تتوجّه النداءات والتطمينات إلى الأكراد السوريين، داعين إياهم للإيمان بسوريا موحّدة للجميع، ويرسل السوريون إليهم خطابات تصوّرات حول مستقبلهم في العهد الجديد الحر، الذي يُفترض أنه سيغيب عنه الظلم والإقصاء. وبينما تصدر هذه التطمينات من إعلاميين ونشطاء فاعلين في الثورة الى جانب مشاهير، وجّه أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، الذي يتصدّر المشهد منذ الإطاحة بالأسد، رسالة تطمين ودعوة. قال الجولاني: "الأكراد هم جزء من هذا الوطن، وتعرّضوا للظلم كما تعرضنا نحن"، مشيراً إلى سعيه لإعادة المهجرين من عفرين، ومؤكداً أن سوريا الجديدة ستخلو من الظلم الذي عانى منه الأكراد خلال عقود من حكم الأسد.
لكن، هل يمتلك الجولاني أو غيره برنامجاً واضحاً يحدّد شكل العلاقة القادمة؟ وما هي إشكاليات هذا الخطاب "الأبوي" وخطاب "المواطنة" الذي يرحّب بالأكراد "الوطنيين"، مع تمييزهم عن الأكراد "الانفصاليين"؟
غياب خطاب الإبادة ووعد المواطنين الأكراد بالمساواة لا يعني بالضرورة فهم المسألة الكردية والحاجات السياسية الجمعية للأكراد أو أي مكون آخر في سوريا. وإذ إن سوريا اليوم تدخل حقبة جديدة، غابت الديموقراطية عن معظم تاريخها منذ نشأتها ككيان بهذا الاسم والحدود، فان الوضع يتطلب توافقاً وبناءً جديداً وفق عقد اجتماعي جديد، وإذا كانت الأرضية السياسية السورية غير ناضجة أو مؤهلة بعدُ للجموح بمخيلتها لخلق نموذج جديد قد يكون خاصاً بالحالة السورية، فلا مانع من العودة لبعض التجارب نسبية النجاح التي يمكن الاستفادة منها، دون استعارتها بالكامل.
ما هي إشكاليات هذا الخطاب "الأبوي" وخطاب "المواطنة" الذي يرحّب بالأكراد "الوطنيين"، مع تمييزهم عن الأكراد "الانفصاليين"؟
وقع شعب الماوري، أحد الشعوب الأصلية في نيوزيلندا، اتفاقاً مع حكومة البلاد عام 1840، تناول مسائل أساسية تتعلق بأحقية الشعب بالأرض والموارد وشكل الحكم، وذلك بالتوافق مع الملكية البريطانية آنذاك. لم تكن مثل هذه الاتفاقيات شائعة بين المستعمرين والشعوب الأصلية في مناطق أخرى، كأمريكا الشمالية، حيث لم يرَ المستعمرون حاجة للتفاوض وهم في موضع القوة.
رغم ذلك، لم تُطبق الاتفاقية بشكل فعلي، إذ كانت لها نسختان مختلفتان بكل لغة، ما أدى إلى نزاعات وحروب طويلة بين الطرفين. لكن الماوري استفادوا من إعادة فتح وصياغة الاتفاقية عام 2011 لتكون أرضية للوصول إلى صيغة حديثة، تضمن حقوق الطرفين ورضاهم بشأن الأرض والحكم. ما يميز هذه الصيغة أنها تفصيلية وغير تقليدية في تناول مختلف المحاور، رغم أنها لا تُعتبر معاهدة دولية، بل اتفاقاً سياسياً داخلياً.
ورد في نص الاتفاق ما يلي: "اتفقنا على ضرورة عدم الذهاب إلى حرب أو صراع مسلح، ليس فقط لأسباب أخلاقية، أو لأنها تعاكس مغزى الاتفاقية، ولكن أيضاً لأننا ندرك أنها الأفضل لتحقيق التنمية الاقتصادية والتطور لدولتنا".
يمكن اعتبار هذا العقد الاجتماعي، إن صح التعبير، أحد التجارب الفريدة والناجحة لدول لم تتشكل في سياق طبيعي، حيث لم ينمُ سكانها جنباً إلى جنب بشكل عضوي، لذا، تعدّ تجربة الماوري نموذجاً لإعادة تصور العلاقة بين شعوب متعدّدة داخل دولة واحدة.
لكن تجربة الماوري مع حكومة نيوزيلندا تأتي ضمن سياق استعماري مختلف تماماً عن سياقات منطقتنا. وهنا لا أدعو للنظر إلى القضية الكردية على أنها قضية "شعب أصلي"، لأنني أرى أن هذه المقاربة ليست مفيدة، كما أن الأكراد لا يفاوضون مستعمراً، بل يتعاملون مع سوريا التي تشكلت عقب سايكس بيكو، كدولة أمة ذات بنية غير عضوية، أسّست على أسس إقصائية، ولم يُتح المجال لكل الشعوب لتكون شريكاً مؤسساً لهذا الكيان.
إذن، يبقى السؤال: كيف يمكن للسوريين إيجاد إطار للعيش المشترك بعيداً عن صراعات ملكية الأرض، ومن خلال تأسيس علاقة متساوية قائمة على الاعتراف المتبادل؟
يحمل خطاب "الأخوة والمواطنة" الفضفاض والعام إشكاليات جوهرية تثير استفزاز المعنيين به. أولاً، يُختتم هذا الخطاب عادةً بعبارات عامة مثل "سنكون شركاء في هذا الوطن"، ما يبدو وكأنه ينهي النقاش دون الخوض في التفاصيل. وربما يُبرر هذا الخطاب قبل سنوات بحجّة انتظار سقوط النظام، أما اليوم فقط سقط الأسد، فلا عائق للوعود، بل ربما لخطوات عملية. يتسم هذا الطرح بنبرة أبوية تُسكت الطرف الآخر، حيث يغلق الباب أمام أي نقاش معمق حول طبيعة هذه الشراكة أو آليات تحقيقها، كما يُقزّم مسألة شعب إلى مستوى الأفراد أو أجسام سياسية معينة، ويُهمّش النقاش الوطني الأوسع، ما يعطي انطباع بأن القضية لا تستحق الاستفاضة أو التعمق.
ثانياً، يعتبر هذا التوجّه الهوية السورية "العربية" مسألة غير قابلة للنقاش أو المساومة، وكذلك الحال بالنسبة لشكل الحكم، الذي نادراً ما يُطرح للنقاش باستثناء أصوات معزولة. بهذا، تبدو الشراكة المطروحة مبنية على أسس هرمية تفرض مركزية تُصور سوريا كـ "شعب واحد"، بدلاً من الاعتراف بتنوع شعوبها وحضاراتها المختلفة.
هذا الطرح يصوّر المسألة الكردية وكأنها مطالب فردية من مواطنين متفرقين، بدلاً من الاعتراف بأنها قضية شعب يسعى ليكون شريكاً حقيقياً في بناء الدولة، ومؤثراً فاعلاً في تحديد هويتها السياسية وصنع قرارها.
وربما يكمن جوهر المشكلة في مركزية اتخاذ القرار، وهي إحدى القضايا الشائكة التي طرحها الأكراد مبكراً في الثورة، حين دعوا إلى اللامركزية كحل يمكن أن يناسب المرحلة الجديدة في سوريا. لاحقاً، تبنت أصوات عديدة هذه الدعوة، لكن المعارضة الرسمية، متمثلة في هيئات مثل الائتلاف والمجلس الوطني، رفضت هذه المطالب بشدة، مُحيلة النقاش حولها إلى "ما بعد انتصار الثورة".
في سياق متصل، فان حق المواطنة والمساواة لأي مكون لا يعني بالضرورة ضمان حقوقهم الدستورية، لأن تطبيق القانون بشكل عادل لا يعني ان القانون ذاته منصف في تكوينه. الضرورة الوطنية تتطلب مشاركة كاملة في وضع الدستور وضمان الحقوق الفردية والجمعية للجماعات والشعوب المشكلة للوطن الجديد.
مؤخراً، خرجت تصريحات من "هيئة تحرير الشام" تؤكد أن شرق سوريا سيخضع لإدارة مركزية، وأن الفيدرالية مرفوضة تماماً، وبالمثل، كانت مسألة عروبة الدولة من القضايا التي أبدت الكُتل الكردية خلال سنوات عشر ماضية تحفظها عليها، ضمن مختلف أجسام المعارضة. تستمر المعارضة، ضمن إطار أبوي، في انتقاء مجموعة من الحقوق التي تراها كافية للأكراد، متوقعة أن يكونوا ممتنين لها. يشبه هذا النهج تصرف الأب الذي يقرّر مقدار "الخرجية" لأبنائه، دون تمكينهم من المشاركة في اتخاذ القرار.
بعد سقوط نظام الأسد، لا يزال الأكراد في سوريا يطمحون للمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل البلاد، من خلال بناء سوريا جديدة قائمة على عقد اجتماعي وهوية سياسية شاملة
لم تكن رسالة الجولاني، مثل معظم التطمينات التي صدرت حتى الآن، خارجة عن هذا السياق. إذ ظلت تدور في الإطار العام ذاته، دون تقديم رؤية واضحة أو معالجة جوهرية لمطالب الأكراد ودورهم كشركاء حقيقيين في سوريا المستقبل.
مسألة تصنيف الأكراد بين "الوطنيين" و"الانفصاليين" تحمل بُعداً هزلياً، خاصة عندما يتجاهل هذا التصنيف حقيقة المسألة الكردية وتركيبة المجتمع الكردي. بل إن هذا التصنيف يعكس نظرة دونية لوجود الأكراد وتاريخهم في المنطقة. لم يكن الأكراد جزءاً عضوياً من سوريا كما هو الحال مع باقي المكونات، ومع ذلك، كان الأكراد لوقت قريب يحلمون بدولة أمة خاصة بهم، تماماً كما فعل جيرانهم. أجيال عديدة في سوريا نشأت دون معرفة اللغة العربية، وتعرفوا عليها لاحقاً بعد أن خضعوا لسيطرة البيروقراطية السورية.
علاوة على ذلك، لم يكن إلحاق محافظة الحسكة بسوريا أمراً مؤكداً بعد انهيار الدولة العثمانية. ومع ذلك، اختار الأكراد السوريون أن يكون الحل في بناء سوريا موحدة، إيماناً منهم بأن البناء الاقتصادي والخلاص المشترك يكمن في العمل ضمن دولة واحدة.
وفي مفارقة أخرى، يُنظر إلى الحراك السياسي في شمال شرق سوريا على أنه حراك انفصالي مدعوم من تركيا، في حين أن هذا الحراك كان يواجه تهديدات من قوى مدعومة من تركيا نفسها، التي سمحت للجيش التركي بالتوغل في الأراضي السورية.
يفترض الفرز السوري للأكراد بين "انفصاليين" و"وطنيين" خضوع الأكراد للدولة المركزية في دمشق تحت سقف "المواطنة"، دون تقديم شرح أو تفصيل لعقد اجتماعي جديد. ويُعتبر هذا الطرح بديهياً، ويجب على الأكراد أن يكونوا ممتنين له، لكن هذا الطرح لا يعكس بأي حال من الأحوال فهم المسألة الكردية، ولا يلتقط رغبة الأكراد في بناء عقد اجتماعي يشبه ما قام به شعب الماوري وغيره من الشعوب، تجنباً للصراع ولإبرام صفقة رابح-رابح، حيث يحظى جميع الأطراف بحقوقهم.
على العكس من ذلك، تُصرّ الحركات السياسية على فكرة "شعب سوري واحد"، وتعزّز بعض الثقافات الأقلوية والدخيلة، على شكل محاصصة طائفية أحيانا ونظام الكوتا أحياناً أخرى، تحت سقف هوية رئيسية واحدة، بدلاً من تبني فكرة "دولة واحدة بشعوب متنوعة" تعكس التنوع الثقافي والعرقي داخل سوريا.
سعت الحركة السياسية الكردية في سوريا، بتشكيلاتها المختلفة، منذ استقلال البلاد وحتى اليوم، إلى أن تكون جزءاً مؤسساً في بناء الدولة السورية. واليوم، بعد سقوط نظام الأسد، لا يزال الأكراد في سوريا يطمحون للمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل البلاد، من خلال بناء سوريا جديدة قائمة على عقد اجتماعي وهوية سياسية شاملة.
من المهم أن نتذكر أن العديد من الدول حول العالم استطاعت تحويل تعدديتها وتنوعها إلى مصدر قوة، ومع ذلك، يبدو أن السوريين، في مرحلة ما بعد الأسد، لا يزالون عالقين في البحث عن هوية سوريا من خلال تاريخها فقط، بدلاً من الاستفادة من تنوعها الحالي. إن تجاهل قضايا الجماعات السورية وهوياتها الفرعية أو التعامل معها باعتبارها قضايا ثانوية يُسهم في تعميق الشروخ الاجتماعية، ويعكس خطاباً إقصائي يذكّر بعقود البعث الماضية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sam Dany -
منذ يومانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ يوملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ يومينوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ 3 أيامالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياماهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع