في الثامنة عشرة من عمري، حزمت مع أمتعتي، مقدّسات مجتمعي الصغير وأفكاره الجاهزة، وعاداته وتقاليده وخوفه أيضاً، وغادرت مدينتي الساحلية الصغيرة متوجهة إلى دمشق.
هناك حيث ستصبح كلمة "الآخر" مرادفة لأي شخص ليس من مذهبي، ليس من محيطي الذي أعرفه جيداً، وهناك حيث علي أن أكون أكثر حذراً وأكثر خوفاً وأكثر قلقاً، والأهم من هذا كله أن أعرف جيداً من أرافق وبيوت من أدخل وألّا أئتمن غريباً على سرّي. تمّ حشو دماغي بأفكار تجزم بأنه يكرهني وينتظر فقط أن تنقلب موازين القوى لذبحي.
الخروج من الكفن الذي صنعه النظام
بعد أشهر قليلة من الحياة في دمشق، وبعد أن تعرّفت على أصدقاء من مختلف الانتماءات، بدأت قدرتي على رفض أفكار غيري تقوى، حتى لو كانت أفكار أمي التي جهدت لتحميلي إياها. بدأت أظافري بالنموّ.
أجل، تم حشر كلّ واحد من أفراد الطائفة العلوية داخل كفن، فهناك وعي جمعي منتشر بين أبناء هذه الطائفة، وخاصة مَن لم يغادروا قراهم ومدنهم، يشعرهم بأنهم ليسوا أكثر من مشاريع ذبائح ستقدم في سبيل نشر دين الإسلام وتخليصه من الكفرة والمرتدين، وليس النظام وحده مسؤولاً عن هذا الوعي، بل أيضاً الكثير من الخطابات والممارسات التي كنا نراها ونسمعها من هنا وهناك، ولا أعتقد أن النظام بريء من تسليط الضوء عليها ونشرها بيننا. لا أعتقد عموماً أن أي أحد بريء.
هكذا من الدين إلى السياسة، تنقل المجرم بخفّة ليسيطر بكل بساطة على جموع الناس البسطاء وليجعلهم لعبة في أيديه، فهو الحامي والبطل المنقذ، وبذلك يصبح الاصطفاف خلفه ليس أكثر من رغبة عميقة بالحفاظ على الحياة والعيش بأمان دون خوف.
ولكن، أليس من الممكن وضع هذا الكفن جانباً، وأخذ لمحة عن الحياة خارجه؟ بالتأكيد، يمكن. لكن يتطلب الأمر شجاعة، والأكثر من الشجاعة تحتاج الرغبة باكتشاف الآخر، والسماح له باكتشافك، التعرّف عليه، وجعله يتعرّف عليك. وعندها سيبدأ عقلك بالشك بمدى حقيقة الصراع الذي تمّ زجّ الجميع داخله، فبين الآخر الكافر والآخر الوحش، سنجد مساحة آمنة لكلينا، وعليه، قرّرت الاقتراب، فتح نافذة لأرى الآخر كما هو، لا كما أعتقد.
تم حشر كلّ واحد من أفراد الطائفة العلوية داخل كفن، فهناك وعي جمعي منتشر بين أبناء هذه الطائفة، وخاصة مَن لم يغادروا قراهم ومدنهم، يشعرهم بأنهم ليسوا أكثر من مشاريع ذبائح ستقدم في سبيل نشر دين الإسلام وتخليصه من الكفرة والمرتدين
في الفيلم الألماني "حياة الآخرين"، وبعد مراقبة رجل الاستخبارات المخضرم والقاسي جداً جيرد فيزلر، لحياة الكاتب جورج دريمان وحبيبته الممثلة كريستينا ماريا سيلاند، عن قرب، من خلال زرع أجهزة تنصت في منزلهما، نتيجة شكوك بعدم ولائهما للحزب الشيوعي الذي كان يسيطر وقتها على ألمانية الشرقية، تبدأ شخصيته فيزلر بالتبدّل والتحوّل، من الشرّ المطلق إلى الهشاشة المفرطة، تحت تأثير العواطف التي نتجت عن معرفته بتفاصيل حياتهما والاقتراب من لحظاتهما الخاصة، من حب وانهيار وخوف وانتظار وبؤس وأمل.
وكأنه فعلاً اكتشف زوايا أخرى للرؤيا غير زاويته، ليكتشف عالماً جديداً من خلال أفكارهما، وليشعر أن لا حقيقة مطلقة موجودة في هذا العالم، ولا سبب مقنع بعد الآن لعقابهما. فبدأ بتزوير التقارير في سبيل إنقاذهما من رجال الاستخبارات رغم تورّط الكاتب الحقيقي مع ألمانيا الغربية، لأن تجربته الخاصة واحتكاكه بالآخر صارا الحكم، بدلاً من الأوامر والبيانات والمعلومات.
وبنفس الطريقة جعلت تجاربي الخاصة، مرجعي في الحكم، دائماً. أستخدمها لأواجه أي وعي فُرض عليّ بتأثير المحيط وتجاربه وأفكاره المصنّعة والجاهزة، وبهذا كوّنت آرائي الشخصية، ونظرتي عن كل شيء، والأهم عن الآخر الذي لم يعد بالنسبة لي وحشاً بل صار صديقاً حميماً، نبكي ونفرح معاً، ونتشارك المعاصي والندم والأخطاء، وحتى مسيرات التأييد في بداية الثورة.
سنين طويلة من العيش المشترك بين الطوائف في سوريا لم تعن يوماً أنهم يعرفون بعضهم بعضاً كما يجب
الانهيار بسحب ورقة فقط
"لن يحدث هنا ما حدث في ليبيا وتونس": قلتها بحزم، فضحك صديقي بسخرية مؤكداً بأني لا أعرف شيئاً، ورغم رغبتي الكبيرة بأن أقول له: "أنت من لا يعرف عن سوريا شيئاً"، انتهى النقاش بأن بقينا صامتين حتى وصلنا أتستراد المزة، حيث كان التجمّع لإعلان الولاء لبشار الأسد. لم نكن علويين فقط، كنا سنة ودروز ومسيحيين وحتى فلسطينيين، والحقيقة أننا فعلاً لم نُجبر كما كان يشاع، والآن صرت أفهم أن الإجبار لا يكون فقط بالشكل المباشر الذي نعرفه. هتفنا جميعاً بكل إيمان وثقة أننا في الطرف المحق، لوحدة سوريا وضد الإرهاب و"المندسّين".
كانت الثورة قد بدأت بتجمّعات لشباب بأعمارنا، كانوا قد سبقونا بأشواط وفهموا ما يجري قبلنا. وبين يوم وآخر كانت أوراق التوت تتساقط واحدة تلو الأخرى، وكان الشكّ بشرعية ما يفعل النظام تتضخّم داخل عقولنا، ولكن بقي الدين هو الدين عند كثيرين، لست منهم.
"لم أرَ صورة حافظ الأسد في القمر": همست في أذن صديقتي بعد نقاش طويل مع مؤيدات مستميتات بالدفاع عنه، يتكلمون من منظور طائفي بحت دون أي محاولة لرؤية صادقة وحقيقية لما يجري. يبدو أن الخروج من دور الضحية والمظلوميات ليس بالسهولة التي توقعتها.
ردّت في أذني: "وحياة أمي ولا أنا بعمري ما شفتا"، ثمّ ضحكنا، ضحكنا كمن يسحب ورقة لعب ويراقب كيف أن حركة واحدة، واحدة فقط، كفيلة لينهار هرم الكوتشينة دفعة واحدة، لأنه هش وضعيف، ومبني على خوفك من الاقتراب منه ولمسه.
بعد فترة لم أعد أهمس، وصرت أقول رأيي بالنظام بجرأة، لم تعد عبارات "حامي الحمى" مع الذبح والتخويف تؤثر بي، ببساطة، لم أعد بحاجة لأفكار الآخرين ولا لخوفهم من الآخر الذي لم يروه ولم يتعاملوا معه ولم يدخلوا بيته ولم يشاركوه مائدته.
إذن، كان هذا الاختلاط خطوتي الأولى نحو صناعة نفسي، هذه الصناعة الفردية التي أدركت جيداً أنها ستبقى دائماً مهدّدة بحكم انتمائي لجماعة ما، فمن الصعب جداً على أحد، سواء في ذلك الوقت أو حتى الآن، أن يتعامل معي فقط كما أنا، وبالمقابل من السهل جداً التعامل معي كـ "علوية من الساحل".
في رواية الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا "فضل الليل على النهار"، تقصّد الكاتب أن يكون أول من يُقتل على يد الثوار الجزائريين رجل فرنسي طيب ومؤمن بقضية الشعب الجزائري، الموضوع إذن، ليس مجرم وضحية، كما يحب الكثيرون أن يروا. ففي تلك اللحظة لم ير الثوار من هذا الرجل إلا انتماءه لفرنسا، وعليه فقط قُتل.
ذاكرة الحرب السورية ليست براميل فقط، وسجون سوريا ليست صيدنايا فقط، وأمام فيديوهات الدعس والتعفيس والتصفيات والإقالات وتبديل كلمة "إرهابيين" بـ "فلول النظام" لتبرير أي خطأ، سأبقى متوجّسة وقلقة، وخاصة وأنا أمضي ليلي كاملاً بقراءة تعليقات الناس الطائفية على مواقع التواصل الاجتماعي
وبحكم الانتماء أيضاً، أجد نفسي بعد سقوط النظام وفرار بشار الأسد، مرة أخرى بحاجة لتبريرات، عند إبداء رأيي بأي مما يحدث، تُكال لي الاتهامات ويشكّك بنيتي في كلّ كلمة أقولها، ولأكتشف أن الطرف نفسه الذي زجّنا في كفن، حمّل غيرنا ساطوراً، وأن شجاعة رمي الساطور لا تقلّ عن شجاعة تمزيق الكفن.
نعم لم أستطع حتى الآن التعبير عن فرحي بسقوط النظام بالشكل الذي يستدعيه الموقف، ولكن هذا لا يخصّ كوني علوية، بل يخص طبيعتي وتكويني النفسي أكثر من أي شيء آخر، فلطالما اعتقدت أن الفرح هو من أكثر المشاعر تعقيداً وأكثرها حاجة لليقين، كما يخصّ مخاوفي، فحتى الآن لم أصل لهذا اليقين بشرعية المنتصر ذي التاريخ الحافل بالإجرام. ذاكرة الحرب السورية ليست براميل فقط، وسجون سوريا ليست صيدنايا فقط، وأمام فيديوهات الدعس والتعفيس والتصفيات والإقالات وتبديل كلمة "إرهابيين" بـ "فلول النظام" لتبرير أي خطأ، سأبقى متوجّسة وقلقة، وخاصة وأنا أمضي ليلي كاملاً بقراءة تعليقات الناس الطائفية على مواقع التواصل الاجتماعي، لأتأكد أن سنيناً طويلة من العيش المشترك بين الطوائف في سوريا لم تعن يوماً أنهم يعرفون بعضهم بعضاً كما يجب.
في منشور للكاتبة السورية فدوى العبود على صفحتها الشخصية على فيسبوك، تحكي عن حوار مع جارتها التي تخبرها عن ابنها الذي كان مع الجيش، ثم تسكت، وتقول: "يمكن شهيد"، تغصّ أكثر وتسأل: "ولا شو رأيك شو بيعتبره هلق؟". لم تجب فدوى العبود، الكاتبة التي قتل بشار وعصابته عائلتها وهدموا بيتها وسلبوها نجاحها وتفوقها. ربما، لأن لا يقين في مثل هذه الأسئلة إلا كما عبرت: "متلازمة في رأسي تردّد، ضحية، ضحية، ضحايا، ضحايا. الله يلعنك يا بشار".
الآن، ربما، فرصتنا ليجلس كل طرف منا مكان الآخر، لنلقي نظرة على حياة بعضنا عن كثب، علنا نكتشف أن الطرف الذي نكره ونحارب ونرفض وندعو للثأر منه والانتقام، هو إنسان مثلنا، كان لديه مبرّراته ومخاوفه وحزنه ودموعه وأخطاؤه، وعندها فقط ستتمكن فعلاً من فهمه، وطي صفحة الماضي المؤلم والبدء من جديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 9 ساعاتفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ 6 أيامانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاهلك ناس شجاعه رفضت نطاعه واستبداد الاغلبيه