أحدث سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد صدمة كبرى على المستويين الإقليمي والدولي، فمع مغادرة طائرة الأسد نحو موسكو، كان المتظاهرون في دمشق يستعدون للفتك بما تبقى من مبنى السفارة الإيرانية في بلدهم. تزامن ذلك مع نقل معدات عسكرية روسية من مدينة طرطوس الواقعة على الساحل السوري باتجاه ليبيا، لتكون هذه الأحداث شاهدة على انحسار أدوار القوتين التي ضمنت صمود نظام الأسد لـ13 عامًا، ولتبدأ مع هذا السقوط محاولات إقليمية ودولية لملء الفراغ الذي أحدثته الانسحابات الروسية الإيرانية.
على إثر الأحداث السابقة، سارعت قوى إقليمية وعربية للحضور في المشهد السوري المعقد، وهو ما يراه خبراء ومراقبون تحدثوا لرصيف22 بدايةً لصراع نفوذ، وترتيبات إقليمية ربما لا تكون في صالح المنطقة العربية.
تركيا تستعد لملء الفراغ الإيراني
وفي هذا الصدد يقول أستاذ العلوم السياسية، في جامعة قناة السويس المصرية، والمتخصص في الشأن الدولي، الدكتور سعيد الزغبى، إن سقوط نظام الأسد، فتح شهية كلاً من إسرائيل وتركيا لتوسيع نفوذهما الإقليمي، فتحركتا للتمدد في الأراضي السورية سريعاً.
ويقول لرصيف22: "وصول المعارضة لدمشق قدم سوريا على طبق من ذهب للأتراك، إذ كانت أنقرة أول الحاضرين في دمشق، حيث زار وزير خارجيتها هاكان فيدان العاصمة السورية، وتجول في شوارعها برفقة قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)".
خبير: "الساحة السورية تحولت لمنطقة صراع إقليمية بين 6 دول حيث تنتشر القوات الأمريكية والروسية كقوى دولية متنافسة، يضاف إليها قوات تركيا وإيران وإسرائيل كقوى إقليمية، بالإضافة للجماعات المسلحة المحلية، ومنها القوات الكردية التي تتحالف مع جهات دولية وتعادي جهات إقليمية أخرى"
على الجانب الآخر، استغلت إسرائيل الظروف التي تعيشها البلاد، وتوغلت في المناطق الجنوبية الغربية منها، وظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يتفقد جنوده داخل العمق السوري. وبحسب ما يراه الزغبي، ضمن التحولات الإقليمية الجديدة، فمن المستبعد أن تنسحب إسرائيل من هذه الأراضي قريباً، بعدما أخذت الضوء الأخضر من واشنطن.
6 قوى تتصارع في سوريا الآن
يقول الزغبي إن الساحة السورية تحولت لمنطقة صراع إقليمية بين 6 دول حيث تنتشر القوات الأمريكية والروسية كقوى دولية متنافسة، يضاف إليها قوات "تركيا وإيران وإسرائيل" كقوى إقليمية، بالإضافة للجماعات المسلحة المحلية، ومنها القوات الكردية التي تتحالف مع جهات دولية وتعادي جهات إقليمية أخرى.
وتظهر حالة التنافس في التصريحات الصادرة عن القوى الإقليمية الثلاث المتصارعة في سوريا، ففي الوقت الذي اعتبرت فيه تركيا التوغلات الإسرائيلية في الجولان وجبل الشيخ، تعدياً على السيادة السورية، ردت خارجية الخاريجة الإسرائيلية بهجوم مماثل على أنقرة، مؤكدة رفضها للتصريحات التركية.
وقالت الخارجية الإسرائيلية إن تركيا هي آخر دولة يجب أن تتحدث عن احتلال سوريا، لأنها تحتل 15% من الأراضي السورية، ونفذت اعتداءً منهجياً على سوريا عبر عمليات عسكرية في الأعوام 2016، 2018، و2019، كما أنشأت مناطق خاضعة لوكلائها، إذ تعمل مجموعات مسلحة مثل "الجيش الوطني السوري" تحت سيطرتها.
وعطفاً على هذه الملاسنات، اعتبرت صحيفة كيهان الإيرانية ما قاله وزير الخارجية التركي عن ضرورة أن تتعلم إيران وروسيا مما حدث في سوريا، مجرد ثرثرة.
عدم استقرار مفتوح
حالة التنافس هذه، يقول عنها الباحثان في مركز مالكوم كارينغي للشرق الأوسط، خضر خضور وأرميناك توكماجيان، إنها قد تنتج عدم استقرار في المنطقة، مؤكدين في ورقة بحثية لهما، أن استمرار العنف بشكل رئيسي في المناطق الحدودية، التي تسيطر عليها الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، قد يؤدي إلى انفجارات داخلية لها تداعيات إقليمية في نهاية المطاف.
يرى خبراء أن أكبر التحديات التي تواجه النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، هو ملف الصراع الإسرائيلى الفلسطينى، بينما يُعتبر الملف الكردي أكبر التحديات التي تواجه النفوذ التركي المتنامي.
بناءً على ما سبق، يرى الباحث فالي نصر، أستاذ كرسي ماجد خضوري للشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط بمدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز، أن أي فراغ ستنسحب منه إيران في المنطقة ستملؤه تركيا، لافتاً في مقال له إلى أنه مع مرور الوقت يمكن لتركيا حصد المكاسب وتوسعة نفوذها في كل في لبنان والعراق، خاصة أن موقف إيران في هذين البلدين يضعف مع خسارة سوريا.
الصراع قد ينتقل للقوقاز وأفريقيا
ويشير نصر إلى أن ما حدث في سوريا قد يشجع تركيا على محاولة تكرار الأمر في مناطق أخرى، متوقعاً أن تكون الخطوة المقبلة دعم أذربيجان (حليفة أنقرة) لفرض سيطرتها على طريق ممر زانجيزور التجاري الذي سيربط أذربيجان وأرمينيا بتركيا، وهو ما يهدد النفوذ الإيراني، مؤكداً أن إيران تعتبر تركيا منافساً إقليمياً يتحدى مناطق نفوذها في الشرق الأوسط والقوقاز.
وفي هذا الصدد، يتوقع الزغبي أن ينحسر أيضاً الحضور الروسي في سوريا والمنطقة العربية، لافتاً إلى أن الروس يرون أن أوكرانيا تمثل أهم أولوياتهم حالياً، وأن موسكو، وإن كانت سوريا هي بواباتهم للمتوسط، تخشى من التغيرات التي قد تحدث خلال الأشهر القليلة المقبلة، فلم تعد خطوات بايدن التي سيقدم عليها قبل رحيله عن البيت الأبيض متوقعة تماماً، كما أن الأسابيع الأخيرة شهدت توغلاً كبيرا للأوكران في الأراضي الروسية.
وتوقع الأكاديمي المصري أن تتمدد روسيا خلال الفترة المقبلة في أفريقيا جنوب الصحراء، حيث بدأت عقد اتفاقيات مع حكومات أفريقية، تضمنت التنازل عن جزء من الديون الروسية مقابل إسناد مشروعات في البنية التحتية لشركاتها.
الغاز قد يقرّب أنقرة من تل أبيب
رغم التلاسن الإسرائيلي التركي بعد أحداث سوريا، يرى الزغبي أن المصالح قد تجمع الطرفين سريعاً، مستدلاً بما حدث في 2022 إذ أعلنت الدولتان عن تحالف الطاقة، الذي تم إحياؤه بعد سنوات من الموات، موضحاً أن تركيا ترى أنها أفضل شريك لتوصيل غاز المتوسط الإسرائيلي إلى أوروبا كبديل عن الغاز الروسي، الذي توقف بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
وتتفق مع هذا الطرح الدكتورة شيماء سمير، الخبيرة في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، والتي ترى أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت منبعاً للصراعات الإقليمية والدولية.
وتؤكد لرصيف22 أن تركيا وإسرائيل وظفتا مجموعة واسعة من الأدوات لمدّ نفوذهما في المنطقة، من بينها استخدام الدبلوماسية النشطة لتحسين علاقاتهما بدول الجوار، حيث سعت أنقرة لإصلاح علاقاتها بالدول العربية، وفي المقابل أطلقت تل أبيب حملة تطبيع قبل سنوات مع الدول العربية.
في الوقت الذي اعتبرت فيه تركيا التوغلات الإسرائيلية في الجولان وجبل الشيخ، تعدياً على السيادة السورية، ردت الخارجية الإسرائيلية بالقول إن تركيا هي آخر دولة يجب أن تتحدث عن احتلال سوريا، لأنها تحتل 15% من أراضيها. لكن هذا الصراع لا يمنع تعاون البلدين في مجال الغاز والذي بدأ في 2022 بغية توصيل "الغاز الإسرائيلي" إلى أوروبا من خلال تركيا
وترى أن الدولتين حليفتان للقوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لأن تركيا عضو في حلف شمال الأطلنطي (الناتو) وتستضيف قواعد أمريكية على أراضيها، كما أن الأطراف الثلاث (تركيا والغرب وإسرائيل) يجمعهما العداء الإيرانى مما يجعل كلاً منهم داعماً لسياسة الآخر فى المنطقة.
وترى الباحثة المصرية أن أكبر التحديات التي تواجه النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، هو ملف الصراع الإسرائيلى الفلسطينى خاصة فى الفترة الأخيرة، وهذا ما يضع عقبات أمام العلاقات العربية الإسرائيلية على المستويين الرسمي والشعبي، يقابله تركياً، بحسب الزغبي، الوجود الكردي، كأحد التحديات التي تواجه النفوذ التركي المتنامي، لا سيما في ظل دعم الولايات المتحدة للقوات الكردية في سوريا.
حضور عربي خافت
وينتقد الزغبي الحضور العربي على المستوى الإقليمي، مشيراً إلى أن جامعة الدول العربية لم تظهر على الساحة إلا متأخرة، كما أن اجتماع العقبة الذي عقد في الأردن، وضم وزراء خارجية "مصر والبحرين والإمارات وقطر، والولايات المتحدة، وتركيا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا، بالإضافة إلى الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جاء بعد حوالي 10 أيام من بدء تحرك المعارضة السورية.
ويلفت إلى أنه رغم تقديم هذه الاجتماع لرؤى جيدة بالنسبة لسوريا، هناك عراقيل كثيرة تقف في وجه هذه التوصيات، لا سيما تصنيف "هيئة تحرير الشام" كمنظمة إرهابية في عدد من الدول، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
وعطفاً على ذلك ترى الباحثة شيماء سمير أن المساعي العربية قد تواجه تحديات جسام منها الانقسامات الداخلية التي تعاني منها بعض الدول، وكذلك تعدد الولاءات الدولية، كتبعية بضع دول عربية للقوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية واعتمادها بشكل قوي على الدعم الخارجي، الذي يحول دون استقلال القرار العربي.
دخول عربي محتمل من باب الاقتصاد
وتشير إلى أن الوضع السوري حالياً شديد التعقيد، إلا أنه بالرغم من ذلك فإن العرب يمكن أن يلعبوا دوراً محورياً في سوريا الجديدة، من خلال عدة آليات تتمثل فى الدعم الاقتصادي وإعادة الإعمار، إذ تحتاج سوريا إلى استثمارات ضخمة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية والأمن الغذائي، ويمكن للعرب أن يجدوا موطئ قدم لهم من خلال هذه الآلية، ولكن في الوقت نفسه هناك تحديات عدة، منها حساسية تعامل بعض الدول مع فصائل المعارضة السورية الحالية والتي مازال هناك منها من هو مصنف على قوائم التنظيمات الإرهابية، مما يجعل أي دعم اقتصادي مقدم لسوريا مجهول مصيره.
قد تلعب السعودية والعراق والأردن أدواراً أساسية لاستقرار النظام السوري الجديد، من خلال الاستثمارات، وإذا اعترفت أنقرة بأن قرارات سوريا كدولة عربية تتشكل من خلال علاقاتها مع جيرانها العرب أولاً.
بالعودة للباحث الإيراني فالي نصر، فإنه يقول إن الدول العربية ومن بينها "مصر والأردن ودول الخليج " قد ترى أن انتصار هيئة تحرير الشام، بمثابة صدى خطير للربيع العربي، فبعدما اعتقدت هذه الدول أنها ناضلت طوال السنوات الماضية لسحق الحركات الإسلامية، في بلدانها، جاءت الأحداث السورية لتعيد الأمور 14 عاماً للوراء.
الدور العربي
ويشير نصر في مقاله إلى أن سوريا تسير بخطى سريعة نحو المصير الليبي، إذ أصبحت متورطة في دوامة التنافس الإقليمي، متوقعاً أن تساهم حالة التنافس الإقليمية في إطالة أزمة البلاد ومعاناة سكانها.
على العكس من الطرح السابق تقدم الباحثة برونوين مادوكشس، مديرة مركز "تشاتام هاوس البريطاني" رؤية مغايرة، مفادها أنه بالرغم من التأكيد على الخسارة الفادحة للروس والإيرانيين على المستوى الإقليمي، وأن ذلك قد يعد مكسبا لتركيا، إلا أن سقوط الأسد قد يجلب المتاعب لأنقرة أيضاً، لا سيما التحدي الدائم الذي يمثله المقاتلون الأكراد الذين يسعون إلى الحكم الذاتي.
وترى مادوكشس في مقال لها أن المملكة العربية السعودية والعراق والأردن، قد تلعب أدواراً أساسية لاستقرار النظام السوري الجديد، مؤكدة أنه سيتعين على أنقرة أن تهتم بما يحدث في دمشق، وأن تعترف بأن قرارات سوريا كدولة عربية تتشكل من خلال علاقاتها مع جيرانها العرب أولاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...