شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
فصل من رواية

فصل من رواية "الفراودة"... سيرة الفقد والإلهاء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 4 يناير 202512:38 م

تصميم حروفي لكلمة مجاز

كانت الشمس تواصل رحلتها في الانزلاق خلف المنازل، بعد عصر طويل وثقيل، متجاوزة فاصل نخيل الحد الغربي، ومسرفة في الابتعاد، عندما استيقظت القرية على خبر اختفاء الرجل، ومعه كريم خطيب ابنته، ما زاد الأمر غموضاً، لا سيما أنها ليلة كتب الكتاب.

كان حديثاً مدوياً تعجّ به الأركان والطرقات والربوع، وتردّد السؤال في المقاهي والمزارع، وفي أحضان الأسرّة ومجالس السمر، وحتى الأطفال في الشوارع، دون أن يعرف أحد أين ذهب اثنان من أفضل رجال القرية، في ظروف غامضة وبليلة واعدة كتلك، للدرجة التي جعلت البعض يتطوّع لاختلاق القصص والحكايات، تلك الحكايات التي تحولت مع مرور الوقت إلى أساطير بأن نادتهما النداهة وهما على الطريق، فهرعا إليها تاركين الجمل بما حمل، كما قال البعض إن حوريات - النهر بما أننا قريبون من النهر - قد جذبتهما، وعليه لم يستطيعا تجاهل جمال الحوريات وسحرهن، حتى ذهب بهم الخيال وخلصت النتائج إلى أنهما ذهبا لملاقاة ظهرانيهم من الصالحين الأولين، وسيعودون جميعاً للعمل على سيادة العدل والقانون.

كانت تلك التساؤلات والتفسيرات تطفو على السطح طوال الوقت، خاصةً بعد الحالة التي تُرك عليها الرجلان "عناية"، تلك المسكينة التي تمسكت بحضورهما، فظلت لأكثر من عشرة أيام في مقعدها لا تغادره، حتى تيبست أطرافها، فلجأوا للشيخ عبد القادر، حتى يعاونهم في المصيبة التي حلت بأجمل جميلات القرية، ولكنه راح يحوقل ويهلّل، ثم استسلم لعجزه، ودعا الله لها وتناول النقود من الأم المكلومة وانصرف.

لم يصدق أحد من عقلاء القرية ما حدث، ورغم ذلك كان الشك يجري على أشد ما يكون، في شوارع القرية ودروبها، فالناس الذين يرفضون تصديق الأمر، راقبت عيونهم "عناية" وهي تذبل، فأطرافها التي كانت دائماً موضع حسد وغبطة، فقدت حيويتها، وانطفأ بريق عينيها كطائر مغدور، حينها عمدت الست وداد إلى التدخّل، وعرجت على مستوصف على مشارف القرية به طبيب شاب ذاع صيته في علاج العظام بعد الحوادث أو التوعكات الصحية، كانسداد الشرايين والجلطات التي تسبب مشاكل لا حصر لها بالحركة.

قبل زمن طويل كانت القرية تقدّس أمور الزواج ومتطلباته، تصنع صيغة متفقاً عليها، لإضفاء المعنى والسعادة على حياة صعبة. تمتص الحزن الذي قد يسكن القلوب، محولة إياه إلى فرح، لكن بعد الحادثة، تحول الغضب إلى مادة سائلة في العروق والأوردة... مجاز

أتى الرجل ليتفحص الفتاة، فوجدها جميلة كرسومات فينوس، رمز الجمال والخير الرومانية. راح المسكين يمارس عمله كالمسحور، وأنا أراقبه بدقة، بحكم وجودي الدائم آنذاك في منزل الحاج جميل. صارت كفاها متيبستين كالجليد، وكانت هي متصلبة النظرات على صور أبيها وخطيبها المعلقة على الحائط، ولا شيء يتحرّك بها سوى فكيها اللذين يطبقان على علكة لا تغادرهما بصورة آلية،.

ربما نجح هذا الطبيب في عمله بسبب تبرّكه باستجابة هذا الجمال له، والذي أبى أن يستجيب للدجّال الذي سبقه، فالجمال انتقائي بطبعه ولا تنطلي عليه أكاذيب النصّابين وتجار الكلام، وحتى في أشد اللحظات وهناً، يأبى الجمال أن يُمسّ من قبل التقوى المزيفة. توالت زيارات الطبيب بعدها حتى تجاوزت الثلاثين يوماً، شهد الجمال خلالهم تحسناً لا تخطئه عين، ورجع الطبيب إلى حيث كان، وعدتُ أنا ولسوء حظي إلى عملي، فبرغم قلقي المميت على "عناية" طوال فترة مرضها، إلا أنني شعرتُ بتعاسة وخيبة أمل هائلتين لعدم تمكني من دخول المنزل ثانيةً، خاصة وقد خلى البيت من ربه. لملمتُ نفسي داخل عاهتي وعدتُ من حيث جئتُ.

الأيام التالية أصابت الجميع بالدهشة، فبالرغم من خفوت التساؤلات عن اختفاء الرجلين إلا من أسرتيهما اللتين راحتا تضمان الحزن بالأحشاء، مكتفيتين بالاستمرار بالحياة مع أمل لم ينقطع دوماً بعودتهما، ظلت الحكايات قائمة، فالقرية لم تجد أية مشقة في إيجاد موضوع للتندر والحديث. لا أبالغ عندما أقول إنني شاركتهم بالتعجب والدهشة من هذا الكم الهائل من الزيجات الفاشلة التي تنتهي قبل أن تبدأ، لأسباب واهية وربما مضحكة، وكأنما لعنة حلت بالقرية بعد اختفاء الرجلين.

الدهشة هنا لها أصل وسبب، فقبل زمن طويل كانت القرية تقدّس أمور الزواج ومتطلباته، تصنع صيغة متفقاً عليها، لإضفاء المعنى والسعادة على حياة صعبة. تمتص الحزن الذي قد يسكن القلوب، محولة إياه إلى فرح، لكن بعد الحادثة، تحول الغضب إلى مادة سائلة في العروق والأوردة، والحزن الذي كان محدوداً ولا يتجاوز تفاصيل القرية وأمورها، ظل يكبر ببطء، حتى تحوّل إلى إحباط بسبب عجز غير مفهوم، فالست هانم وابنتها اللتان تقطنان المنزل الذي يقابل الترعة، كانتا قد انتهيتا من إتمام جميع تدابير الزواج الخاصة بالفتاة التي تتمتع بدلال لا يقاومه أي رجل راشد، وقد بذل خطيبها مجهوداً كبيراً لإقناع الست (هانم) بإتمام الزواج سريعاً بسبب شوقه الجارف، ولكنها كانت تماطل، خاصة وأن الفتاة صغيرة وهو ليس من سكان القرية، وبموافقة الأم بعد محاولات عديدة، كان الرجل يعد العدة لنعيمه الوشيك ورغبته التواقة، وبات يحصي الأيام بعدد الساعات كي يأتي يومه الموعود، ولكنه باغت الأسرة والقرية بأكملها بفسخ الخطبة، متحججاً بأنه اكتشف الآن وفجأة بأن الفتاة لا تزال صغيرة وقد تجد من هو أفضل منه. لم تكن ابنة هانم البنت الوحيدة التي تُركت قبل زفافها لأسباب كتلك.

ابن الناظر مثلاً ذاق هو الآخر ما حلّ بقريتنا، فقد تركته خطيبته قبل إتمام حفل الزفاف بساعات معدودة، لعدم حضوره عيد ميلاد أبيها الذي سبق الزفاف بأيام.

كانت أخبار فشل الزيجات وعدم اكتمالها هي حديث الناس وشغلهم الشاغل، ربما أكثر من قصص الزواج نفسه، بل إنهم صاروا يعقدون الرهانات على استمرار أي زيجة لمدة معينة، وظل الحال هكذا إلى اللحظة الحالية؛ لا اكتمال لخطوبة، وفي أحسن الأحوال كان الأمر لا يرقى سوى إلى التحضير لكتب الكتاب دون كتب الكتاب.

تنوعت الدوافع والمبررات المؤدية لفشل الزيجات، كما اختلفت الأساليب الخاصة بكل علاقة في طريقة الإنهاء، وبالنهاية تعدّدت الأسباب والفراق واحد.

صارت أزمتنا تلك مصدر ثروة شيخ قريتنا (عبد القادر)، فمصائب قوم عند قوم فوائد، لم يخل منزل الرجل يوماً واحداً على مدار عقد كامل، بل صار كملجأ للمهمومين والموهومين من قريتنا، فهُدرت مئات الآلاف من أمتار الخيش والشيت على صناعة الأحجبة باهظة الثمن، التي لفجاجة انتشارها، صرتَ تتعثر بها بالطرق في وضح النهار.

توضع الأحجبة أسفل المصاطب والموكيتات، ثم تطور الأمر، فأصبحت تُقذف من أفاريز النوافذ لتتناولها السيدات اللائي يعملن بمنازل العرسان، وبموافقة العرسان أنفسهم، ليضعنها أسفل الوسائد، ولكن دون أن يعرف الميعاد أو مكانها بالتحديد كي يسري مفعولها، وكل ذلك العبث بلا جدوى.

كانت العلاقات تستمر لنقطة يوم كتب الكتاب في أفضل الظروف، ولكن ليس اعتماداً على الأحجبة فقط، فلكل شيء ثمنه، إذا أردت أن تستمر علاقتك لتلك المرحلة الصعبة عليك أن تدفع دم قلبك في الأعمال، وكان الشيخ عبد القادر بارعاً في الإقناع، حيث يقوم بتوزيع نوعية الأعمال التي سيعتمدها لكل شريكين بحسب نسبهما وثروتهما والتعليم الذي تحصلا عليه، وطبيعة عملهما ومقدار ما يجنيان شهرياً، ثم توسع التصنيف ليشمل لون البشرة والشعر والعيون والطول والوزن، وساعدته على ذلك ثروته، فأتى بالمساعدين وفتح مركزاً متخصصاً لاستقبال الطلبات، واستورد أحدث المعدات لقياس الوزن بطريقة الـ "إن بودي" التي تعرض حساب كتلة الشحوم والمياه والعظم والعضلات بشكل تفصيلي، كانت تلك التحليلات الدقيقة تخضع للفحص والاختبار، ويُحدد بناءً على نتيجتها العمل الذي سيصنع لكَ.

توضع الأحجبة أسفل المصاطب والموكيتات، ثم تطور الأمر، فأصبحت تُقذف من أفاريز النوافذ لتتناولها السيدات اللائي يعملن بمنازل العرسان، وبموافقة العرسان أنفسهم، ليضعنها أسفل الوسائد، ولكن دون أن يعرف مكانها بالتحديد كي يسري مفعولها، وكل ذلك العبث بلا جدوى... مجاز

لن أكذب عليكم وأدّعي أنني لم أكن منبهراً بطريقة الشيخ عبد القادر، فقد كان خطيراً، لم يكن ليتخلى عنه يوسف شاهين ليصبح بطلاً لفيلمين أو ثلاثة من إخراجه، وساعدته هيئته في اكتمال "عدة الشغل"، فهو يشبه رجال "الطوارق" في سمرة البشرة واحتفاظه بلثام بلون أزرق نيلي يكتفي بلفه من رأسه حتى ذقنه، بينما يفرد قامته النحيلة والمنتصبة أعلى حصانه، ليجول في القرية بعينيه الحادتين اللتين تعملان كرادار لا يخفق هدفه.

يخرج الشيخ في الظهيرة يفوح العطر الزاعق من أعطافه، مرتدياً جلباباً من اللينو الأزرق، وأساوره مزدانة بأزرار من أحجار كريمة، وفي معصمه الأيمن ساعة رولكس، وممتطياً ظهر فرسه الذي يضرب بسنابكه الأرض ويقابل الناس مبتسماً وقوراً :" أنت يا فلان. ظهرت أخيراً نتيجة الاختبار، حنلجأ في حالتك أنت وخطيبتك إلى الأعمال البحرية، أنت يا محظوظ مبارك عليك مش حتحتاج أكثر من فتح مقابركم لنا عشان نعملكم عمل مقابر إنما إيه".

كنتُ بطريقي للمنزل، عائداً من مدرستي في ظهيرة أحد الأيام القليلة الحارة بقريتنا، إذا بنجمنا الساطع "عبد القادر" يظهر مقربة الجبّانة بفرسه، ملقياً السلام على شرذمة من أتباعه من الدهماء وهم يقفون لاستقباله بحفاوة، من أجل فتح المقبرة لصنع عمل في إحدى مؤخرات الأموات المساكين، وإذا بمجذوب يندفع في وجه مقتحمي القبر من المتطفلين، حيث كان يفترش جوف المقبرة، وارتاع من الالتفاف المباغت لهذا الجمع المرموق، فانطلق كالسهم الذي ضلّ هدفه، وإذا بالمهاويس من أتباع عبد القادر يتقافزون ويتقاطعون بأجسادهم رعباً، ليسقط آخر صبرنا "عبد القادر " أعلى فرسه، منكفئاً على وجهه، كزرع البصل من هول المفاجأة، فعاد الجميع لإسعافه منشغلين عن المهمة الأساسية التي حضروا لإنجازها.

هكذا ظللنا، مئات الخطبات التي لم تتمّ وعشرات القصص انتهت قبل أن تبدأ، حتى أن السجل المدني لقريتنا لم يسجل حالة زواج واحدة منذ أكثر من تسعة أعوام، لكن شاهندة؛ معجزة القرية المؤجلة أعلنت عن موعد زفافها فجأة، محتمية بأمها ورجاحة عقلها، لا سيما وأنها المرأة التي نبذت عبد القادر في جميع مراحل ارتباط ابنتها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image