انشغل العالم، وأخصّ هنا الغرب والأمريكيين، بالأسباب العجيبة وراء تفوق اليابان الكبير، والسر الذي جعلها تنتقل بهذه السرعة، من دولة مدمرة ومنهكة ومستنزفة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى اقتصاد هائل ينافس أكبر دول العالم وأكثرها استقراراً.
قد يكون السبب مفاجئاً بعض الشيء لك، عزيزتي الحكومة السورية الانتقالية، على اعتبار أنك تتعاملين مع الشعب السوري وكأنه هو الانتقالي وأنت الثابتة، هو المحرّر وأنت المختطفة.
كان سبب نهوض اليابان وتفوقها هو تركيزها على قطاع التربية والتعليم، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت حكومة اليابان بإجراء تغييرات جذرية في مناهجها الدراسية وأنظمتها التربوية والتعليمية، فهذه الحكومة فهمت جيداً أن الثروة الحقيقية التي تمتلكها هي العنصر البشري، لذلك كان التركيز الأكبر على إعداد الأطفال للمستقبل، على تعليمهم وتخليص عقولهم من الجمود والببغائية، على تنشئتهم على قيم الحرية والعدالة والمساواة والمحبة، ونبذ العنف واحترام القانون. كان التركيز على إنشاء أجيال تحب بلادها، لا تسعى للفرار منها.
وبمثل هذا، ببناء الإنسان، وفقط الإنسان، يمكن لبلد بذاكرة مليئة بالقتل والموت والعنف والتهجير مثل سوريا، أن ينهض، أن ينفض عن نفسه غبار الحرب، ويعيد بناء نفسه من جديد.
قد يكون سبب تقدّم اليابان بعد الحرب مفاجئاً بعض الشيء لك، عزيزتي الحكومة السورية الانتقالية، على اعتبار أنك تتعاملين مع الشعب السوري وكأنه هو الانتقالي وأنت الثابتة، هو المحرّر وأنت المختطفة
أثمان الطفل السوري الباهظة
دفع الأطفال السوريون خلال فترة الحرب السورية الطويلة أثماناً باهظة، بين المخيمات التي تفتقر لأدنى أسباب العيش، وعلى قوارب الموت وتحت القذائف وبين الأنقاض.
وفي فترات الهدوء، دفعوها في الشوارع، حيث باعوا طفولتهم مع العلكة ومع علب البسكوت والمناديل الورقية، ومع جملة: "كرمال الله اشتري مني"، فالجوع والفقر جعل الأطفال مسؤولين عن إعالة أسر كاملة، ففي أيام الشتاء القاسية، كما تحت وهج الشمس الحارق في الصيف، كانوا يفترشون الأرصفة، محرومين من أبسط حقوقهم الطبيعية وأولها التعليم، وليس آخرها التواجد في تجمعات آمنة ومناسبة لأعمارهم، والحق الأهم: أن يكونوا أطفالاً فحسب.
نعم، لسنوات تُركت نسبة كبيرة من الأطفال السوريين للشوارع، تلتهم أحلامهم وأجسادهم وعقولهم، ورغبتهم بالحياة. لسنوات والطفل السوري منتهك حدّ تحول الحقوق ومنظماتها لنكتة سخيفة.
يمتلك كل طفل عقلاً مبدعاً، وبذلك هو مشروع مبدع في المستقبل إذا ما توافرت له الظروف المناسبة والمهيئة، وهذا ليس كلامي، هذا كلام تربويين وعلماء نفس.
واليوم، بدلاً من البدء من هنا، من هذه النقطة التي يجب أن نكون قد آمنا بها ونبني على منجزاتها في التربية والتعليم، بدأنا مرّة أخرى رحلة جديدة من انتهاك العقول، تخريبها وإعادة تشكيلها وقولبتها لصالح العودة فقط إلى الوراء، ولصالح إسكات صوت العقل وإعلاء صوت الجهل والتخلف والرجعية والبغض والكره.
كيف لي، وأنا معلمة صف لأطفال في المرحلة الابتدائية، يبقى طلابي المسيحيون معي في الصف في حصة التربية الدينية، أن أشرح معنى كلمة "الضالين" في الفاتحة كما وردت في التعديل الجديد لتخصّ "النصارى واليهود"؟ على أي قيمة وأية أخلاق إنسانية سأبني جيلاً، يتعلم في مدرسته أن جاره ضال عن طريق الحق، الذي كان في السابق طريق الخير ومع التعديل صار طريق الإسلام؟ وأن شعار المرحلة الجديدة والنشاطات الصفّية هو تحية الإسلام، وفقط الإسلام؟ هل يمكن بهذه العقلية أن ننشر التسامح في مجتمعاتنا التي تعج بالاختلافات الدينية والمذهبية والثقافية؟ هل بهذا الإقصاء القطعي يمكن أن نفهم ونتفهم الآخر؟ هل هكذا سنبني سوريا ما بعد الأسد؟
صار الموت في سبيل الوطن بدعة، والشهادة من أجله كفراً، فالموت في سبيل الله فقط، الله المذكّر
اعتداء على كل شيء
لم ينج أحد من قائمة التعديلات المعيبة والتي لا يمكن وصفها إلا بالمهزلة السورية الجديدة، بعد قائمة طويلة من التصريحات والأفعال المثيرة للسخرية التي ارتكبتها الحكومة المؤقتة. لا العقلية العلمية التي يتفق الجميع على أنها شبه معدومة في مجتمعاتنا العربية، والتي كان من الأجدى العمل على ترسيخها في حال كان الهدف من أي تعديل هو السير نحو الأمام، لا العودة إلى الدرك الأسفل للبشرية، ولا مبادئ العدالة والمساواة والإخاء، فحين كفّروا الآخر المسيحي واليهودي، وجعلوه مغضوباً عليه وضالاً، أعلنوا بشكل صريح عداءهم وتكفيرهم له ورفضهم لوجوده، واعتدوا بذلك على ثقافة أهل هذا البلد المتعدّد الذي يتشارك الأعياد الدينية وكأنها أعياد ميلاد شخصية، ولا الشعر الذي حُشر ومجازاته في قفص الاتهام مع العشّاق وجرّد من كلّ قيمه الجمالية والإنسانية، ولا العدل الذي صار شرعاً لا قانوناً، ولا الوطن الذي صار الموت في سبيله بدعة، والشهادة من أجله كفراً، فالموت في سبيل الله فقط، الله المذكّر الذي أسقط جنوده في الأرض السورية كل كلمة "ربّة" أو "إلهة" من المنهاج ومن الكتب، ولا التاريخ، بكل ثقله وتأثيره على المستقبل، تمكن من النجاة، التاريخ الذي تمكنت هذه الحكومة أن تمحيه بجرة قلم ليتناسب مع حلفائها وأجندتها المستقبلية ومشاعرهم التي جرحت على يد المنهاج السابق، ولا حتى العلم ونظرياته الذي صار أيضاً عدواً مخيفاً يهدد أمن البلاد وأمانها. وإن نجت الفلسفة، فالفلسفة الصينية تحديداً لن تنجو، لأنها تؤمن بالألوهة ولا تؤمن بالإله، ولأنها فلسفة معرفية، تحاول الانتقال بالإنسان ليصير الفاعل والخلاق لا المفعول به والعبد.
كيف لي، وأنا معلمة صفّ لأطفال في المرحلة الابتدائية، يبقى طلابي المسيحيون معي في الصف في حصّة التربية الدينية، أن أشرح معنى كلمة "الضالين" في الفاتحة كما وردت في التعديل الجديد لتخصّ "النصارى واليهود"؟
من هم؟
عندما أراقب تعليقات السوريين واستنكارهم الشديد للتعديلات، أكثر ما لفتني هو التساؤل الذي أجمع الغالبية عليه: من هم هؤلاء الذين قاموا بتغيير المناهج؟
باختصار شديد، لا تمتلك الحكومة المؤقتة صلاحيات إجراء تعديلات على المناهج، ومثل هذا التغيير لا يمكن أن يتم في ليلة وضحاها، بل يحتاج الأمر إلى لجان علمية متخصّصة، لديها معرفة ودراية بمراحل ومعايير التعديل، وعليه فإن ما تفعله هذه السلطة باعتبارها سلطة أمر واقع فرضت نفسها بقوة السلاح، ليس أكثر من عملية انتهاك جديدة لعقولنا وعقول طلابنا، والاستمرار بالتعامل مع سوريا على أنها "إدلب" مثير للقلق، فما نجح في إدلب لن ينجح في سوريا كاملة.
لا يقتصر تعديل المناهج على حذف كلمة وتعديل أخرى، وخلط الشريعة بالعلوم بشكل فج وغبي. وهذا حقيقة، يثبت انعدام تام للكفاءات التي حملت على عاتقها هكذا مهام خطرة، وكلمة خطرة هنا هي أكثر الكلمات اتساقاً مع السياق الذي يحدث فيه ما يحدث.
كل ما تكلمنا عنه لا يعني أن مناهجنا لا تحتاج إلى تعديلات. بالتأكيد تحتاج، ولكن هذا التعديل عليه أن يصبّ في هدف واحد فقط، وهو مواكبة التطور العلمي الهائل الذي يجتاح العالم كله. نعم، نحتاج للتخلص من الأسلوب السابق والقائم على التبصيم والتحفيظ بعيداً عن الفهم والتطبيق، وعلينا أن نتخلّص من الإرث الثقيل لمنجزات النظام البائد وأسمائه وتعابيره الخشبية، وعلينا العمل على تربية العقلية البحثية القادرة على البحث والاستكشاف والنقد، وهذا يحتاج كفاءات من مختلف التخصصات العلمية، يحتاج عملاً طويلاً ومنهجية محدّدة، يحتاج اختبارات وتحديد للأهداف وتطبيق على عينات صغيرة وتقييم للنتائج قبل اعتماد أي تعديل أو إقراره.
لننظر فقط قليلاً إلى أفغانستان، تلك البلد التي سيطرت عليها جماعة تعيش في ماضيها التليد، فأعادتها قروناً إلى الوراء، إلى حيث لا تستطيع أن تتقدم أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Karem -
منذ يومدي مشاعره وإحساس ومتعه وآثاره وتشويق
Ahmed -
منذ 6 أيامسلام
رزان عبدالله -
منذ 6 أياممبدع
أحمد لمحضر -
منذ أسبوعلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ أسبوعالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ أسبوعوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة