شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
شريط ذكريات وأوجاع لن تنتهي بجملة

شريط ذكريات وأوجاع لن تنتهي بجملة "هرب الأسد"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقيقة

الجمعة 3 يناير 202501:46 م

بعد الثالثة بقليل، حاولت النوم بعد أيام من الترقب والخوف الذي رافق سقوط المدن السورية كأحجار الدومينو، لتأتي مرحلة دمشق ويهرب من هرب صباح التاسع من كانون أول، بإشارة لإطلاق شرارة فرح غاب عن هذه البلاد، عندما توقفت وسائل  التعبير والتواصل لأكثر من أربع وعشرين ساعة، وتكفّل الرصاص بالمهمة في بلدتي ومساحة كبيرة على الجغرافيا السورية، فأيقظني من غفوة قصيرة ورعب كبير لأعرف ماذا حصل.

هل هو اشتباك و معركة داخل القرية؟ هل سقطت القطع العسكرية القريبة، وبدأ الأهالي بالنزوح كما حدث عام  2016؟ كل هذه الأفكار والهواجس اختفت مع عودة الشبكة وتوقفت يداي عن الرجفان عند بوست قصير: "هرب الأسد".

"هرب" كلمة كبيرة أعدتها مرات ومرات

تلقيت سيل أخبار من الشباب الذين كانوا أول  الواصلين للثكنات القريبة والمطار، لإخراج العناصر العسكرية  دون سلاح إلى منطقة آمنة، عكس ما حدث في معركة "الثعلة" في ذات العام، عندما تهاوى اللواء 56 وهرب جنوده باتجاه مطار "الثعلة"، وأخذنا نسمع القاذفات ودفاعات المطار وأصوات المعارك على التل المحاذي.

يومها نهض الأهالي ودخلوا المطار. حملوا السلاح وساندوا الجيش كي لا يسقط المطار، وتدخل العصابات التي سيطرت على درعا المجاورة، وكانت معركة مطار "الثعلة" الفاصلة بردّ العصابات عن أسواره. حينها كانت سوريا أكثر حصانة، وسقوط المطار كان يعني سقوط مدينة السويداء التي تعتبر البلدة أحد مداخلها، ووقف سيطرة  العصابات على المناطق والتعرّض للقتل والنزوح.

أذكر جيداً التفاف الناس. النساء اللواتي طبخن للجيش، والرجال الذين تبرّعوا بكل شيء ليبقى الجنود ولا يهربوا، وتعهّد الأهالي بتقديم كل ما يلزم من دعم وطعام وماء لتبقى دفاعات المطار قوية. هؤلاء الرجال والنساء هم اليوم من أيقظني رصاصهم وأهازيجهم فرحاً

قصة المطار الذي قضم أراض الفقراء

أذكر جيداً التفاف الناس. النساء اللواتي طبخن للجيش، والرجال الذين تبرعوا بكل شيء ليبقى الجنود ولا يهربوا، وتعهد الأهالي بتقديم كل ما يلزم من دعم وطعام وماء لتبقى دفاعات المطار قوية. هؤلاء الرجال والنساء هم اليوم من أيقظني رصاصهم وأهازيجهم فرحاً، ومنهم من حاول التجوّل في أرجاء المطار ذاته هذه المرة، ليخرجوا الجنود بعد سنوات من القهر والظلم والفقر، سلبت منهم الثقة والإيمان بمن يقودهم، ومن المطار ذاته الذي دحر عصابات داعش الإرهابية، عادوا ليطردوا الجنود بسلام وينقلوهم إلى أماكن آمنة. من المطار الذي بُني على أراضي القرية، واقتطع مساحة تجاوزت 200 دونم من الأراضي الزراعية الخصبة من ممتلكات الأهالي ومصدر عيشهم، وبنيت أسواره وأخذت الطائرات تقلع وتهبط سنوات، حتى حصل أصحاب الأراضي ومن خسر كل أراضيه على تعويضات لا تغني ولا تسمن من جوع، كما أخبرني أبي.

أعاد أبي القصة مع جدي الذي خسر مساحة كبيرة من الأراضي تجاوزت خمسين دونماً (الدونم ألف متر مربع) اشتراها بشق النفس، كصاحب دكان بسيط، عاونه أبي ذو الست سنوات، بالوصول إلى السويداء المدينة سيراً على الأقدام مع حمل ما تيسر من الحبوب والبيض، وكانت عملة ذلك الزمن، ليشتري بها عنباً وبعض المعلبات والحلاوة والتمر يعود بها إلى القرية. يبيعها ويتربّح. يعيد الرحلة مرتين أو ثلاثة في الأسبوع الواحد، لتتمكن العائلة من العيش وجمع ما يكفي لشراء الأرض، لتكون ضماناً للمستقبل، مثلهم مثل كل أهالي الضيعة القديمة التي عاشت شظف العيش والتعب، ولم تتمكن من  حماية ممتلكاتها في ظل قوانين استملاك لا ترحم سيادة أهالي البلد وحقوقهم.

صورة بعيدة في خيال الأطفال

أذكر مشوار المساء والتجول حول هذا المطار يصطحبنا فيها والدي بسيارة العمل،  يدلّنا من مسافة بعيدة على هنكار الطائرة، ونرى طائرات حربية. كنا أطفالاً  يذهل عقولهم كبر حجم الطائرة، إلى جانب صوتها المخيف في حال أقلعت، والذي تعودنا عليه في المنزل لأكثر من عقدين، وفي الأعياد وذكرى حرب تشرين، إحدى المناسبات التي ترمي بها الطائرات قصاصات ورقية تعايد السوريين، وتمجّد قائداً وجيشاً وما إلى ذلك من أساطير.

لم يكن المطار فحسب ما أكل أراضينا، بل أضيف له المساكن العسكرية، فالمطار يحتاج لسكن لعناصره وأسرهم، وكان قرار استملاك مساحة جديدة ملاصقة للبلدة من الشرق، اقتطعت كمساكن عسكرية منه بشكل طبع بصماته على حياة القرية ونظم طريقة عيشها بشكل واضح، مع خسارة جديدة قاربت أيضاً مائتي دونم جديدة من فلاحين جدد، في أكثر المناطق خصوبة، تسمى منطقة "حنانة"، وعلى وقع هذه التطورات تعايشت القرية مع واقع جديد: غرب البلدة مطار وشرقها مساكن عسكرية استقرت فيها عائلات الضباط والمجندين سنوات طويلة.

أما الشارع العام الذي أمارس فيه رياضتي المفضلة المشي مع عدد من أهالي القرية، والشارع الأكثر حيوية فيها كبلدة لم يتجاوز عدد سكانها لغاية هذا التاريخ 7 آلاف نسمة، حدّد أيضاً وقيّد بمرور الكبل العسكري لضمان اتصالات المطار وقطع عسكرية ومدفعية في مناطق مجاورة. بمعنى أنه لا يمكن الحفر لأي سبب  بجانب مرور الكبل الملاصق للشارع العام دون موافقة أمنية، وطبعاً الموافقات مقيدة بسلسلة من المعاملات التي تجعل الراغب بالبناء يتراجع عن أي مشروع بعد إرهاق المعاملات، وهكذا عاشت القرية قرابة نصف قرن بمظهر عسكري  واضح، وطبيعي أن تعبر القرية قوافل سيارات عسكرية، وبات مظهراً معتاداً.

متى صمتت الطائرات؟

المطار الذي شغل القرية وقضم مساحات من أراضيها وحلقت طائراته الحربية وهبطت عقودا طويلة، جمد أكثر من عشرين عاماً لا طائرات تحلق أو تحط إلا لظروف طارئة نهاية القرن الماضي،  بقي موطناً لهياكل طائرات وخلق سكونا غريبا لسنوات وسنوات ولم ينل اهتمام يذكر حتى أنه لم يوفر حماية للفلاحين الذين حرموا لسنوات من مزاولة الأعمال الزراعية في أراضيهم بمحيطه وتابع الصمت عن حمايتهم إلا في حال تعرض المطار نفسه لخطر أو هجوم.

في ساحة القرية، أشاد أهالي القرية نصباً يخلد معركة المطار، وأقيمت احتفالات بذكرى المعركة. لم أحضرها أو أشارك بها، لأنني لم أشعر أن معاركنا انتهت، وأننا أمام انتصار بهيئة خسارة، سنجني ثماره ونار الحروب تعسّ تحت الرماد

 مع استلام بشار الأسد للسلطة، نقلت أخبار مضللة بين الأهالي تفاءلت بتحويله المطار إلى مطار مدني، بخيال واسع وتوسّع من كل من يعيد القصة، لنحلم أننا في أحد الأيام سنستقبل مغتربين في هذه المطار، في قصص تناقلها  الأهالي فترة طويلة، لتكون النهاية تحويل المطار من مطار للطائرات الحربية التي بقيت هياكل غير قابلة للتحديث، كأحد مظاهر الفساد التي اعتاد السوريون قبولها كأمر واقع،  إلى مطار للحوامات، واختفى ضجيج طائرات الميغ للأبد، ونفّذت الحوامات جولات قليلة وصمت المطار، ولم نسمع ما يزعج هدوء مدارجه إلا ما ندر، وأخذ الإسكان العسكري بوحداته السكنية التي لم ترمّم يفرغ من سكانه عاماً بعد عام، وبقيت وحداته السكنية متفرقة، ومن بقي من سكانها  الضباط وأسرهم حاول استثمار ما يحيط به من مساحة بزراعة الخضار أو تربية الدجاج وغيرها، أو خرج للعمل في القرية في مواسم قطاف الزيتون أو الحصاد، ولا تستغرب وجود أحد الضباط والعناصر عمالاً في ورشة قطاف لتحسين الدخل والعيش الكريم. 

النهاية

ليلة السقوط، أخبرني من دخل المطار ليلة السقوط، أن كثيراً من الشباب من القرية وخارجها تجولوا في الندوة والمخازن، وشاهدوا أدوية ومواد غذائية، منهم من حمل بعض السكر أو الأرز، ومنهم من جمع بعض المعدات الصغيرة في صورة اختلفت عن ليلة المعركة، عندما توجهوا يحملون الطعام الماء للجنود ليتمكنوا من الصمود، لكنهم اليوم لا يريدون ذلك، لأن النصر السابق كان وهماً بالنسبة لهم، ومعاناة السنوات التي تلت المعركة تكفيهم ولابد من التغيير.

في ساحة القرية، أشاد أهالي القرية نصباً يخلد معركة المطار، وأقيمت احتفالات بذكرى المعركة. لم أحضرها أو أشارك بها، لأنني لم أشعر أن معاركنا انتهت، وأننا أمام انتصار بهيئة خسارة، سنجني ثماره ونار الحروب تعسّ تحت الرماد، وكل يوم تطالعنا أخبار انكسار جديد مع هجرة الأبناء وضيق الحال الذي بات عنوان المرحلة، وعجزنا عن الحصول على أهم متطلبات الحياة ومظاهر الفقر والحاجة وانقطاع الماء والكهرباء والمحروقات والغلاء، جعل الاحتفال احتفالاً شكلياً لا ينسجم مع واقع الحال، وحزناً عمّ البلاد، لم أتمكن كصحفية من توصيفه كما يجب، لأحكي عن عدد من المنازل لم يدخلها رغيف الخبز وجرّة الغاز وسترة الشتاء وعلبة الدواء إلا على شكل معونة من أهل الخير، مثلهم مثل آلاف الفقراء الذين طحن على ظهرهم صخر الحياة وقهرها، لتختتم القصة بكلمة "هرب" دون تبرير أو اعتذار عن سنوات القهر تلك.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image