شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الحرب الأهلية في السودان... هل الهوية الثقافية هي السبب الخفي للصراع؟

الحرب الأهلية في السودان... هل الهوية الثقافية هي السبب الخفي للصراع؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الأربعاء 11 ديسمبر 202403:25 م

تقوم دوافع الحروب على صراعات المصالح والنفوذ، اقتصادياً وسياسياً، كأحد المحركات والمحددات الرئيسية لأي حرب، لذا، عندما نتناول موضوع الحرب الأهلية في السودان، في ظل ضعف التغطية الإعلامية، نضع في الحسبان، تلك المساحة التي يتقاطع فيها النفوذ، إقليمياً من السعودية والإمارات ومصر وإثيوبيا إلى المصالح الدولية.

مع ذلك، يبقى الحديث والتساؤل حول كيف أصبحت السودان وحربها الأهلية الداخلية شأناً إقليمياً ودولياً؟ مما يُحيلنا بطبيعة الحال للبعد السياسي وما يقوم عليه من بنى ثقافية واجتماعية.

دائماً ما يتم تناول المسألة السودانية من خلال فكرة الثنائيات، المركز والهامش، العرب والأفارقة، المواطن والمستوطن، إلخ، كحقائق واضحة، برغم ذلك، تطمس تلك التقسيمات أطيافاً من مكونات اجتماعية وثقافية أكثر تنوعاً مما تفيده تلك الثنائيات، ففي ظل طريقة الإدارة السياسية ووتيرتها المتقلبة في تاريخ السودان الحديث، من حيث الفشل التحديثي والتمييز الإثني والمصالح الطبقية، فوق ذلك، يقبع ما يمكن إدراجه كـ"حرب ثقافية"، تشير إلى ما تلعبه الثقافة من أدوار فاعلة في اندلاع الحروب الأهلية.

ولذلك، فإن مشهد الحرب الأهلية، يفرض علينا، الفهم والوعي بدينامية التكوينات الاجتماعية التاريخية، من القبلية والطوائف الصوفية وطبقة الخريجيين والمثقفين والمهنيين والعمال، وصولاً لجدلية المواطن والمستوطن.

فالقراءة الأساسية هنا، تبدأ بالبحث عن الكيفية التي دفعت عملية إعادة إنتاج التأزم والعنف الاجتماعي والسياسي وصورتها في "الحرب الثقافية" على المستويات التاريخية والبنيوية، التي تشكلت من خلال استمرارية الإنتاج الرمزي والتنشئة الاجتماعية ومحددات الشخصية، وما تفرزه من مخيلة اجتماعية وسياسية متضاربة في التعامل مع القضايا المصيرية من تنمية وسِلم اجتماعي وديموقراطية وعدالة.

السودان… لون بلا هوية

أطلقت لفظة السودان في اللسان العربي، على المساحة الجغرافية التي تسكنها الشعوب الإفريقية جنوب الصحراء، الممتدة من البحر الأحمر شرقاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً.

فإذا كان التصنيف بناءً على لون البشرة السوداء بين شعوب شديدة التنوع والثراء الثقافي، يعد من المقبول في أي ثقافة اجتماعية، تلجأ لنوع من التعميم في مرحلة تاريخية ما، فإنه ليس من قبيل الصدفة، أن تمتد تلك التسمية للعصر الحديث، وتختفي من كل المنطقة، عدا الحيز الجغرافي والسياسي الحالي (قبل انفصال جنوب السودان) الذي أصبح اسماً لهوية أمة حديثة، بعدما لفظته باقي الشعوب والمناطق. 

دائماً ما يتم تناول المسألة السودانية من خلال فكرة الثنائيات، المركز والهامش، العرب والأفارقة، المواطن والمستوطن، إلخ، كحقائق واضحة. برغم ذلك، تطمس تلك التقسيمات، أطيافاً من مكونات اجتماعية وثقافية أكثر تنوعاً مما تفيده تلك الثنائيات

ربما يكون بيت القصيد لمعنى من اسم الهوية، محملاً ببعض الدلالة عن أزمة الهوية والثقافة، في تعريف الذات "السوداني". لكن كيف أصبح عنوان الهوية، رمزاً للاستلاب الثقافي؟

عُرفت أرض السودان الحالي، قديماً، كمعبر تاريخي للهجرات، وبالتالي كانت موطن للسلالات والثقافات، فكانت سمة التنوع والاختلاف وضعاً لصيقاً بأشكالها الاجتماعية المتعاقبة. لذلك، ظلت قبل الدولة الحديثة، عبارة عن ممالك وأقاليم مستقلة ومتغيرة ولا مركزية، ومعها يحصل التغير الثقافي، بحكم ذلك التنوع المستمر، من التثاقف والتلاقح والانتشار، من الهجرات والغزوات والتجارة.

ومع ذلك، تشتعل الحروب عامة، بشكل ديناميكي وتلقائي، وفقاً لتغير الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وتكون الهوية والثقافة وعناصرها بمثابة ميكانيزم ضروري لأي صراع في التاريخ. لذا فإن قراءة الواقع الثقافي في الحرب الأهلية الحالية (نيسان/أبريل 2023)، يعتمد بشكل أساسي، على مد الأفق إلى جذور التكوين الاجتماعي والثقافي، للحروب الثقافية، ولكي تكون لأي قراءة ثقافية، قدرة على لعب دور استشرافي في حيز الأزمات المستعرة. يكون من الضرورة، رسم المسار الذي تتحرك خلاله القراءة الثقافية للتاريخ الاجتماعي والسياسي "للحرب الثقافية".

يبدو لنا أن فهم أي ثقافة وأزماتها في أي مكان وزمان، وبالتالي بالنسبة إلى الثقافة السودانية، لا يكون بمعزل عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي تُعد حاسمة في قابلية التغير الثقافي وحركته عبر التاريخ، وفي نفس الآن، لا سبيل إلى فهم وتفسير الثقافة السودانية، بل ورصد تأثيرها في اتجاه البناء الاقتصادي والاجتماعي، دون تعيين وظائف وأدوار تلك الثقافة. لذا فبتعريف الثقافة، في إطارها الواسع والأنثروبولوجي، باعتبارها "نمط الحياة أو طريقة متكاملة للعيش"، بمعنى أن الإنسان يبحث عن قوت يومه للبقاء، لتلبية احتياجاته من الأكل والشرب والجنس والمآوى وكل ما يضاف إليها، فتكون الثقافة كميزة تطورية هي الطريقة والسلوك التي ينهجها الإنسان العاقل في إشباع تلك الحجات، سواءً ضرورية أو كمالية.

السودان كمتحف للسلالات والثقافات

لم يحدث في فترة تاريخية أن قامت وحدة مركزية ضمت ممالك أرض السودان معاً، حتى في أرقى فترة حضارية للهوية الكوشية التي تموضعت في التأثر من الشمال المصري (حضارات البحر المتوسط)، في "نبته" (750 ق.م–590 ق.م) على مقومات النمو الاقتصادي والاجتماعي، بل وصلت إلى حد التأثير الفاعل، وحكم مصر القديمة في فترة الأسرة الخامسة والعشرين، ثم تحولت إلى "مراوى"، في وسط السودان (590 ق.م-350 م)، ووقتها تم التداخل مع المحيط الأفريقي الذي أعطاها خصائص هوية مميزة في التنوع.

ومع الانحدار عن السمة الأرقى حضارياً واقتصادياً للهوية الكوشية، ظلت سمة التنوع الثقافي والسياسي للمكون الاجتماعي الرئيسي في حيز القبائل والعشائر، حاضرة مع الممالك المسيحية، حتى سقوط مملكة علوة في 1505م، بعد تحالف قبائل العبدلاب من العرب القواسمة (الجهينة) مع قادة قبائل الفونج، فظهرت مملكة سنار الإسلامية "المملكة الزرقاء".

من هنا، يمكن التركيز على نشأة تمثيل الثقافة العربية الإسلامية، وأسبقيتها التاريخية الزمنية في تأسيس الأمة والدولة السودانية الحديثة، حيث تكونت المركزية على أساس تكوينها الثقافي والاجتماعي. 

قراءة الواقع الثقافي في الحرب الأهلية يعتمد بشكل أساسي، على مد الأفق إلى جذور التكوين الاجتماعي والثقافي للحروب الثقافية، لكي تكون لأي قراءة القدرة على الاستشراف في حيز الأزمات. 

بيد أن التفاوت القائم في البنى الثقافية والاجتماعية، تمخض عبر مراحل تاريخية، رسخت هيمنة الثقافة العربية الإسلامية. في البداية لم يكن "الكيان العربي الإسلامي الجديد قادراً على استيعاب البناءات القبلية والإقليمية ضمن وحدة حضارية ومركزية فعالة"، لكنها خلقت روابط أوسع للصلات والاندماج بين الأقاليم، من خلال التأثير الفعال للطرق الصوفية في أرجاء القارة الإفريقية، حتى قيل: "لولا الصوفية ما تمكن الإسلام من اختراق إفريقيا"، وفي أرض السودان خاصة، ساهمت بدور رئيسي وفعال في انتشار الإسلام في صورة تتجاوز ضيق الروابط والثقافة القبلية، وتستوعب في نفس الوقت الثقافات والعادات الأفريقية، من البنى المادية كالكتاتيب والخلاوي والمساجد، إلى الدمج والتقريب بين الأنساق الثقافية، مثل مفهوم الحكيم الإفريقي وتلاقيه مع مفهوم شيخ الطريقة، تقارب طقوس ودوائر الرقص مع حلقات الذكر، وتماثل دور الساحر مع الولي، لذا كانت الطائفية هي الدائرة الأوسع التي تحاوط القبلية.

بالرغم من إنتاج الصوفية لرموز ومعاني ثقافية إسلامية، حدّت من الولاء القبلي لصالح الولاء للطائفة، إلا أنها لم تتجاوز القبلية قط، إنما أصبحتا دائرتين متداخلتين، وهما كانا بمثابة التربة التي استقبلت بذور المفاهيم والعناصر الثقافية الحديثة، بين القبول والرفض، على مفهوم الفيلسوف الألماني، شبنجلر، لـ"الاستعارة الانتقائية للثقافة".

الحرب الأهلية في السودان والهوية الثقافية

الحرب الأهلية في السودان والهوية الثقافية

الحرب الأهلية في السودان والهوية الثقافية

من الوحدة المتخيلة إلى الذات المستعلية

يمكننا تقسيم التأثيرات الوافدة على مرحلتين؛ الأولى الوحدة المتخيلة، حيث تطورت الفكرة مع الغزو التركي المصري، إذ ترجع نشأة "السودان" كحيز جغرافي وسياسي، إلى وحدة الإدارة المركزية للوالي (محمد علي) في تأسيس الدواوين والاعتماد على القيادات المحلية (1821م)، إذ كانت بوادر الوحدة، وثقافة الهوية حصرية بشكل مهيمن على بؤرة الإدارة والتجارة في وادي النيل في شمال ووسط السودان للقبائل العربية، إذا كان المكون الاجتماعي القبلي والصوفي، حاضراً وحاملاً للذهنية الثقافية. فبالرغم من مقاومة زعماء القبائل وأشهرهم وأكبرهم الجعليون والشايقيون، للدرجة التي أودت بحياة إسماعيل بن محمد علي، محروقاً مع رجاله في شندي.

لكن سريعاً ما انقلب الحال، لتلك القبائل في الاندماج والتقرب للحكم التركي، بما حملته ثقافة الغزو من تقارب تحت قبة الخطاب الإسلامي للخلافة العثمانية، كما أفرزت قبول عائلة الميرغني وطائفة الختمية ذات التاريخ العربي التركي المشترك في مسألة حرب الوهابية للطرق الصوفية. مما ساهم في نشأة طبقة من الإداريين والتجار "الجلابة" بين مصر التركية والقبلية والطائفية في السودان الناشئ، والتي وطدت وأهلت سيادة الثقافة العربية الإسلامية، ناهيك عن الاتصال الثقافي بالمشروع المصري الحديث، بل أن تلك الطبقة دفعت بتوسيع سيادة الحكم التركي المصري، مثلما استطاع تاجر الرقيق، زبير بن رحمة، من قبائل الجعليين، أن يصل بعد صراع ونفوذ إلى تولي ولاية بحر الغزال، ومن ثم نجح بعد ذلك من تحت مظلة العثمانية المصرية أن يغزو إقليم دارفور، ويضمها للحكم المصري في 1874م، لكن كما لعبت صوفية "الختمية" دور القبول، تبلورت صوفية مقاومة للحكم التركي المصري في دور الرفض، فجاءت الحركة المهدية الصوفية من غرب دارفور، والتي سنحت لها الظروف الاجتماعية والتاريخية الإقليمية (مثل انسحاب الجيش المصري تحت ضغط بريطانيا)، أن تؤثر في الوسط النيلي، وإلى طرد الحكم التركي وقيام شكل من الوحدة للدولة المهدية (1885م). 

 قيل: "لولا الصوفية ما تمكن الإسلام من اختراق إفريقيا"، وفي السودان ساهمت في انتشار الإسلام في صورة تتجاوز ضيق الروابط القبلية، إلى التقريب بين الأنساق الثقافية، مثل مفهوم الحكيم الإفريقي وتلاقيه مع مفهوم شيخ الطريقة، وتماثل دور الساحر مع الولي

الحرب الأهلية في السودان والهوية الثقافية

الحرب الأهلية في السودان والهوية الثقافية

الحرب الأهلية في السودان والهوية الثقافية

المرحلة الثانية، يمكن تسميتها بـ"الثقافة المستعلية"، حيث ترعرعت مع عودة الاستعمار، في شكله الثنائي البريطاني/المصري، حيث تشكلت الفكرة القومية الحديثة، من خلال الاتصال بالأفكار الحديثة للأمة والمجتمع من مصدري بريطانيا والحركة الوطنية المصرية.

لقد أفرزت التواؤمات وصراعات المصالح بين قوى الاستعمار كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، والمناوئة بين بريطانيا والمملكة المصرية، إلى تشكل الحركة الوطنية السودانية من مكونات اجتماعية متداخلة من القبلية والطائفية والخرجيين البيروقراطيين والمثقفين في حدود الشمال والمركز العربي الذي غلب الميل داخلها للشمال النيلي لحضارة المتوسط تحت شعار "وحدة وادي النيل" عن الميل لطائفة الأنصار وشعار "السودان للسودانيين".

مثلت هزيمة الحركة الوطنية السودانية بعد فشل ثورة 1924، في تراجع أهداف طبقة الخريجيين والمثقفين الحداثية ضد نفوذ القبلية والطائفية التقليدية، والتي أودت بهم إلى الاندماج والتلاقح في ظلالهما، بحكم السياق التاريخي والاجتماعي، الذي حددت معالمه، عبر صيغة الحكم غير المباشر "الوصاية المزدوجة"، حيث اتجهت السياسات البريطانية الاستعمارية أمام التمردات، وخاصة تكرار وذيوع ادعاءات ظهور المهدي ونزول عيسى، إلى إضعاف دور الوسيط المصري، عبر فتح "كتشنر" كلية غرودن 1902، لتنشئة أجيال بيروقراطية وتكنوقراطية يسهل الاعتماد عليها. ومن ناحية ثانية، تحجيم سطوة الطوائف الصوفية المقاومة، بداية بدعم المذاهب الإسلامية الرسمية "السنية النصية" إلى تقوية هوية القبيلة عن طريق قوانين الإدارة الأهلية، والتمكن من جعلها وحدات إدارية.

أنتجت تلك السياسات التي تتسم بالتغير والتقلب بحسب المتغيرات التاريخية حينذاك، كالحرب العالمية الثانية، نموذجاً أولياً، لحرب ثقافية "سودانية" حول المفاهيم الحداثية للدولة والأمة والهوية والديموقراطية والمواطنة، إلخ.

الدولة والثورة والمليشيا

بالنظر إلى عصر الاستقلال وتقرير المصير في عام 1956، وفي خضم مسار نشأة الدولة الحديثة في السودان، كانت مشكلة الهوية أكثر بروزاً وتحدياً للساسة وللثقافة والمجتمع، في ظل الفترة المحقبة بدول ما بعد الاستعمار (العربية)، فإن ما يمكن تسميته بـ"الحرب الثقافية" كان بمثابة القنبلة الموقوتة، حيث أنه جرى تسويف التمثيل السياسي في هوية "عربية" إقصائية ذات مصالح طبقية، فرضتها اللحظة التاريخية كما ذكرنا، في غض للنظر واضح عن التنوع الهائل الثقافي والإثني المميز لأقاليم السودان، ورغم الاعتراف الصوري في عدة مؤتمرات بالتعددية الثقافية، إلا أن على أرض الواقع، لم تسعَ الدولة الناشئة إلى الاستيعاب والاعتراف بذاك التنوع، مما ساهم في بروز مشكلة جنوب السودان وحروبها الأهلية حتى الانفصال، ومشكلة دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وأصوات الانقسامات المستمرة حتى الآن. 

في خضم نشأة الدولة الحديثة في السودان، فإن  "الحرب الثقافية" كان بمثابة القنبلة الموقوتة، حيث جرى تسويف التمثيل السياسي في هوية "عربية" إقصائية ذات مصالح طبقية، فرضتها اللحظة التاريخية. 

قبعت الحرب الثقافية في التقسيم الجغرافي والاجتماعي للمجتمع والدولة، ما بعد الاستقلال، والتي خلقت من الثقافات والإثنيات المتنوعة، حطباً قابلاً للاشتعال لا للبناء والاندماج معاً. فالهوية الثقافية بشقيها المادي وغير المادي، في السلم والحرب، تقترب وتبتعد من مفهوم الولاء والهوية الوطنية، بحسب موقع الاعتبارات القبلية والطائفية في المقام الأول، خاصة في الأطراف الحدودية المهمشة، حيث سيطرت ذهنية القبيلة التي لا تجد للحدود معنى في حياتها.

وأصبحت الحركة الوطنية والحياة الحزبية السودانية قائمة على الاعتماد على منطق البناء الاجتماعي القبلي والطائفي والبيروقراطي المركزي عدا الحركة العمالية والنقابية التي تجاوزت بشكل ما البعد الطائفي إلى صيغ من الوعي الحداثي.


الحرب الأهلية في السودان والهوية الثقافية

لذا فالثقافات المتعددة والفرعية، ذات تمثيل شكلي، ولا تجد الطريق الممهد للتطور الاجتماعي والاقتصادي المتكافئ؛ مما أنتج تمردات المناطق الثقافية اتجاه المركز، حول إنتاج نفس الرموز والمعاني الثقافية للهوية وللدولة والمجتمع. فكانت الحرب الأهلية التقليدية بين الدولة والثورة، والتي استعانت فيها الدولة بالنزعة الإثنية، في تأسيس مليشيا "الجنجويد" من عرب (الشتات) كالرزيقات، ضد التمردات المسلحة لحركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة المعتمدة على الجنوب وقبائل الفور والزغاوة والمساليت، حتى ضلعت دولة حكومة الإنقاذ الإسلامية بعد جرائم الإبادة العرقية، بشرعنة وجود "الجنجويد" إلى مسمى "قوات الدعم السريع"، وجذرها الاجتماعي في الإثنية والمرتزقة القبلية المسماة "الغنامة"، إلى أن انقلب السحر على الساحر، من تجذير وتسييي القبلية والميليشاوية، بعد الثورة في نيسان/أبريل 2019، فلم تأت الحرب الأهلية الحالية كحدث فجائي، لكنه عبر عن ذروة التمايز الاجتماعي واللاتجانس الثقافي، فوق بنية حراك اجتماعي من النزوح والتوطين والصراع والتمرد والمجاعة والثورة والانفصال.

الحرب الأهلية في السودان والهوية الثقافية

وقد جاءت المفارقة، في حرب الدولة (عرب المركز) والدعم السريع (عرب الشتات)، بعدما تعارضت المصالح بين البرهان وحميدتي، في ضرب الولاءات داخل القبيلة والطائفة والحركة الوطنية ذاتها، مما يعكس بنية الحرب الثقافية للدولة والمجتمع، فبالإضافة للانشقاقات داخل الجيش، فنجد تحالف القوات المشتركة في الفاشر التابعة لحركتي العدل والمساواة وتحرير السودان مع الجيش ضد الدعم السريع، بينما تحالف بعض الديموقراطيين مع الأخير.

وعلى الرغم من ثنائية الجيش والدعم السريع، لكن المشهد يبدو أكثر تعقيداً من تلك الصورة، حيث تكون ما وراء الثنائيات، شبكة متعددة المصالح والتحالفات، وأيضاً مستوى من الصراع الثقافي والهويتي، لا يعمل فقط كميكانيزم دفاعي في الحرب، بل تعد الثقافة عضواً وظيفياً مؤدياً أدواراً أكثر عمقاً في بنية المجتمع والدولة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image