شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"تبدّدت فرحة انتظار مولودتي في عتمة الخيمة"... أمومة مطوّقة بالاكتئاب في غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مش ع الهامش

منذ ولادة رضيعتها قبل نحو شهر، تحاول الثلاثينية رنين (اسم مستعار) التأقلمَ مع أمومتها الجديدة في ظل حرب الإبادة المستمرّة على قطاع غزة؛ أمومة تقول عنها رنين إنّها مصحوبة بالحزن والبكاء والكآبة.

ببالغ الصعوبة، اقتفينا أثر الخيمة التي تقطن فيها الأم وابنها وزوجها ورضيعتها، بعد محطات من رحلة نزوح قاسية بدأتها العائلة من شمال قطاع غزّة، مروراً بمدينة رفح، وانتهاءً بمنطقة الحي النمساوي غرب مدينة خان يونس جنوبي القطاع.

على باب خيمة مصنوعة من القماش والنايلون وبعض الأخشاب، يلفها ضجيجٌ يكاد لا ينتهي، تروي فيها الأم لرصيف22، ألم المشاعر التي كبّلت إحساسها بالأمومة، قائلة: "في آخر شهر من حملي بدأت أشعر وكأنني أفقد رغبتي في كل شيء؛ مشاعر الأمومة التي شعرت بها لدى ولادة ابني البكر، والشهية للطعام. كذلك الفرح بانتظار المولودة، تبدد وسط عتمة خيمة تفتقر لأدنى مقومات الحياة".

يلتقط زوجها طرف الحديث قائلاً: "عانينا من صعوبة توفير الطعام الصحي لزوجتي كما أي امرأة حامل في غزة. الخضار والفواكه واللحوم والبيض كلها غابت عن الأسواق. وبعد الولادة لم نجد ما يكفي من الحفاضات وحليب الأطفال الصناعي الذي كان لا بد من الاعتماد عليه بعد عزوف زوجتي عن إرضاع طفلتنا نتيجة ما تمر به من ظروف نفسية قاهرة".

وصل بي الحال لأن أرفض الطعام، الأمر الذي أثر على رضاعة طفلي وإصابته بسوء التغذية الحاد

"للوهلة الأولى تملكني شعورٌ أن ما أمر به هو أمر طبيعي نتيجة ظروف الولادة تحت وطأة الحرب، لكن مع استمرار تكثّف هذه المشاعر لأكثر من أسبوعين، أدركت أنا وزوجي أن الأمر ليس طبيعياً"، تؤكد رنين، التي حارت هي وزوجها في تشخصي حالتها، حتى موعد زيارة أقربائها الذين لاحظوا عليها تغيّراً في مزاجها، فكانت النصيحة باستشارة أخصائية نفسية علّها تجد الحل، وتنقذ الأم وابنتها من مستنقع الكآبة الذي غرقت فيه.

"بعد رحلة من البحث عن أخصائية نفسية، أكدت لي الاختصاصيّة أن ما ظهر عليّ هي أعراض اكتئاب ما بعد الولادة"، تقول رنين. وتضيف: "كان لا بد من جلسات الإرشاد والتثقيف والدعم النفسي، قبل أن أضع مولودتي، وذلك لتجنب أعراض الاكتئاب التي قد تتفاقم، سيما في ظل ظروف الحرب والخوف والنزوح المستمر".

ورغم بدء رنين بمرحلة العلاج المتأخر، إلا أنها تأمل في التخلص من اكتئابها. "فهذه تجربة قاسية ومريرة، ولا أتمنى لأي أم أن تخوض مثلها".

ومع استمرار آلة الحرب في إبادة كل شيء، المكان وحياة الفرد ومستقبله، يبدو الخط الفاصل بين الاكتئاب الذي تنتجه الإبادة وبين اكتئاب الولادة، دقيقاً وغير مرئي.

اكتشاف متأخر

أما على جانب آخر من المدينة التي شهدت اجتياحاً برياً إسرائيلياً استمر لقرابة ٤ شهور، فتدور رحى حرب أخرى تخوضها دعاء (اسم مستعار، 29 عاماً) للتخلص من آثار اكتئاب ما بعد الولادة، بعد عودتها إلى ما تبقى من أنقاض منزلها وسط مدينة خان يونس.

تقول دعاء إنها عانت من أعراض الاكتئاب منذ ولادة ابنها الأول، تمثلت في قلة النوم المتزامن مع القصف، وشعورها مع زوجها بأنهما غير مؤهلين لتربية طفلهما، خاصة بسبب عدم توفير ما يكفيه من الملابس والمستلزمات، فجلبتها دعاء مستعملة من قريباتها وصديقاتها.

داخل غرفة صغيرة استطاع زوجها أن يُحكم إغلاقها بما تيسر له من أغطية نايلونيّة وقطع بلاستيكية، وفي بناء آيل للسقوط، تعيش الأم ظروفاً قاسية، يغلب عليها الحزن والإرهاق من ممارسة أي نشاط بدني، فضلاً عن قلة الدافعية لإنجاز أعمالها المنزلية.

"أعراض الاكتئاب ظلت مخبأة. لم نحاول أنا وزوجي فهم ما يجري. سيما وأن استشهاد أختي كان المبرر الذي نسوقه لتفسير حالتي"، تؤكد دعاء.

وتروي ظروف اكتشاف اكتئابها بعد فترة من استفحاله: "وصل بي الحال لأن أرفض الطعام، الأمر الذي أثر على رضاعة طفلي وإصابته بسوء التغذية الحاد".

وتردف: "خلال مراجعتي لإحدى النقاط الطبية التي تتبع لمنظمة أطباء بلا حدود، لعلاج طفلي من سوء التغذية، نصحتني الطبيبة بمراجعة الاختصاصية النفسية، وهكذا فعلت".

تشدد دعاء على أن "جلسات الدعم النفسي كان لها الأثر في عودتها، ولو جزئياً، لممارسة حياتها. لكن الولادة في الحرب تبقى مشبعة بكثير من الهموم والمآسي".

 أعراض الاكتئاب ظلت مخبأة. لم نحاول أنا وزوجي فهم ما يجري. سيما وأن استشهاد أختي كان المبرر الذي نسوقه لتفسير حالتي

جهود لانتشال الأمهات من الاكتئاب

تؤكد أمل أبو عبادة، مديرة مركز دير البلح في برنامج غزة للصحة النفسية، في حديثها لرصيف22 أن وعي السيدات في قطاع غزة بأعراض ومسببات المرض وخطورته ليس بالمستوى المطلوب.

"كثير من الحالات التي نقدم لها الرعاية والدعم للتخلص من أعراض الاكتئاب، نكتشف أمر ولادتها بشكل عابر. ولدى اكتشافنا، نستطيع تشخيص الحالة بشكل أكثر عمقاً، حتى نصل إلى العلاج المناسب"، تقول.

وتشير أبو عبادة إلى عدم وجود إحصائيات دقيقة لنسبة النساء اللاتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة خلال فترة الحرب، إلا أنها تؤكد تزايد مسبباته نتيجة شعور النساء الحوامل المستمر بالقلق والتوتر، وتوجسهن من تردي أوضاع المستشفيات ونقص المعدات الطبية للولادة الآمنة.

وتوضح أبو عبادة أن البرنامج يقدم، عبر طواقم الإسعاف النفسي الأولي، خدمات الدعم النفسي بالتنسيق مع مراكز الإيواء ومخيمات النزوح، ليتم اكتشاف الحالات ومن ثم توجيهها لتقديم الرعاية المطلوبة في المركز عبر مجموعة من الاختصاصيين/ات.

"لكن المركز لا يستطيع حصر جميع الحالات في القطاع، لانعدام الاستقرار وظروف الأمان كما في السابق. فعدد النساء اللاتي يحتجن للرعاية النفسية لا يتناسب وعدد الأطباء والاختصاصيين العاملين"، تضيف.

ولفتت أبو عبادة إلى أن بعض الحالات، وعلى الرغم من معاناتها المتفاقمة من أعراض الاكتئاب، إلا أنها لم تكن على دراية بالتشخيص الفعلي، ويتم اكتشاف ذلك عبر أسئلة الباحثين وتعاملهم مع الحالات، فضلاً عن رفض بعض الحالات التعامل مع الطواقم والاستجابة للعلاج، وبالتالي يتم استخدام التثقيف الصحي الميداني مع تلك الحالات".

خطر يهدد حياتهن الجسدية والنفسية

وتشير تقديرات هيئة الأمم المتحدة للمرأة إلى أن نحو 150 ألف امرأة حامل ومرضعة تواجه عقبات في الحصول على الرعاية قبل الولادة وبعدها، فيما تواجه جميع النساء اللاتي قابلتهن الهيئة تحديات تتعلّق بالتغذية، فقد أشارت 99% منهن إلى أنهن واجهن تحديات للحصول على منتجات ومكملات غذائية. كما عانت 69% منهن من مضاعفات جسدية، كفقر الدم والتهابات المسالك البولية وارتفاع ضغط الدم والولادة المبكرة.

ويشير تقرير الهيئة إلى أن الهجمات الإسرائيلية على المرافق الصحية يعرض النساء الحوامل إلى الخطر على حياتهن، كارتفاع معدلات وفيات الأمهات والمواليد الجدد. فقد خضعت العديد من النساء لولادات قيصرية دون تخدير، منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية.

تشير أبو عبادة إلى عدم وجود إحصائيات دقيقة لنسبة النساء اللاتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة خلال فترة الحرب، إلا أنها تؤكد تزايد مسبباته نتيجة شعور النساء الحوامل المستمر بالقلق والتوتر، وتوجسهن من تردي أوضاع المستشفيات ونقص المعدات الطبية للولادة الآمنة

ولا شكّ أن هذه المعطيات التي تصب في صحة النساء الإنجابية والجسدية، تؤثر بشكل مباشر وحاد على صحتهن النفسية قبل الولادة وبعدها، فضلاً عن خوفهن الوجودي المستمر بفعل آلة الحرب الإسرائيلية.

الخوف من الوصمة

تشير أبو عبادة إلى أن أكثر الصعوبات التي تواجهها الطواقم الميدانية والأخصائيون في اكتشاف الحالات والتعامل معها، هو الوصمة من العلاج النفسي، وعدم تقبل كشف الحالة على طبيب نفسي خوفاً من نظرة المجتمع.

وتوضح أن بعض الحالات كانت تستجيب للعلاج لزيارة واحدة، ثم ترفض إكماله خوفاً من الوصمة التي تسود ثقافة الشخصية العربية عموماً في هذا المضمار.

تلفت أبو عبادة إلى أن جهد المركز ينصب في التوعية، عبر استخدام المنصات الرقمية لإرشاد السيدات الحوامل في كيفية التعامل مع حالات الاكتئاب، مؤكدة أن جهود التوعية كانت أوسع انتشاراً قبل الحرب بسبب توفر وسائل الإعلام التي تدمرت وتوقف عملها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image