شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
من بوابة التحرير إلى مفترق الطّرق... سوريا ما بعد الأسد

من بوابة التحرير إلى مفترق الطّرق... سوريا ما بعد الأسد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والطفولة

الثلاثاء 7 يناير 202511:21 ص

عاشت سوريا أكثر من ثلاثة عشر عاماً من الحروب التي غيّرت معالم الأرض والبشر. كنت خلالها أشبه بورقة تتقاذفها الرياح بين مدن تحترق وأخرى تترقب دورها. أحياناً كنت نازحة، وأحياناً أخرى لاجئة، وفي لحظات خاطفة كنت سائحة على شواطئ اللاذقية وطرطوس. هناك، على تلك الرمال، حاولت انتزاع دقائق من سلام زائف، بينما كنت أراقب أمواج البحر تحمل أسراراً لا يعرفها إلا من عاش الألم.

على الرغم من الحروب، كانت سوريا مقسّمة إلى عوالم متباينة؛ هناك من يعيشون داخلها، وهناك من يرونها من الخارج بعين تختلف تماماً. وكأننا نتحدث عن "سوريا" و"سيريا"، حيث يتسع الفارق بين واقع مليء بالدمار، وأحلام تملأها صور مرممة لا تعكس الحقيقة.

ولمن يسأل عن الفرق بين "سوريا" و"Syria"، فقد سبقني زميلي يوسف نعمان بتوضيح هذا الفرق في مادة كتبها هنا، عنوانها: "الاختلاف في البلاد نفسها، ما الذي يجمعنا نحن اليوم كسوريين"، يمكنك قراءتها لفهم كيف تبدو البلاد بشقّيها المختلفين، تلك التي نحياها وتلك التي يراها الآخرون من الخارج.

فرحة مؤقتة في ساحة الألم

خلال تلك السنوات الثقيلة، عشت تناقضات لا تنتهي، بين الجوع والبرد والألم، وبين لحظات خاطفة من السكينة والسعادة المسروقة. أحياناً، كنت أجد العزاء في صداقة أو حب عابر ومرّة أبديّ، وأحياناً في حضن طفلي الذي منحني أسباباً للبقاء وسط هذا الخراب.

ومع مرور الوقت، أصبح تمييز الوجوه السورية المهزومة موهبة أملكها. كنت أرى الهمّ مرسوماً كوشم على ملامح كل من حولي. كُتبت عنّا المقالات، ونُشرت الدراسات، كلها تحكي عن الألم الذي لا يرحمنا، عن أجيال تكبر تحت وطأة الحزن، وعن أمّة أصبحت موطناً دائماً لليأس.

 سقوط الأسد وفرحة التحرير

في أواخر عام 2024، شهدنا حدثاً كان مستحيل التصديق: سقوط الأسد. ذلك النظام الذي حكمنا بقبضة من حديد لعقود طويلة، انتهى حكمه فجأة. كانت لحظة تاريخية خرج فيها الآلاف إلى الشوارع يحتفلون بالتحرير، وكأنهم تخلصوا من لعنة أبدية. لعنة الخوف الدائم، لعنة المصير المجهول، لعنة التوديع كل يوم خوفاً من أن نفقد بعضنا البعض، لعنة الخوف من حرية الكلمة وحرية الرأي.

كانت لحظات مؤثرة، خاصة مع خروج آلاف المعتقلين من السجون، أولئك الذين كانوا رمزاً للمأساة السورية. رأينا وجوههم الشاحبة، عيونهم التي لا تزال تحمل أهوال الظلام، وحكاياتهم التي كانت شاهدة على الجحيم الذي عاشوه. كان الفرح طاغياً، لكنه لم يكن كاملاً.

أصبح تمييز الوجوه السورية المهزومة موهبة أملكها. كنت أرى الهمّ مرسوماً كوشم على ملامح كل من حولي. كُتبت عنّا المقالات، ونُشرت الدراسات، كلها تحكي عن الألم الذي لا يرحمنا، عن أجيال تكبر تحت وطأة الحزن، وعن أمّة أصبحت موطناً دائماً لليأس

خوف من المجهول

وسط فرحة التحرير، بدأ الخوف يتسلّل إلينا. إلى أين تذهب سوريا بعد الأسد؟ من سيحكم البلاد التي مزقتها الحرب؟ كيف نعيد بناء وطن انهارت مؤسساته وتهدمت علاقاته أكثر ممّا هو عليه؟

هناك من يرى أن سقوط الأسد هو البداية نحو مستقبل أفضل، وهذا حق، حيث تشرق شمس الحرية وتتحقق العدالة. وهناك من يخشى أن يكون هذا السقوط بداية لفوضى جديدة، أو صراع آخر يلتهم ما تبقى من سوريا، وهذا أيضاً حق.

مشاعر السوريين اليوم مزيج معقد من الفرح والقلق؛ فرحٌ بسقوط الطاغية، وقلقٌ من المستقبل الذي يبدو مظلماً وغير واضح المعالم. البعض يتحدث عن إمكانية بناء وطن جديد على أنقاض هذا الدمار، بينما يرى آخرون أن ما حدث مجرّد استبدال طاغية بآخر.

الخوف الأكبر هو أن تتحول سوريا إلى ساحة أخرى للصراعات الإقليمية والدولية. الدول التي دعمت المعارضة، والقوى التي تدخلت لإسقاط النظام، هل ستترك سوريا لتقرر مصيرها، أم ستقسمها مناطق نفوذ؟

الشتات الداخلي والخارجي

السوريون اليوم ليسوا فقط مشتتين بين الداخل والخارج، بل هم أيضاً مشتتون داخلياً بين الأمل واليأس. أولئك الذين ما زالوا داخل البلاد يعيشون واقعاً لا يمكنهم الهروب منه، بينما من هم في الخارج يشعرون بأنهم غرباء في أوطان جديدة لا تشبههم ولا ينتمون إليها.

في الداخل، يعيش الناس على وقع الشائعات والتكهّنات حول المرحلة القادمة. في الخارج، يتابع اللاجئون الأخبار بخوف وترقب، متسائلين: هل يمكننا العودة؟ هل هناك وطن ينتظرنا، أم أن العودة تعني مواجهة مصير مجهول؟

سوريا بعد الأسد: حلم أو كابوس؟

سوريا اليوم تقف على مفترق طرق. هل يمكن أن تتحقق الحرية والديمقراطية التي طالما حلم بها الشعب السوري، أم أن الطريق إلى المستقبل سيظل محفوفاً بالمخاطر والانقسامات؟

هناك مخاوف حقيقية من أن يتكرّر سيناريو دول أخرى مزقتها الحروب الأهلية، حيث يصبح الوطن مسرحاً للصراعات بين الفصائل المسلحة، وتتحول الحياة اليومية إلى كابوس دائم، من جهة أخرى، هناك من يؤمن بأن الشعب السوري، الذي صمد طوال هذه السنوات، قادر على بناء وطن جديد، إذا أُتيحت له الفرصة.

الأطفال الذين كبروا في ظل الحرب يحملون ذاكرة جماعية مليئة بالألم. هؤلاء هم أمل المستقبل، لكنهم أيضاً ضحايا الحاضر. كيف يمكن أن نبني وطناً جديداً بأجيال لم تعرف سوى الحرب والنزوح؟

الحرب لم تقتل الأجساد فقط، بل دمّرت النفوس والأرواح. بناء سوريا جديدة يتطلب أكثر من مجرد إعادة إعمار المباني؛ إنه يتطلب إعادة بناء الإنسان السوري، الذي يحمل جراحاً لا تلتئم بسهولة.

الأطفال الذين كبروا في ظل الحرب يحملون ذاكرة جماعية مليئة بالألم. هؤلاء هم أمل المستقبل، لكنهم أيضاً ضحايا الحاضر. كيف يمكن أن نبني وطناً جديداً بأجيال لم تعرف سوى الحرب والنزوح؟

إلى أين ستذهب سوريا؟

هذا السؤال هو الهاجس الأكبر لكل سوري اليوم.

الأمل ما زال موجوداً، لكنه هشّ. الشعب السوري الذي قاوم كل هذه السنوات، لا يزال قادراً على الحلم، لكن تحقيق هذا الحلم يتطلب وحدة وطنية حقيقية، وعدالة شاملة، ومصالحة تعيد الثقة بين أبناء الوطن الواحد، هذا وإن توحّد شعبه.

أنا كغيري في هذه البلاد، رضعنا الهمّ ولم تفطمنا سوريا عن همّها حتى اللحظة، تركنا الاستقرار منذ زمن بعيد، وتركنا معه الأمل. في كل مرة أظن أنني وصلت إلى وجهتي الأخيرة، أنني وجدت ملاذاً صغيراً أستطيع أن أُطلق عليه "بيتاً"، تأتي البلاد لتصفعني مرة أخرى. نحن لا نعيش لنخطط للمستقبل، بل لنبحث عن لحظة نلتقط فيها أنفاسنا قبل أن تعود العاصفة.

اليوم، ونحن نقف على أبواب مرحلة جديدة، لا أحد يملك الإجابة عن مستقبل سوريا. الفرح بسقوط النظام حقيقي، لكنه مشوب بالقلق والخوف من الغد.

نحن السوريين، أبناء الهموم الخالدة، نعلم أن الطريق إلى الحرية لن يكون سهلاً. نحن نحمل إرثاً من الألم، لكننا أيضاً نحمل أملاً خافتاً بأن هذا الوطن يستحق أن نكافح من أجله. في النهاية، ربما تكون الإجابة على سؤال "إلى أين ستذهب سوريا؟" هي في أيدينا نحن. نحن الذين عانينا، ونحلم بمستقبل أفضل، ونؤمن أن هذا الوطن، رغم كل شيء، ما زال يستحق الحياة.

 لكنني لم أعد أحلم. الحلم ترفٌ لم يعد يناسبنا نحن السوريين. نحن أبناء المأساة الدائمة، لا نحلم ولا نتوقع شيئاً، نحنُ فقط نترقّب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image