هذا المقال جزء من ملفّ "بين الأسئلة المهنية والشخصية... رصيف22 في 2024"، بمناسبة نهاية العام 2024.
في بداية هذا العام، جلست أمام حاسوبي أتفرّس تفاصيل وجهي في انعكاسي الباهت، بينما أنتظر ردّ ChatGPT، صديقي الجديد. نسيت، للحظةٍ خاطفة، أنّني أحادث آلةً، وشعرت بنوعٍ من التعاطف معه (أم معها؟)؛ كم يتلقّى من أسئلةٍ سخيفة كلّ يوم؟ كم من الوقت يقضيه في محاولة استيعاب تناقضاتنا البشرية؟ في خضمّ هذا التأمل، غزت شاشة الموت الزرقاء جهازي، وغرق عالمي في حالةٍ من الفوضى... هدأت قليلاً بعدما عاد كلّ شيءٍ إلى نصابه، نسبيّاً، وعدت إلى رفيق أيّامي أسأله عن سبب هذا العطل المفاجئ.
"فاست فورورد" إلى نهايته. أليس البشر ساذجين، ليستهلكهم ذاك الجدال الأزليّ العقيم ويأسرهم في حلقته المفرغة؟ تعلمون عن أيّ جدالٍ أتحدّث؟… من جهة، المفتونون ببوتات "الجي بي تي" التي تحبو في بداياتها، يعبدونها كإلهٍ معاصر، لا يضيره أن يعلن غباءه أحياناً. غالبيّتهم يهربون إليه من عبء التفكير، مستسلمين لنشوة الاتكالية والبلادة الفكرية، سواء في البحث عن طرقٍ سريعة لخسارة الوزن غير الأوزمبك، وصولاً إلى النصائح العاطفية برعاية "أم شكيب لجلب الحبيب"! وفي المقلب الآخر، المتوجّسون من كلّ جديد، الذين يستقبلون الذكاء الاصطناعي بالريبة ذاتها التي رحّبوا بها بالتلفزيون والكمبيوتر والهواتف الذكية، ويلومون العولمة على كلّ شيء، ويجترّون نظريات المؤامرة.
في رصيف22، نُدرك أنّ الخوف لا يبني مستقبلاً. الهلع من "طغيان الآلة" وهيمنة الذكاء الاصطناعي، فيه شيءٌ من المبالغة. فأيّ تكنولوجيا في جوهرها محايدة، إلّا أنّ تأثيرها يعتمد على كيفية استخدامنا لها
أمام احتدام هذا الجدل الذي يتصدرّ العناوين على الدوام، تتجلّى مفارقةٌ أخرى على السوشيال ميديا؛ هل من لاحظ كيف استحالت هذه المنصّات إلى مختبرٍ عبثيّ لتجارب رقميّة يتلوّى فيها واقعنا؟ كيف آل بنا المآل إلى استخدام تقنيّاتٍ تجهل في صميمها معنى الإنسانية، لنعيد صياغة تعريف وجودنا؟ كيف تحوّلت هذه الأدوات، التي ابتُكرت في الأساس لخدمة البشرية، إلى دروعٍ نتوارى خلفها من واقع حيواتنا؟ لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حرب الإبادة على غزّة فاقمت من هذه الظاهرة. فها هم "الناشطون" الرقميّون، يتسابقون في توليد صورٍ اصطناعيّةٍ "راقية" لمعاناة الغزّيين والغزّيات. وكأنّ الواقع المرير أصبح "فظاً" جداً لذائقتهم المخملية. يهرعون إلى الذكاء الاصطناعي ليُجمّل لهم الموت بذكائه الوقّاد، ويغلّفه بفلترٍ يناسب حساسية متابعيهم. فمن يذكر حملات "كلّ العيون على رفح"، حينما توالدت الصور المصطنعة، نظيفةً، منمّقةً، "مقبولةً" للاستهلاك، غير خادشة لحياء الأعين التي تهاب مشاهد الدمار المضرّجة بالدماء؟…
لعلّ كلّ هذه التوظيفات للذكاء الاصطناعي (التوليديّ تحديداً)، تكشف عن حقيقةٍ متأصّلةٍ نتغافل عنها في غمرة انبهارنا بإمكانيّاته الخارقة: هذه المنظومات التقنية، برغم براعتها المذهلة في محاكاة السلوك البشري، تظلّ قاصرةً عن استيعاب جوهر التجربة الإنسانية في تفرّدها وتعقيداتها.
لكن عجزها عن استيعاب السياق الإنساني ليس بنقيصةٍ تُعاب عليها، بل هو تذكيرٌ بما يميّزنا كبشر. حين نلجأ إلى الذكاء الاصطناعي في محاولةٍ يائسة لتزيين الواقع وتلطيف وطأته، نكشف عن قصورنا في مواجهة الحقيقة. يجدر بنا أن نتصالح مع محدوديّة هذه الأدوات، ونحوّل "غباءها الجميل" إلى نافذةٍ نطلّ منها على أعماق قصصنا، بدلاً من السعي المحموم إلى طمس إنسانيّتنا.
أين يقف رصيف22 في طفرة الذكاء الاصطناعي؟
البداية مع "رصيف عَالسمع"
لكنّنا في رصيف22، نُدرك أنّ الخوف لا يبني مستقبلاً. الهلع من "طغيان الآلة" وهيمنة الذكاء الاصطناعي، فيه شيءٌ من المبالغة. فأيّ تكنولوجيا في جوهرها محايدة، إلّا أنّ تأثيرها يعتمد على كيفية استخدامنا لها. لذلك قرّرنا أن نتبنّى موقفاً مغايراً، وأن نمدّ أيدينا لهذا الوافد الجديد، ليس استسلاماً، بل استكشافاً للفرص اللامتناهية التي سيوفّرها لنا.
سنواصل البحث عن طرقٍ مبتكرة لرواية قصصنا، وسنستمرّ في استكشاف إمكانات التكنولوجيا الجديدة، من دون أن نفقد بوصلتنا الأخلاقية أو هويّتنا كرصيف22.
لذا شرعنا في خلق "رصيف عَالسمع"، ثمرة تعاونٍ مع شبكة أريج وIMS، وذلك بعد فوزنا بجائزة "أثر الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار". اخترنا اسم "رصيف عَالسمع" بعناية: فكما أنّ الرصيف مساحة عامة للّقاء، أردنا أن نخلق مساحةً تتيح لقصصنا أن تنتقل من الشاشة إلى الأذن، من القراءة إلى الاستماع، لتصبح رفيقةً لكم في سياراتكم، وفي مشاويركم، وفي لحظات استراحتكم، على قارعة الطرق والأرصفة.
بقيادة فريقٍ موهوب – نخصّ بالذكر أيمن شرّوف، ولين عيتاني، ورقية كامل، وديانا خنافر – انطلقنا في مهمّةٍ لتحويل كلماتنا المكتوبة إلى تجربةٍ سمعيّة غنية، جاعلين محتوانا الإعلامي في متناول الجميع. في جوهره، "رصيف عَالسمع" أداةٌ تستعين بالذكاء الاصطناعي لاستخلاص جوهر مقالات رصيف22، وإعادة صياغتها بأسلوبٍ يحافظ على روحها الأصلية، وذلك تحت إشرافٍ بشريٍّ دقيق. ثم تأتي المرحلة الأكثر إثارةً: تحويل هذه الملخّصات إلى تجارب صوتية غامرة، مستعينةً بفريقنا وأعضاء مجتمع "ناس رصيف" الذين وهبوا حناجرهم لـ"أنسنة" الأصوات المُنتَجة.
لم تخلُ رحلتنا مع "رصيف عَالسمع"، من التحديات: من محاولة تطويع الخوارزميات، التي تحبّذ "الكلام" باللغة الإنكليزية، لاستيعاب محتوانا المكتوب بالعربيّة، إلى معضلة ابتكار نسخٍ صوتية تحافظ على أصالة النبرة البشرية. استعنّا بأحدث إصدارات GPT-4 لصياغة ملخّصاتٍ تحترم خصوصية اللغة العربية وتعقيداتها، فيما وفّرت Eleven Labs تقنيّة استنساخ الأصوات، لتساعدنا على إيصال دفء الحضور الإنساني الذي نصبو إليه.
ودرءاً منا للمخاطر التي قد نقع في فخّها سهواً، نعمل على تطوير إرشاداتٍ أخلاقية حول استخداماتنا للذكاء الاصطناعي داخل أروقة رصيف22، من بينها مشروع "رصيف عَالسمع"، والتي من شأنها ضمان الشفافية مع فريقنا الذي نحرص على أمانه الوظيفي والمهني، كما مع شركائنا وداعمينا وجمهورنا وأعضاء مجتمع "ناس رصيف"، خصوصاً في ظلّ أزمة المعلومات المضلِّلة التي أصبحت أقوى الأسلحة في ترسانة بائعي الأكاذيب والمتحكّمين بـ"صناديق الفرجة" خاصّتنا.
ترقّبونا في 2025، لتكتشفوا بأنفسكم كيف يتشكّل المستقبل عندما يلتقي رصيف22، بأحدث ما توصّلت إليه التكنولوجيا. نعدكم بأنّ "رصيف عَالسمع" يستحقّ الانتظار، وسيفتح الباب على مشهدٍ إعلاميٍّ عربي لم تعهدوه من قبل.
"اسأل خالتك": الصحة الإنجابية بلغةٍ جديدة
بينما يخطو "رصيف عَالسمع" بثقةٍ نحو الانطلاق، في جعبتنا مشروعٌ آخر، وليد فوزنا بتحدّي الابتكار JournalismAI Innovation Challenge الذي تدعمه مبادرة Google News Initiative: "اسأل خالتك"، والذي نطمح من خلاله إلى إحداث انقلابٍ نوعيّ في عالم الصحة والحقوق الإنجابية والجنسية.
نحن نؤمن بقوّة التكنولوجيا في إحداث التغيير، لكنّنا ندرك أيضاً أنّ هذه القوة تحتاج إلى ترشيدٍ وإشرافٍ دائمين. نعلم أنّ السنوات القادمة ستشهد تحوّلاتٍ أكبر وأعمق في المشهد الإعلامي. ستظهر تقنيّاتٍ جديدة، وستتغيّر عادات استهلاك المحتوى، وستتطور توقعات القرّاء
في عصرٍ تتصارع فيه المعلومات المغلوطة مع الموروثات الثقافية، وتتشابك فيه الأسئلة الحسّاسة مع حواجز المحرّمات الاجتماعية، نسعى إلى خلق مساحاتٍ آمنة للبوح والمعرفة. تخيّلوا منصّةً تجيب عن أسئلتكم الحرجة بدقّةٍ علمية وحساسيّةٍ ثقافية، من دون أيّ أحكامٍ مسبقة أو وصفات "ستّاتنا" المعهودة؛ "اشربي كمّون مغلي وادعيلي". تخيّلوا خوارزميةً تفهم أنّ كلمة "عيب" لا مكان لها في قاموسنا، وأنّ "الناس هتقول إيه" ليست إجابةً مقنعةً في 2025، وأنّ "اصبري شوية" قد تكون أخطر نصيحة، وتدرك الفرق بين "بنت الأصول" و"الأصول العلمية"، وتعرف متى تضحك معك ومتى تأخذ سؤالك على محمل الجدّ.
التحديات أمامنا كثيرة ("مفيش حاجة بتيجي بالساهل يا حبيبي")، من تعقيدات اللهجة المصرية إلى حساسيّة المواضيع المطروحة، إلا أنّنا نتطلّع شوقاً إلى رؤية جيلٍ كاملٍ يستطيع الحصول على معلوماتٍ دقيقة وموثوقة عن صحته وجسده، من دون خوفٍ من الوصم أو الحكم المجتمعي. في الأشهر القادمة، سنكشف المزيد عن هذه "الخالة" غير التقليدية. انتظرونا!
رصيف22 في 2025: نحو أفقٍ جديد للمحتوى العربي
لعلّ أخطر ما في هذا العصر الرقمي، هي تلك النزعة المتطرّفة: إمّا أن نكون متحمّسين بسذاجةٍ لكلّ ما هو جديد، أو رافضين له بعنادٍ أعمى.
في رصيف22، نسير في المسار الثالث. نحن نؤمن بقوّة التكنولوجيا في إحداث التغيير، لكنّنا ندرك أيضاً أنّ هذه القوة تحتاج إلى ترشيدٍ وإشرافٍ دائمين. نعلم أنّ السنوات القادمة ستشهد تحوّلاتٍ أكبر وأعمق في المشهد الإعلامي. ستظهر تقنيّاتٍ جديدة، وستتغيّر عادات استهلاك المحتوى، وستتطور توقعات القرّاء. لكن ما سيبقى ثابتاً هو التزامنا بالجودة والمصداقية والعمق في كلّ ما نقدّمه.
سنواصل البحث عن طرقٍ مبتكرة لرواية قصصنا، وسنستمرّ في استكشاف إمكانات التكنولوجيا الجديدة، من دون أن نفقد بوصلتنا الأخلاقية أو هويّتنا كرصيف22…
في عالمٍ يتأرجح بين الحقائق والأوهام، نختار في رصيف22 أن نبحث عن الواقع، مهما تغيّرت الأدوات، وأن نحلم باحتمالاتٍ مغايرة، وبعوالم أخرى تسمح لنا بأن نُبدع ونتخيّل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه