كانت سنوات كثيرة لا أحصيها، قد مرّت على قرائتي لعبارة الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم التي كتبها في إحدى قصائده الأخيرة: "كبرتُ وصِرتُ من الأهل في منزل الحزنِ".
ظلت الجملة تقرع في رأسي كطبول حرب وأجراس كنسية في ليلة الميلاد، كلما كبرت عاماً اتسع منزل الحزن الذي أسكن فيه، أصبحت جدرانه أكثر قتامة. أرى، بنصف عين، بقعاً زيتية سوداء تسكن فواصله، تتسع رقعتها شهرياً بشكل منتظم. صِرت عمدة العائلة في منزل الحزن والمسؤول عن تنظيمه، وإعادة ترتيب الذكريات في الخزانة، ليسهل علي الوصول إليها وقت الحاجة!
كان المنزل، عالمي الصغير، يضيق ثم يتسع، ورويداً يأخذ شكل دائرة بعدد لانهائي من الأبواب، ألتفّ حولها في دورة كاملة، فأعود لحيث بدأت. أجلس في مكاني أشاهد الفراغ من حولي بجسد نحيل وعينين واسعتين وأصابع يد متكسرة، وبقعة زرقاء أعلى الكتف الأيسر، أحاول أن أضمّد جراحي بنفسي، وكلما شُفيت في موضع ألم، تؤلمني عشرات المواضع الأخرى. الدائرة ضيقة، تعتصرني وتهشم الضلعين الثاني والرابع والعشرين.
دائماً ما أعلم النهاية لكني أواصل السير
طوال حياتي كنت أجيد السير داخل منزلي الدائري المغلق. أعلم دائماً نقطة النهاية وإلى أين سأصل، لكني بكل حماقة أكمل المسير. أضع نهايات أخرى، سيناريوهات أكثر اختلافاً، أجنّ وأطير وأحلق بعيداً. أقول لنفسي هذه المرة سأخرج عن حدود الدائرة، سأمزّق حوافها بطرف إصبع قدمي للصغير، فلدي الكثير من النهم والفضول لرؤية خارج حدود دائري الصغيرة.
أسير بسرعة جنونية بداخلها، تتعثّر خطاي وأنكفئ على وجهي، أنفض غبار الدائرة الوهمية عن ملابسي، أحاول الخروج مرة ثانية، أطرق الأبواب للانهائية لها، وأعلم أن لا أحد سيجيب. ربما لا يوجد حارس بشارب سميك وعصا غليطة يؤمن لي الخروج الأخير من هنا، ولا أنا أعرف الخروج وحدي. ربما العالم خارج الدائرة أكثر إيلاماً، أشد فتكاً وأكثر قسوةً.
طوال حياتي لم أكره شعوراً مثلما كرهت القسوة، أتخيلها امرأة شديدة البياض، مائل لون جلدها للاصفرار، ذات جسد نحيل يساعدها على الولوج عبر أرواحنا المنهكة دون شعور، ولتظل بعيدة، علينا أن نبقى يقظين ليلة كاملة، وربما بضع ساعات من النهار.
لم أكره شعوراً مثلما كرهت القسوة، أتخيّلها امرأة شديدة البياض، مائل لون جلدها للاصفرار، ذات جسد نحيل يساعدها على الولوج عبر أرواحنا المنهكة دون شعور، ولتظل بعيدة، علينا أن نبقى يقظين ليلة كاملة، وربما بضع ساعات من النهار... مجاز
في الدائرة لست وحدي، جميعهم يرقصون هنا
في سنوات عمري الأولى وربما حتى السابعة، كنت أظن أنني أسير داخل الدائرة وحدي، أرقص وأهرول وأحلّق وأرسم فراشات بيضاء، سرعان ما تتحول لقطعة حلوى مارشميلو بمذاق التوت والفراولة، أقرّبها من فمي، أحاول مضغها فلا أستطيع. تنفلت من يدي وتدغدغ أصابع كفي اليمنى، فتتسع الرقعة الخضراء بالإصبع الأكبر.
أعاود التحليق والرقص على أطراف قدمي، الدائرة كلها لي، وجدرانها اللانهائية لي، لكني استيقظت يوماً لأجد أنني لست وحدي، عيون كثيرة وأرجل قصيرة وروائح متداخلة، أتذكر منها رائحة التبغ وصابون الوجه بزيت الزيتون، وعطراً نسائياً رخيصاً محلي الصنع. جميعهم هنا. وجوه أعرفها ولا أعرفها. أقدام ترقص وأخرى تقرع الأبواب بقسوة. أصوات ضحكات يقطعها بكاء طفلة صغيرة أضاعت دُميتها، وأربعيني لا أتذكر ملامحه، يحاول سدّ فتق في حذائه البني، كلما أغلقه يتسع في بقعة أخرى بالحذاء. ثلاثينية ثمينة تخفي ندبة على الخد الأيسر، بمسحوق أبيض في عبوة حمراء ذات رائحة نفاذة، تبكي فتزيل الدمعة آثار المسحوق، تعاود نثره على وجهها من جديد.
من هؤلاء؟ لا أعلم، ما أعلمه جيداً أنني، وكلما ازدادت الأصوات والصرخات من حولي، تضاعفت أعداد الوجوه ونمت ساقي الطفلة ذات الدُمية الضائعة.
في عامي الثلاثين ضاقت الدائرة واتسعت رقعة الألم
عندما أتممت عامي الثلاثين، لم تعد الدائرة قادرة على تحمل المزيد من الوجوه والضحكات والأقدام، لم أستطع الوقوف سوى على قدم واحدة. أحاول التمدّد، أرخي القدم الأخرى فتصدم في لحم ترهّل بفعل المئات من عمليات التجميل وإبر التجاعيد. أشعر بالخوف فأنطوي على نفسي مرة ثانية.
لم أجد من يشبهني، يحمل رائحتي ومذاق فمي عندما أستيقظ من النوم، جميعهم غرباء لا أتحمل رائحتهم وأصواتهم وأنينهم ومزاحهم الثقيل. أبحث عنه بينهم، تخدعني الوجوه فأظنني وجدته، أسير خلف ظل لا أعرفه ناحية باب الخروج، يوهمني أننا سنمزق حدود الدائرة ونحلق نحو السماء. أنا في كامل عمري لم أعرف شكل السماء.
أخبرني أن رائحتها تشبه رائحة كوب الشاي بالحليب الدافئ وطبق كعكة البرتقال الساخنة في صباحات ديسمبر الباردة، ولأنني أحببت ديسمبر، سرت خلفه. تتعثر خطواتي بجثث ثقيلة ذات رائحة عفنة، أجولة فارغة وجماجم عظمية، وبعض الأنياب الصفراء والأسنان المتكسرة البنية.
كان الطريق نحو باب الدائرة طويلاً. انكفأت على وجهي ثلاث مرات ربما أربع، لكن على أية حال أكملت السير خلف الظل، وما إن وصلنا معاً حتى اختفى. وجدت وجوهاً وأقداماً وضحكات جديدة. ضاعت يدي الصغيرة بين مئات الكفوف الممتدة، وتاهت خطاي في طريق العودة لموقعي بالدائرة. أحاول العودة حيث البقعة الصغيرة التي لفظني رحم أمي نحوها، أدركت أنني لم أخرج من هذه الدائرة، لا سماء صافية ولا حفلات راقصة. أنزوي على نفسي، فتزيد الصرخات وتتعالى الضحكات، ويتضح أنين الطفلة الباكية بين آلاف الأصوات المتداخلة.
رفضني الجميع، اختبرت شعور أني غير كافية مئات المرات، غابت وجوه كثيرة وعدت بالبقاء. كنت كمن تتهيّأ لموعد مؤجّل، تزيّنت بأحمر الشفاه وارتدت فستانها الرمادي القصير، فباغتها عُطل فني بالمصعد الكهربائي... مجاز
بالموت ستذوب الدائرة كذرة ملح
في الدائرة كانوا يتهامسون بلغة لا أعرفها. تتعالى أصوات الضحكات والصيحات أكثر، فيضرب الطنين أذني. مازلت أبحث عنه بين وجوههم. في الثلاثين تتشابه الوجوه والحكايات. ثمة أربع نساء غيري، يبحثن عن ظل رافقهن نحو باب الدائرة ثم تركهن يعدن بمفردهن. حاولت الوصول إليهن لسرد حكايتي فلم يسمعني أحد. بدوت وكأني أتحدث بلغة غريبة وشاذة، لم يفهمها غيري، وددت لو كان بإمكانهن سماعي، أنا التي تحمل صخرة سيزيف على كتفها، كلما صعدت لأعلى قمة الجبل مُمسكة بأحلامي وبغد لا بكاء فيه ولا ظلال وهمية ووعود كاذبة، تهاوت مني صخرة الذكريات وآلام الماضي وظلاله الشاحبة، فأعود ثانية للقاع بحثاً عنها.
رفضني الجميع، اختبرت شعور أني غير كافية مئات المرات، غابت وجوه كثيرة وعدت بالبقاء، كنت كمن تتهيّأ لموعد مؤجل، تزينت بأحمر الشفاه وارتدت فستانها الرمادي القصير، فباغتها عُطل فني بالمصعد الكهربائي، أو إغلاق كلي للشارع الرئيسي لمرور موكب شخصية هامة.
حاولت إخبارهن أنني سمعت في عمر السادسة لأول مرة عن الموت، أخبروني بأنه يحرّر المرء من قيوده، خوفه ووحدته، وندوب الصدر والبطن والكفين. بالموت ستختفي البقع الخضراء و الزرقاء، وصداع الرأس وآلام الأسنان الليلية، وفي الموت، ستذوب الدائرة كذرة ملح في كوب ماء دافئ. سأراهن وأرى الآخرين يحلقون فوق منزلي الدائري، يعلنون عن حريتهم المُطلقة، سأعيد بناء حدود الدائرة من جديد وأعيش بها وحدي. لا أظن أن الموت سيعرفني، ولو عرفني سيمنحني فترة كافية لأختبر شعور الركض والرقص في فراغ لا صوت له أو صدى. أنام على ظهري، فأرى السماء لأول مرة، وأترك قطرات المطر تسقط بفعل الجاذبية على أنفي الصغير.
لا أريد أن أخرج من الدائرة الآن، لم أجد ما يدعو لذلك، فلا مزيد من الظلال الخادعة التي توهمني بطريق الخلاص ثم ترحل، فقد عرفت طريقي وحدي، ولما عرفته آثرت البقاء.
قال لي عجوز ثمانيني جاورني لفترة في موقعي بالدائرة: "اللي يعرف يرتاح". ها أنا عرفت وها هو الموت ينتظر خلف الباب في انتظار رقصته الأخيرة معي، سأعلن حينها أن الجميع قد رفضني ليقبلني هو، فرائحته تملأ المكان حولي، ويده القوية تلتف حول مئات الأرواح كل ساعة، تحوّل نساء وأطفال ومسنين لعصافير زرقاء وخضراء وبُنية، بلا بيوت حزن دائرية ولا مواعيد مؤجلة وافتتاحات لمزيد من المشروعات الغذائية القومية، ومصانع تعبئة صابون الأطباق وتغليف حفاضات الأطفال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Oussama ELGH -
منذ 21 ساعةالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ 22 ساعةاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه
رزان عبدالله -
منذ أسبوعمبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ أسبوعوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة