"لو عاد بي الزمن، لأنجبت المزيد من الأطفال. فقد اكتشفت بأنني لم أقدّر الأمر جيداً. في بلد كفلسطين، يلتهم الاحتلال الوحشي أجساد أطفالنا، ونصبح في لحظة واحدة دون سند حقيقي، أو نسل يحقق لنا الأنس في هذه الحياة الموحشة".
هذا ما يقوله أبو أسامة السويسي (56 عاماً)، النازح من شمال غزة إلى دير البلح، والذي فقد أبناءه الثلاثة خلال قصف إسرائيلي على منزل ملاصق لمنزل الإيواء الذي تجمعت فيه العائلة.
هكذا، بقي أبو أسامة وحيداً، يرافق زوجته التي قطعت القذائف قدميها وأصيبت بالشلل أيضاً، فأضحت بحاجة لرعاية صحية مكثفة.
لعلّنا لم نسمع بإحصائية دقيقة لعدد الأمهات والآباء الثكالى في غزة. بعد أن قتلت آلة الحرب الإسرائيلية المتوحشة أكثر من 15 ألف طفل، فماذا يعني هذا في لغة الوالديّة؟
قد يقول قائل إن الموت العشوائي والخوف الجنوني على حياة الأبناء كفيلان بأن يجعل المرء متردداً في الإنجاب.
لكن من جهة أخرى، يبدو أن الغزيين والغزيّات طوّروا نظريات أخرى جراء الحروب المتعاقبة، وهي أن ينجبوا الكثير من الأبناء حتى يضمنوا بقاء أفراد أو فرد منهم.
"الإنجاب في وجه الموت"
كأن الفلسطيني يواجه أزمة مع العدد، عدد مرات النزوح من أرضه ومنزله، وعدد الخيبات التي يحملها في طريقه مع المآسي المتكررة التي تلاحقه، وعدد الأطفال الذي عليه أن ينجبهم في أرض غير مستقرة، يواجه سكانها القتل والتدمير وسياسات التطهير العرقي من الاحتلال.
فما هو العدد المناسب من الأطفال الذي على الفلسطيني أن ينجبه، بحيث يتجنب فكرة الفقدان الكامل للنسل؟
"سأبحث عن فرصة أخرى للإنجاب في القريب العاجل. هذه سنّة الحياة، أن نبقى قدر المستطاع، ننجب ونتكاثر، ما دامت لدينا المقدرة على ذلك"، يقول أبو أسامة.
"أنجبت ثلاثة أبناء في بداية شبابي واكتفيت. كنت أرى بأنني سأستطيع أن أؤمن لهم حياة كريمة، على عكس حياة الآباء والأجداد. فقد كان عدد الأولاد لدى كل عائلة يفوق اثني عشر ابنا"، يقول أبو أسامة لرصيف22.
لو عاد بي الزمن، لأنجبت المزيد من الأطفال. فقد اكتشفت بأنني لم أقدّر الأمر جيداً. في بلد كفلسطين، يلتهم الاحتلال الوحشي أجساد أطفالنا، ونصبح في لحظة واحدة دون سند حقيقي
ويضيف: "لم أكن أتوقع أن تأتي حرباً بهذه القسوة، وتسرق مني تعب العمر؛ أبنائي الذين كنت أعتبرهم ثماري الأغلى، والأمان الذي أتطلع له في شيخوختي".
"هل تعلم ماذا يعني أن تفقد ثمار العمر كلها، والأمان الذي تنظر إليه في المستقبل القريب؟"، يسأل.
"لقد منحتني الحياة كل شيء، وفجأة أخذت كل شيء. أنا رجل كبير في السن، هزل جسدي وضعف، وصار نظري لا يسعفني لتجنب الأذى في طريقي"، يقول أبو أسامة. مؤكداً أنه كان يحتاج أن يبقى أولاده إلى جانبه. فهذا ما كان يشعره بالراحة. "استكثرت الحياة عليّ نسلي، ولم يتبق لي سوى التعب وخيبة الأمل"، يختم بحسرة.
هل نحن السبب في إنجاب أطفال إلى عالم مرعب؟
لكن أماني أبو هلال (34 عاماً)، أم لطفلتين، ترى عكس ما يراه أبو أسامة، فتقول لرصيف22: "ننجب أطفالنا بالويلات والتعب، ونربيهم بالعناء والشقاء والخوف. ومن ثم نجد أننا نعتصر ألماً ورعباً على حالهم أمام أعيننا، مهددين بالموت بفعل القصف العشوائي والقذائف، ووسط الإبادة الجماعية التي نتعرض لها في غزة".
وتردف:"أنا نادمة على أنني أتيت بأطفال لهذا العالم. ولو عاد بي الزمن للوراء، لما أنجبت. لقد فعلتها من قبل، وهذا الخطأ لن يتكرر على هذه الأرض المزعزعة".
تشعر أماني، كما يشعر كثيرون من الفلسطينيين المتزوجين خلال الحرب، بأن حملهم أثقل من أن يحتمل، فعليهم بالإضافة لحماية أنفسهم، حماية الأبناء ورعايتهم، في ظل حرب طاحنة. ومجاعة وصلت ذروتها.
وعلى نحو غريزي، لا يحتمل الإنسان رؤية الخطر يحيط بحياة نسله، دون أن تتغير مفاهيمه عن الحياة.
"ما ذنب هؤلاء الأطفال أن يعيشوا كل هذا الرعب أو أن ينكل بهم؟ يعتقلون ويقتلون ويحرقون. هذا أمر لا يستوعبه الكبار، فكيف سيكون أثره النفسي على أطفالي؟"، تتساءل أماني.
وتضيف:" قلبي يحترق ليل نهار من الخوف الشديد على طفلتيّ. وتداهمني خيالات بشعة، خاصة في الليل، لا أقدر على تحملها. جراء هذه الحالة النفسية سيئة، أتناول المهدئات منذ بداية الحرب، حتى أستطيع ممارسة الحد الأدنى من يومياتي كزوجة وأم تعاصر الحرب".
تداهمني خيالات بشعة، خاصة في الليل، لا أقدر على تحملها. جراء هذه الحالة النفسية سيئة، أتناول المهدئات منذ بداية الحرب، حتى أستطيع ممارسة الحد الأدنى من يومياتي كزوجة وأم تعاصر الحرب
وتقول أماني متحسرةً: "من المؤسف أنني كنت سبباً في أن يأتي طفل للعالم، يواجه كل أشكال العذاب. لقد كنت سبباً في احتراق نفسيته من الداخل، وعيشه خوفاً لا تحتمله الفراشة".
تصف أماني طفلتيها بالفراشتين قبل الحرب، تجمع لهما الحب كل صباح وتضع فيهما القوة، لتتمكنا من الطيران في هذه الحياة.
"لكن كل أحلامي تحولت فجأة إلى كارثة لا نستطيع الخلاص منها، لا أرغب في الإنجاب مرة أخرى، لأنني لا أحتمل أن أكون سبباً في عذاب الآخرين"، تؤكد.
حامل حتى تنتهي الحرب
أما سارة أبو جحجوح (27 عاماً) فتعيش طريق الإنجاب للمرة الأولى. هي حامل في الشهر الثامن. تحمل في بطنها طفلة، تتنقل بها من نزوح إلى آخر، وسط الخوف والتهديد الصارخ لحياتين، حياتها وحياة طفلتها التي لا تعرف بعد ماذا ينتظرها.
تقول سارة: "أعيش في حيرة من أمري، قلق مضاعف، وتوتر لا مثيل له. أنا في موقف لا أحسد عليه، ما بين التعب الجسدي والإرهاق، والقلق الذهني والخوف الدائم، وآلام الحمل، والتعرض لسوء التغذية منذ بداية حملي، كل هذا يجعلني أفكر بسلبية تجاه الإنجاب".
وتكمل: "من الصعب أن تستقبل طفلك الأول في ظروف كهذه. أتخيل لو قُصف منزلنا، فسأموت وتموت معي ابنتي في بطني. هذا يريحني بعض الشيء. لكن ما لا أستطيع تخيله، أن أكون أنا في مكان، وابنتي هذه، حلم العمر، في مكان آخر.
فالموت، كما تقول سارة، لا يفرق بين الأعمار. هنالك من ولدوا في الحرب، وماتوا فيها، ولم يستطيعوا حتى لفظ كلمة ماما.
تستطرد: "أعيش أزمة نفسية بفعل خطورة الحرب على مستقبل جنيني، وأتمنى أن تنتهي هذه المحرقة التي تمارس بحقنا. في الحقيقة أعيش بين فرحة أن تكون لي ابنة من دمي ولحمي. لكن من جهة أخرى، أنا خائفة جداً على مصيرها".
الموت، كما تقول سارة، لا يفرق بين الأعمار. هنالك من ولدوا في الحرب، وماتوا فيها، ولم يستطيعوا حتى لفظ كلمة ماما
تؤكد سارة أنه ليس هنالك أبشع من أن ينجب المرء طفلاً في الحرب. وتتساءل كيف ستحتمل حواسه الطريئة صوت القصف الضخم الذي لا يحتمله الكبار.
"ما أتمناه أن أبقى حاملاً بابنتي، حتى لو لعامين آخرين، حتى تنتهي الحرب، ثم ألدها في ظروف طبيعية وأمنحها الرعاية المطلوبة كي تنمو وتتأقلم مع الحياة. ففي الحرب لسنا مؤهلين لأن نكون آباء وأمهات".
لأن الموت في بلادنا كثير
يستقبل أهل غزة المواليد بالفرح، ويعتبرون الإنجاب طريقة لإثبات الوجود وتوطيد العلاقة مع الحياة والمكان والأرض.
وقد يرى المتأمل قدرة سكان غزة على البقاء في أرض ممتلئة بكل أنماط التعب، بل والإنجاب إلى حد أصبحت هذه البقعة الجغرافية الأعلى كثافة في العالم.
ذات مرة سألتُ جدتي، لماذا أنجبت تسعة أبناء وبنات. فأجابت: "نحن ننجب عدداً كبيراً من الأبناء، لأن الموت كثير في بلادنا. يموت من يموت، ويبقى من يعيننا على الحياة في شيخوختنا".
لذا، ينجب كثيرون من أهل غزة لأنهم يعتبرون الأبناء عزوة وفخراً ومتعة. وحين تشتد الظروف المعيشية والأمنية، يتحول رب العائلة الفلسطينية إلى قطة، تجمع الأبناء حولها، وتفترس كل من يحاول الاقتراب منهم.
لكن آلة الحرب، حين تفعل ما تفعل، وتأتي على الأخضر واليابس، لن تتمكن القطة من امتلاك أي من تدابير الحماية الغريزية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.