لقد استعرضنا في المقال السابق اللاعبين الإقليميين في سوريا وأدوارهم المتوقعة في المستقبل، أو لنقل إمكانية نفوذ كل واحد منهم بما تقدّمه له مزايا الحاضر أو تناقضاته، لكن هذا الاستعراض المبسّط، والمبني على التساؤلات أساساً، لا يفيدنا تماماً ولا يقدم لنا إجابة مقنعة إن لم يترافق مع تصور لما يريده اللاعب الأساس، أو شرطي العالم كما يقال، وهو الولايات المتحدة الأمريكية. هل يعني هذا أن لا شيء يتم إلا إذا قرّرت الولايات المتحدة الأمريكية، أو على الأقل أرادت؟ بالطبع لا، لكن وكما توصف إيران بأنها دولة قوية بأذرعها، فأمريكا دولة قوية بحلفائها في المنطقة.
القصد هو أنه في عالم اليوم، لا توجد دولة قوية لأنها تمتلك سلاحاً وجيشاً قويين فحسب، بل لأن حلفاءها وأوراق ضغطها وتشابك مصالحها مع مكونات بقعة جغرافية ما، أو إقليم ما، هو ما يجعل من هذه القوة قوة نافعة وذات جدوى أو مردود واضح. وأمريكا تجيد لعبة التحالفات، شئنا أو أبينا، وهي تجيد لعبة العصا والجزرة مع الخصوم والأصدقاء على حد سواء. ولهذه الاعتبارات فهي قوة عظمى أولاً، وهي اللاعب الأساس في سوريا حالياً، حتى لو بدا أن تركيا تمسك بزمام الأمور هنا، وإسرائيل تستولي على بقعة جغرافية هناك.
لنحاول إذن رؤية الموقف الأمريكي في سوريا، ومن سوريا الجديدة، من زاويتين؛ أي من زاوية الإدارة الحالية والإدارة القادمة، أو من الزاوية التي طرحناها قبل أسبوعين في عنوان مأخوذ من صحيفة "لوس أنجلوس تايمز"، وهو زاوية "السي آي إيه" مقابل زاوية "البنتاغون"، أو من زاوية الديمقراطيين الجدد، ممثلين بأوباما حول الشرق الأوسط الجديد، وزاوية الجمهوريين الجدد، ممثلين بـ ترامب حول صفقة القرن وسلام إبراهيم، أو من زاوية الحلفاء في المنطقة، وتحديداً في الخليج، آخذين كمثال دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر، وربما نستطيع استعراض الكثير من الزوايا المتوازية والمتضاربة، وصولاً إلى زاوية "كوكا كولا" و"بيبسي كولا" على سبيل التسلية، باعتبار أن كل واحدة منهما تعود إلى أحد الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة.
في عهد ترامب، أي في ولايته الرئاسية الأولى، تم تخصيص جائزة مقدارها عشرة ملايين دولار أمريكي لمن يساعد في اعتقال زعيم "هيئة تحرير الشام"، أبي محمد الجولاني، لكن وزير خارجية الإدارة الديمقراطية الحالية أنتوني بلينكن، يصرّح علناً في اجتماع العقبة قبل يومين، أن إدارته على اتصال دائم مع "هيئة تحرير الشام" وزعيمها "أحمد الشرع".
في عالم اليوم، لا توجد دولة قوية لأنها تمتلك سلاحاً وجيشاً قويين فحسب، بل لأن حلفاءها وأوراق ضغطها وتشابك مصالحها مع مكونات بقعة جغرافية ما، أو إقليم ما، هو ما يجعل من هذه القوة قوة نافعة وذات جدوى أو مردود واضح
جلسات وندوات طويلة تم عقدها في الولايات المتحدة لدراسة الحلم عند الشباب العربي بأوطان مستقرة تلبي طموحاتهم وآمالهم، ولدراسة الظلال التي تغطي هذا الحلم وتمنع تحقيقه، وما هو دور أمريكا المطلوب من أجل تحقيق ذلك.
نتج عن هذه الندوات ما تم تكريسه فيما بعد كمصطلح في السياسة والإعلام بـ "الشرق الأوسط الجديد"، والذي تسعى الإدارة الديمقراطية له. لماذا نقول تم تكريسه؟ لأنه لم يكن جديداً تماماً، فقد نادت به كونداليزا رايس، بعد تمكن الجمهوريين من إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 في عهد بوش الابن. إذن هذا المصطلح حمل أولاً مدلولات مختلفة في عهد أوباما عنها في عهد بوش، وثانياً تم تخصيص الدراسات والموارد لتحقيقه.
هذا التحقيق يتطلب إعادة صياغة لخارطة الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا وفلسطين. لا يطلب الكتاب تقسيم سوريا، لكن الخرائط المنشورة كنتاج للندوات اللاحقة تدعو صراحة لإعادة صياغة المنطقة على أساس طائفي، أو على الأقل انطلاقاً من مكوناتها الدينية ومن مصالح أقلياتها. كل ذلك من أجل الاستقرار لهذا الإقليم المضطرب طائفياً منذ زمن طويل، أما في الأساس منه فهو إعادة موضعة إسرائيل كدولة دينية، أو دولة لجماعة دينية، مقبولة وطبيعية في محيط من الدول المشابهة.
هذه الدول المشابهة معنية بها أمريكا الديمقراطيين كدول حليفة، للحفاظ بشكل أمثل على مصالحها في أمن الطاقة وأمن خطوط التجارة، فهي لا تكتفي بإسرائيل كحليف أوحد ما دامت وحدانية هذا الحليف يمكنها أن تتسبب في نشوء حركات وتنظيمات تزعزع استقرار المنطقة، لهذا فهي تريد حلفاء أكثر، وهذا أفضل بكل تأكيد.
لا يوجد برهان أفضل لهذه الفكرة من سياسة الإدارات الديمقراطية تجاه الملف النووي الإيراني، ففي حين يرى نتنياهو وترامب ضرورة القضاء على إيران، نجد أن أوباما وبايدن والسي آي إيه يعملون ليل نهار لإعادة فتح المفاوضات مع إيران والعمل على احتوائها. هل هذا جديد؟ بالطبع لا، فالصحفية روبين رايت في كتابها تدافع عن حق إيران في امتلاك سلاح نووي على اعتبار أن هذا السلاح هو سلاح ردع لا سلاح خوض حروب، وأن إيران في حال امتلاكه يمكنها أن تتخلى عن سوء سلوكها في المنطقة عبر وكلائها المسلحين.
ما الذي يمكن استخلاصه، إن أضفنا استعجال قطر وتركيا فتح سفارات لها في دمشق، بينما تتريّث الإمارات؟ بالطبع يستطيع أي متابع أن يجري مقارنة إضافية بين خطاب قناة "الجزيرة" المتحمس لهيئة تحرير الشام، وخطاب سكاي نيوز عربية الذي يركز على انتهاكاتها ويضخّمها.
الجولاني من طرفه يدعو إلى "إنهاء الحكم المركزي في سوريا" وهذا يعني، إما التقسيم أو الفيدرالية بين كيانات مستقلة، أو مناطق حكم ذاتي ضمن مسمى واسع وفضفاض لدولة واحدة
إن الخلاصة هي التالية وباختصار شديد:
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه