أرعى الطفل الذي فيها وأحميه من الوقت مع الوقت، كي تكبر سعادتي، لكن أكبر خيباتي هذا العام كانت حين وجدته شاحباً يذبل. كيف أرويه من ذاكرة تبدلت؟ من ذاكرة أعطتني سن الحمار وأخذت سن الغزال؟ كيف يحيا؟ أين يلعب؟
يؤلمني أنّ مساحاتي التي لطالما اعتبرتها هادئة صارت مليئة بالصّخب. أحاول كل يوم دون كلل أن أبني مساحات رديفة لي، فيها أهلي يكبرون دون همّ يكبرهم، أصدقاء لا زالوا طيبين، لي فيها أمل، طمأنينة وأمنيات. أعتصر خيبة حين أجد أن كتابة هذه الأمنيات صارت ترفاً، عملاً شجاع يحتاج إلى جهدٍ وقوّة.
عزيزي، لقد فاض قلبي. أعطني بعض الوقت كي أبكي، عندي من البكاء الكثير.
كنت أعتقد دائماً أن الأطفال هم عصارة الفرح الصافي، إكسير الحياة البسيطة. كنت قد عاهدت ذاتي أن أرعى الطفل الذي فيها وأحميه من الوقت مع الوقت، كي تكبر سعادتي، لكن أكبر خيباتي هذا العام كانت حين وجدته شاحباً يذبل
عاملني كالسماسرة لا يهم، ولكن دعني أبني ذاكرة جديدة. دعني أقوى على كتابة أمنياتي دون خوف، دعني أكذب وأصدّق أنّك ستكون عاماً جديداً. دعنا نخرج من دائرة الحسابات ونخلع أقنعة الأرقام المقزّزة، نسترجع هويتنا، فتصبح أنت عاماً جديداً وأكون أنا أمّاً وزوجة وإنساناً عادياً. دعني أروي الطّفل الذي نسيته علّه يعيد إليّ جزءاً من أحلامي وضحكاتي ومرحي. دعني أكون أمّاً تخاف خوف الأم الغرائزي لا خوفاً موجعاً من الأيّام. اعطني من الجرأة القليل، ومن الإيمان الكثير، بأن بنائي لشغفي وأشيائي التي أحبها وأرعاها لن يُهدم ويخدش مرّة أخرى.
كن رؤوفاً وارحمني من شعور الذنب بأنّي ولدت طفلتي في بلادٍ كهذه، اعطف عليها كما تعطف على الأطفال في بلاد العالم، حيث تسري حقوق الإنسان ولا اتهامات بمعاداة السّامية. حرّر نفسك وحرّرنا من خيباتنا وانكساراتنا وعجلة الحروب والأزمات الدائرة أقلّه منذ عهد أهلي، وافتح لنا طاقة لنحيي ما مات فينا. اجعلنا نفرح بالعمر يتقدّم بنا، نفرح بنفسنا نكبر، ونتلمس لذّة هذا الوقت يمضي، لا ننظر إلى ملامحنا ونسأل متى كبرنا كل هذا؟
عزيزي، أتمنّى أن تكون عاماً جديداً، جديداً حقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ يومl
Frances Putter -
منذ يومyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 3 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 3 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 3 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...
ماجد حسن -
منذ أسبوعيقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..