يستعرض أحد مشاهد فيلم "Frida" لحظة الممارسة الحميمية الأولى التي جمعت الرسامة المكسيكية "فريدا كاهلو" بحبيبها "دييجو"، ويصوّر المشهد شعور القلق والخوف الذي اعترى فريدا في هذه اللحظة التي بدأ فيها دييجو يتطلّع إلى جسدها العاري ويعاينه، فهي كانت خائفة من نفور حبيبها منها وعدم تقبّله لها عند رؤيته ما في جسدها من آثار لخياطة جراحية، نتيجة العمليات التي خضعت لها جراء حادث الحافلة التي تعرضّت له.
في ذلك المشهد، تكشف فريدا لدييجو عن آثار الجرح التي في جسدها، وتقول له: "أنا عندي ندبة"، فيدقّق دييجو في مكان الجرح ويقول لها: "أنتِ مثالية".
يأخذني ذلك المشهد دائماً إلى التفكير في جسدي، وفي واقع الإعاقة الحركية (في اليدين وتأثير على الوظائف الحركية الأخرى في جسدي) التي صاحبت ولادتي، بسبب نقص أكسجين وشلل دماغي أصابني وقتها. أفكّر في إعاقتي كشكل من أشكال اللامثالية الجسدية، وأستدعي تفاصيل علاقتي بجسدي وتطلّعي إليه، ومشاعري المتناقضة تجاهه، ثمّ أتأمّل أحواله مع الحبّ ومدى استحقاقه له، وأقول في نفسي: "جسدي اللامثالي يصلح أيضاً للحبّ".
في تطلّعي إلى جسدي في المرايا، أميل دائماً نحو رؤيته بعين الرجل الفنان الذي يسكنني، وأميل لإظهار تقديري وانبهاري بتفاصيله وتقاسيمه الأنثوية، وأعلن أمامه في كلّ مرة أتطلّع فيها إليه: "كم تعجبني تقاسيمك الأنثوية، وكم أكره مظاهر النقص التي فيك"
أحبّ جسدي الأنثوي وأكره إعاقته
في مرّة من المرات، ارتدت محلاً لأشتري بعض الحاجيات، فباغتتني البائعة بعبارة غزلية لطيفة وقالت لي: "ما يبلى الأحمر عليكي، وشو بيلبقلك اللبس"، أذكر يومها أنني شعرت بسعادة عارمة لقولها، وأنّني عدت إلى منزلي، وجلست أتأمّل في سرّ تلك السعادة التي أصابتني وأنا أسمع إطراءها.
أذكر أنّ تأمّلي قادني يومها إلى عبارة سيلفيا بلاث التي تقول فيها: "أنا جزئياً رجل، أنتبه إلى أثداء النساء وأفخاذهن بعين رجل يختار خليله، لكن ذلك هو الفنان فيّ وهو موقفي التحليلي إزاء الجسد الأنثوي"، وفكّرت بأنّه ربّما يكون ما أعجبني في قول المرأة هو كيفية نظرتها إلى الجسد الأنثوي، وتقديرها له، وإمعانها في تفاصيله المجرّدة. أعجبني فيها ذلك الفنان الذي يسكنها ويلهمها نظرتها إليه وتقديراتها حوله، وربّما أن أكثر ما أعجبني في عبارتها هي أنّني وجدت فيها شيئاً يشبهني في سعيي الدائم نحو إظهار تقديري للجسد الأنثوي وإنصافه، عبر النظر إليه نظرة فنية فاحصة، تمعن فيه باحثة عن جمالياته المخبوءة.
في تطلّعي إلى جسدي في المرايا، أميل دائماً نحو رؤيته بعين الرجل الفنان الذي يسكنني، وأميل لإظهار تقديري وانبهاري بتفاصيله وتقاسيمه الأنثوية، وأعلن أمامه في كلّ مرة أتطلّع فيها إليه: "كم تعجبني تقاسيمك الأنثوية، وكم أكره مظاهر النقص التي فيك".
الرجل في مجتمعاتنا العربية، لا يختار زوجته وحيداً، بل تشاركه في الاختيار أمه وأخته وخالته وعمته وجدته وغيرهنّ من نساء العائلة
هل يقوّض جسدي اللامثالي أحلامي كفتاة شرقية؟
في نظرتي إلى جسدي اللامثالي، أستذكر مقطع من أغنية لماجدة الرومي تقول فيه: "لوعودٍ راحت ترسمها أحلام فتاةٍ شرقية"، وأحدّث نفسي بأنّني لا أختلف في أحلامي عن أي امرأة وفتاة شرقية أخرى، فأنا أيضاً أحلم بزوج ومنزل وعائلة.
لكنّني، ولأغراض واقعية، أفكّر بأنّ الرجل في مجتمعاتنا العربية والشرقية الخاضعة لمنظومة بطريركية أبوية، لا يختار زوجته وحيداً، بل تشاركه في الاختيار أمه وأخته وخالته وعمته وجدته وغيرهنّ من نساء العائلة. يخطر على بالي حينها مشهد رجل يحبّني، ويحاول إقناع سيدات العائلة بقبول مسألة الارتباط بي، فتصدح إحداهنّ: "شو قلة بنات في البلد"، وتصيح أخرى: "ما لقيت غيرها"، وتقول ثالثة: "دوّر عغيرها".
أفكّر في مشهد صيحات نساء العائلة، وحيرة الرجل الذي يحبّني أمامها، وتوهانه في معمعة بديلاتي الكثيرات، ذوات الأجساد المثالية، اللواتي تطرحهنّ قريباته عليه كما لو كان تلميذاً عندهنّ، قصّر في أداء واجب اختيار زوجته وعليه أن يعاقَب بالإملاء هذه المرة، وحرمانه من حقّ الاختيار.
ربّما أنّ جسدي اللامثالي ليسَ هو المسؤول الأول عن تقويض أحلامي، كامرأة شرقية، في زواج عادي وطبيعي، أشبع عبره عواطفي وغرائزي وشهواتي، ولعلّ المسؤول حقاً هو وجوده ضمن نظام بطريركي أبوي، مليء بالرجال الجبناء الذين تزوّجهم أمهاتهم.
أتطلّع إلى ذلك الرجل الذي يستطيع أن يبصر الجمال في جسدي اللامثالي، ويحبّه كما هو، لأنّه يحبّني، ويقول لي مستلهماً قول دييجو لفريدا: "كم تبدو لامثالية جسدكِ مثالية بالنسبة لي"
جسدي اللامثالي يصلح أيضاً للحبّ
يقول نزار قباني في مقطع إحدى قصائده: "قولي أحبّك كي تزيد وسامتي بغير حبّك لا أكون جميلاً"، وفعلاً أرى بأنّ نزار لم يخطئ عندما افترض أنّ وسامته عند من يحبّ تأتي مقترنة بهذا الحبّ، وكأنّها محكومة به، مقيّدة بشرطِ حدوثه، وكأنّها اختراعٌ تبتدعه أعين الحبيبة عندما تحبّ، وابتكارٌ تكتشفه نظراتها عندما تعشق، وكأنّ الوسامة هي حالة طارئة على الرجل، لا تأتي معه عندما يخلَق، وإنّما تنبثق فيه فجأة عندما تخلقها له أعين عاشقة تراه كما لا يراه الآخرون.
إننّي أعجبْ لأولئك النساء اللواتي يحببنَ رجالهنّ لكونهم وسيمين قبل كلّ شيء، أعجب لهنّ كيفَ يَستطعن أن يقدمن الوسامة على الحبّ، أو كيف يمكنهنّ أن يرين الوسامة في رجالهن قبل الحبّ. إننّي أنظر إلى الرجل الذي أحبّ، فأراه أكثر الرجال وسامة، لكنني أقول له: "لو لم تكن هذه الوسامة وسامتكَ أنتَ لما كنت قد لاحظتها حتى. إنّها جزء صغير من وسامة كلّية شاملة، ظاهرية وباطنية، لم تكن فيك حتى خلقتها أنا عندما أحببتك".
وإنني أعجب كذلك من الرجال الذين يحبون نسائهم لكونهنّ جميلات قبل كلّ شيء، أعجب لهم كيف يستطيعون تقديم الجمال على الحبّ، أو كيف يمكنهم أن يروا الجمال في نسائهم قبل الحبّ، وكم أتطلّع إلى ذلك الرجل الذي يستطيع أن يبصر الجمال في جسدي اللامثالي، ويحبّه كما هو، لأنّه يحبّني، ويقول لي مستلهماً قول دييجو لفريدا: "كم تبدو لامثالية جسدكِ مثالية بالنسبة لي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 5 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه