شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
إذا مسّت أناملك جلدي

إذا مسّت أناملك جلدي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 14 ديسمبر 202411:58 ص

تصميم حروفي لكلمة مجاز

 

أنام من البُكاء، وبلهيب نيران تشتعل في جوفي. أنام والألم يعصر قلبي، وكلمات تسري كالسم في دمي. أريد أن أختفي إلى الأبد. أريد أن يتوقف هذا الألم عن ذبحي.

 أستيقظ من النوم فزعة، أمد يدي وألمس فراغاً هائلاً يجثم على قلبي و يغلي في دمي. يتسلل الفراغ إلى خلايا جسدي، يملؤني ويُثقل كاهلي، يضيع في نتوءات وعظام نيئة. يترسّب الفراغ في روحي. ألهذا خُلق الحُب؟ لكي تمد يدك خائفاً ومُرتجفاً، فتجد يداً أُخرى تغرس أصابعها في أصابعك، وتتشابكان في الظلام؟ يخفق قلبي في اضطراب وشجن. أرتعد كأن كل البشر هجروني، وتركوني أتعفن كثمرة صيفية.

أقبض على قلبي الواهن، وأشد يديّ عليّ، وأحتضن نفسي. أشتاق إلى جسد يعانقني ويخشى إفلاتي منه. أشتاق إلى جسد لا أعرفه. أشتاق إلى جسد لأعرفه، يألفني، ويحن إليّ.

في الحلم، أنظر إلى ابن لي، مُسجى بالدماء على حافة سريري، يمتد حبله السُري بيننا. أنزع الغطاء عني، وأقطعه بالمقص. يبكي، أهدهده. ألقمه وردة أو سحابة بيضاء. أرغب في نزع أحشائي عني، لولا أنه خُلق بداخلها.

بكيت ليالي طويلة، وأنا أتخيله يتكور داخل رحمي ويصير كائناً حياً. بلين، أتلمّس رحمي الخالي، رحمي الجائع، وأقول متى تأتي؟ متى تكف عن الغياب؟ ألم يلوعك الغياب مثلي؟ ألا تشتاق إلى أمك؟ ألا تشتاق إلى ملجأ/ وطن لتسكنه؟ ألا تعرف أنني أجلس بانتظارك؟ أبصرك في العيون المشتاقة، وفي الأجنة الميتة، أراك محمولاً على أكتاف الغرباء، يهرولون بك إلى مقبرة أو حديقة خضراء، فأفتقدك.

أدخل إلى البيت، وأفتش بين ثيابك عن رائحتك. رائحتك الطيبة الهنية، رائحتك البرية. أبحث في كرتونة ألعابك، وبين أبطالك الخارقين، أرتب لك أغراضك القديمة، و أشتري لك دُمى جديدة وملابس للشتاء.

أبعث لحبيبي رسالة، أحكي له فيها كابوسي، فيرسل لي جملة مقتضبة: "لا تخافي"، فأخاف أكثر. أريد حُباً لا يهشّ خوفي بينما يشرب نبيذاً أحمر... مجاز

أُخبيء لك نور الشمس في جفنيّ، أُخمّر في كفوفي حبات عنب، أحبس ملاك الموت في صندوق، وأبعده عنك. أخبز لك المخبوزات الفرنسية، وأحتفظ بهما تحت سريري. ألمّ نظرات العيون واللمسات الحنونة في قلبي، قلبي المزدهر، أغزل لك محبة بحجم الكون، وأكبر. أُخزن من أجلك آلاف الأحضان. أتوسّل لك أن تأتي، أن تعود، أن ألمس وجهك، وأمشط شعرك. أشتاق إليك. هل مررت من هُنا مرة؟ أفيق، ولا أشعر سوى بالدموع تتدفق على مُقلتي، وصوتك يهمس لي بأنك هُنا، جئت أخيراً، ورحلت.

عندما يكف طائر الموت عن الطنين في أذني

في الظُلمة، ما زالت يدايّ فارغتين، وشفتاي مضمومتين في يأس. قلبي يخفق في وجل. يطول بي الليلّ، هذا الليل تحديداً. تتلاشى الأصوات من حولي، و وحده صوت الخوف يدبّ في صدري. أرى الخوف وحشاً يأكل رقبتي، وينهش لحمي، يدبّ بسنّ بارزة في وجهي، ويغرسها، فاستسلم له. أبعث لحبيبي رسالة، أحكي له فيها كابوسي، فيرسل لي جملة مقتضبة: "لا تخافي"، فأخاف أكثر. أريد حُباً لا يهشّ خوفي بينما يشرب نبيذاً أحمر.

أريد (عندما أرغب في الحياة، ويكف طائر الموت عن الطنين في أذني) حُباً يرحل معي إلى البلاد البعيدة، نبتعد عن هُنا، ننأى عن كل ما يوجعنا، نحمل معنا بهجتنا، مخاوفنا، خطيئتنا، وعصياننا، تمرد هذه الروح وفوران هذا الجسد. نحمل وِزر الخليقة الأولى، اللمسة، النشوة، الألم، الميلاد، الصرخة، الاستسلام، الموت، نحمل وِزر أول طين صُب في جسد، ولحظة خلق الرب حواء وهو نائم في وحشة. نحمل رؤية جسده العاري، وتحمّمه في نهر بلوري. نحمل معنا أول قُبلة لثمت شفاه، وأول بذرة سكنت في رحم، وأول يد لمست الآخر، وأول لقاء بين جسدين غرقا في الشهوة. نحمل كفوف حواء، وخبزها وغزلها ونسجها. نحمل ابتسامتها المنحولة على جسمها، وبكائها في الليالي الوحيدة. نحمل معنا شعرها الأسود الليلي، وعينيها الكحيلتين. نحمل طمأنينة قلبها وهي تفترش الجنائن والأزهار. نحمل جدائلها الطويلة و ذكائها المُتقد، وجمالها الفتان، ورعها، وخشيتها. نحمل دموع السيدة مريم، ومناجاتها للرب. نحمل صوتها، وصوت الطفل وهو يفتح فمه ويتفوّه للمرة الأولى، المرة الأولى على الإطلاق.

هذا الجسد ليس خطيئة، هذا الجسد ليس مُدنساً

أريد أن نرحل بكل ما فينا من خطايا، بكل ما فينا من تعبّد، وإيمان، مجون وعُهر. بكل ما فينا من أصالة ونزق. نتوه، نزفّ العالم، نترك جثث الحُكام والديكتاتورين تتعفّن في الشوارع وتحت البيوت. نترك جثث الآباء والأمهات، بذنوبهم وآثامهم، بشعورهم بالذنب، وتضحياتهم النفيسة، لعل أبناء آخرين يأتون إليهم، يتوسلون ويبكون ويشقون بطونهم، ويخرجون أطفالهم اليتامى إلى الدنيا، يجلسون تحت أقدامهم، وينتظرون إطلاق السجان سراحهم.

أما أنا الأبنة الوديعة/ العاصية، فلا أريد سوى أن أمحو هذه الصلة، وذاك الرابط الوحيد بيننا ألا أبحث عنك أبداً. أريد أن أنسى وجهك وهو ينظر إلى وجهي، هجرانك لي، كلماتك اللاذعة، آثار جروحك، يُتمي وخوفي. أريد أن أمحو ميراثك لي، ما خلفته ورائك ورحلت كما يرحل القُساة. أريد ألا أتألم ثانية، ألا يكون نسيانك مؤقتاً، ووجودك لطخة دماء على جبهتي.

ندوبٌ على جسدي

وكانت الكلمات ندوباً على جسدي، وكانت الكلمات تنمو، تتحرّك، وتتمدد، وتضرب، وتموت. تحيا بداخلي، وتصير كائناً حياً. كل الكلمات القاسية خلفت جروحاً لا تلتئم، وكلما أحببت رجلاً، كشفت له جسمي، تركت له عُريي، دعوته ليلمس ندوب جروحي بلا خجل. نسجت له في الليالي والصباحات الحنونة قصصاً لا تجف، وحكايات لا تنضب.. حكيت له عن أزمنة ولتْ، وأوجاعاً لا ترياق لها. رسمته في مخيلتي، وخبئته في ذاكرتي. مشيت بأنامله على ندوبي وتمنيت أن يشعل النيران فيهما، أن يرسم مكانهم جبلاً، أو يرقة. تمنيت أن تصير الكلمات رماداً، وجسدي نهراً أو بحيرة. هذا الجسد الجميل لكَ، هذا الجسد الجميل لنا، هذا الجسد تاريخ، ومأساة.

إذا مست أناملك جلدي

ذراعايّ مجبولتان على العناق، وراحتايّ تسكبان حنّية في فمك. بهدوء، تدنو مني، وبشوق تنظر إلى عينيّ. لطالما آمنت أن لجُرحي أن يُبرأ إذا ما مست أناملك الناعمة جلدي، إذا ما وقعت في غرام البقع الخضراء، وخصري الملتوي. الخطوط البيضاء، كفرع شجرة اللبلاب، تنمو على نهديّ. إذا ما اشتهيتني كثمرة ناضجة، بمجرّد أن تفتح عينيك في الصباح، وفي المساءات اللذيذة، وإذا ما خلدت إلى النوم، تحلم بفمي يلثم فمك. إذا ما ناديتني في حلمك، إذا ما اشتقت إلى صوتي وسط صخب البشر، إذا ما نامت أصابعك على فقرات ظهري، فقرة تلو فقرة، وخففت آلامه، إذا ما ضممتني إليك، إذا ما ذاب جسمك بجسمي وعدت إلى خلقتك الأولى، وصرت ذئباً أو حصاناً أسود.

إذا ما رأيت الجنيات يفترشن رأسي، ويدببن الشوك فيه، وهمت بطردهن بعيداً، ظمئاً إلى نفخة من ربك، تضع رأسك على نهديّ النافرين، تنصت إلى هدير أمواجه. إذا ما رأيت قصاصات فساتيني، وصنتهما بين ذراعيك، إذا ما غزلتني شِعراً، وأهديتني قصيدة حُب، إذا ما كفكفت دمعي...

أسكب خمراً على لسانك، وأضيع في الحُمّى، وفي الحُمى، أصير فراشة زرقاء ترمي بجسمها الواهن في نيرانك، وفي الحُمّى، أشتهي جسمك الأزلي... مجاز

والليل إذ يبعثرني، آتي إليك

بوداعة، تُقبل كتفيّ كعصفورين ساكنين، فتشتعل حرائقي. كتفايّ يشتاقان إلى فمك. أسكبُ خمراً على لسانك، وأضيع في الحُمّى، وفي الحُمى، أصير فراشة زرقاء ترمي بجسمها الواهن في نيرانك، وفي الحُمّى، أشتهي جسمك الأزلي. ينفجر رأسي، وتغرق شطآنه، وأنت بلا خوف من خطيئة، وغضب من رب يشاهد، تلعق بلسانك جروح جسمي. تأكل لحمي الشهي بلذة. لا ترجو غفراناً، ولا تتوسل رضا.

هذا الجسد ليس خطيئة، هذا الجسد ليس مُدنساً. لا تُقبلني خائفاً، أقول لك. قُبلتك: "أريدها حارة وعميقة، تمنحني الغيبوبة، وإلا فلا تقترب". أمنحك روحي وأسئلتي وإيماني، توهاني وحيرتي، همداني وغضبي، وأنام بين يديك. يداك الرقيقتان كسنبلة قمح، يداك الدافئتان كرغيف خبز.

أفيق وأنت تفتت جسدي إلى قطع صغيرة، تفكّك كل جزء عن الآخر، كل عضو يبرح مكانه، وبأناملك اللينة تُعيد تشكيلي، تخلقني من جديد على يدك، تشكلني غزالة بيضاء بينما تلوك بفمك عينيّ وتقضم قلبي.

تطرد عني الوحشة

تستمع إلى اصطكاك أسناني في الليل، صريرهم كآلة عامل بناء مُزعجة. تدرك أن القلق يغرس أوصاله في فمي في تلك الأثناء، تهدهدني كطفلتك الوديعة، كقطتك الأليفة، حتى يذهب عني البأس. برقة تناديني: حبيبتي، حبيبتي الحلوة، حبيبتي بحر، حبيبتي نجمة وشجرة، حبيبتي البعيدة، تعالي. بهدوء تربت على شعري، بلهفة، تقبّل بطني، ثديّ، رقبتي، شفتيّ، عينيّ، حاجبي، جبيني، قدمي، سُرتي. قبلاتك الآثمة تطهرني، تموج في جسدي، تجوس في خلاياه، تدفن مخاوفك، جنونك، هيامك، آثامك، ولوعتك. تعدّ الشامات الصغيرة، تودعني ونفترق. تعود إليّ، أغفر لك. فلتأت إليّ، فلتطرد عني الوحَشة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image