في بيئة من السافانا الغنية، تقع محمية الدندر القومية قرب الحدود السودانية الأثيوبية، في محيط ثلاث ولايات هي سنار والقضارف والنيل الأزرق، وتعد واحدة من أكبر المحميات الطبيعية في أفريقيا، ويحيط بها نهرا الدندر والرهد، فيما تتوسطها ممرات وبرك ومسطحات مائية تحتضن عدداً هائلاً من أنواع الأشجار، وتضم أكثر من 40 نوعاً من الحيوانات و260 نوعاً من الطيور، على مساحة تتجاوز 10 آلاف كيلومتر مربع.
وتمثل الأسود والضباع والقرود والنعام والغزلان والزواحف أهم أنواع الحيوانات فيها، وبالإضافة إلى أنواع الطيور الفريدة التي استوطنت فيها، فإن لها نصيباً كبيراً من أسراب الطيور المهاجرة من أوروبا إلى إفريقيا، والتي تتخذ من المحمية محطةً لها خلال هجرتها الموسمية.
محمية الدندر هي واحدة من عشرات المحميات الطبيعية ومناطق تحريم الصيد التي يضمها السودان، البلد الذي يتميز باحتوائه على قدر هائل من التنوع البيئي عبر مساحاته الشاسعة، ما بين الصحاري القاحلة إلى الغابات الكثيفة والأراضي الرطبة الغنية بالحياة، ولكن هذا التنوع البيئي بات مهدداً لأسباب عدة، إذ تواجه المحميات تحديات جمة تهدد استدامتها.
يضم السودان عشرات المحميات الطبيعية ومناطق تحريم الصيد.
وتعد المحميات الطبيعية واحدة من أهم حصون الحفاظ على التنوع البيولوجي وتالياً حماية البيئة والكائنات الحية، ومع ذلك فإن العديد من العوامل الطبيعية والتحولات البشرية الناجمة عن النشاطات الزراعية والتنمية الصناعية، أصبحت تهدد هذه الأنظمة بشكل كبير.
وبرغم سريان قانون حماية الصيد والحظائر الاتحادية في السودان، والذي صدر عام 1986، ليحظر كل الأنشطة الآدمية وممارسات الصيد أو استغلال الحيوانات والطيور والنباتات والكائنات الحية بطريقة مخربة للحياة البرية والبيئية والطبيعية في الأماكن المحمية والمحجوزة، فإن الإهمال الحكومي وعدم الاستقرار السياسي فتحا الباب لممارسات ألحقت ضرراً بالغاً في المحميات، مما أدى إلى تقلص مساحتها، وتراجع التنوع البيولوجي لها، في ظل اختفاء عدد من الحيوانات والطيور والأسماك والكائنات البحرية.
تنوّع بري وبحري هائل
تتنوع المحميات الطبيعية في السودان بين برية وبحرية، وتعد محميات الدندر والردوم ووادي هور وجبال الحسانية أشهر وأكبر المحميات البرية، وتضم مجموعات واسعة من الطيور والكائنات الحية والنباتات في بيئات السافانا الغنية والأراضي الصحراوية الشاسعة، كما تعكس محميتا سنقنيب ودنقناب البحريتين زخم تنوع الأسماك والكائنات البحرية.
في جنوب ولاية دارفور تقع محمية الردوم الطبيعية على مساحة 14 ألف كيلومتر مربع، وهي ثانية أكبر محمية طبيعة في السودان، وتضم عدداً ضخماً من الأشجار والنباتات بالإضافة إلى عدة فصائل نادرة من الحيوانات والطيور، وتعد حيوانات الجاموس والفيل وأبو عرف وغزال سنجة والزراف أبرز المجموعات الحيوانية التي تنتشر فيها، بالإضافة إلى الحيوانات المفترسة مثل الأسود والفهود والنمور الإفريقية.
ويمتد وادي هور في جنوب الصحراء السودانية، من مرتفعات تشاد إلى المنطقة الواقعة بين الولاية الشمالية وشمال كردفان وشمال دارفور، حيث تقع محمية وادي هور على مساحة 70 ألف كيلومتر مربع، كأكبر محميات السودان وواحدة من أكبر المحميات الطبيعية في العالم، وتضم مجموعة متنوعة من المعالم الجيولوجية الفريدة، مثل حقل ميدوب البركاني وجبل راهب وعدد من البحيرات القديمة التي تنمو على ضفافها نباتات صحراوية فريدة، كما توجد فيها غزلان الأريل والنعام والأغنام البرية.
وفي بيئة صحراوية في ولاية نهر النيل، بين مجموعة من الجبال التي تحيط بها من كافة الجهات، تقع محمية جبل الحسانية، لتضم مجتمعاً ضخماً من أشجار الأكاسيا والنباتات والأعشاب الصحراوية، بالإضافة إلى الفصائل الحيوانية الشائعة في المنطقة كالقطط البرية والأرانب والثعالب والزواحف.
كما يضم السودان محميات طبيعية صغيرة ومناطق محجوزة يحرّم فيها الصيد، مثل محمية الغزالي في الولاية الشمالية، ومحمية جبل الداير الطبيعية في ولاية شمال كردفان، ومحمية مثلث تايا - باسندا - القلابات، ومناطق طوكر والسبلوقة وأركويت وسنكات وغابة السنط.
وفي جزيرة سنقنيب في البحر الأحمر تقع أول محمية بحرية سودانية، حيث ترتفع الشعب المرجانية من قاع البحر إلى نحو 800 متر، ويستوطن في المحمية أكثر من 300 نوع من الأسماك المختلفة والكائنات البحرية. وعلى بعد 125 كيلومتراً شمال بورتسودان تقع محمية دنقناب وتوفر بيئة طبيعية لعدد ضخم من الطيور والثديات والسلاحف والأسماك والحيتان وبقر البحر، وكميات ضخمة من الشعب المرجانية والنباتات البحرية.
نسهم بشكل جاد في أكثر من مشروع للمراقبة الاجتماعية والبيئية للمحميات، ونعمل على تشجيع السياحة الداخلية للمحميات، بالإضافة إلى تعزيز الثقافة البيئية للمواطنين في المجتمعات المحلية عن طريق دورات توعوية وورش عمل مع المتطوعين الشباب
مخاطر وتحديات
بالرغم من هذه الثروة القومية الهائلة التي يتميز بها السودان، فإن العديد من المخاطر والتحديات تلاحق تلك المحميات، وتؤثر على مستقبل الحياة فيها، إذ أفادت تقارير إعلامية بأن مساحة المحميات في السودان تقلصت بنسبة 30% بسبب التغيرات المناخية والأنشطة البشرية، فيما يعد الإهمال الحكومي وعدم الاستقرار السياسي أبرز التحديات التي تواجه مستقبل هذه الثروة القومية.
وفي هذا الإطار، يقول عبد الغني حامد، أحد الناشطين في مركز "معتصم نمر للثقافة البيئية"، إن مختلف المحميات الطبيعية في السودان تواجه مشكلات جمة، يأتي على رأسها الزحف السكاني، مشيراً إلى أن محمية الدندر تواجه منذ أكثر من عشرة أعوام خطر توغل العنصر البشري عليها، وتعتبر ممارسات الصيد الجائر للحيوانات والطيور، وقطع وحرق الأشجار بهدف الحصول على العسل والتجارة غير المشروعة، أبرز السلوكيات العدوانية التي ينتهجها السكان ضد النظام البيئي للمحمية.
ويرصد الناشط البيئي اختفاء أنواع عديدة من الحيوانات كالزرافة والفيل وبعض فصائل الأسود والنمور الأفريقية، بالإضافة إلى انقراض عدد كبير من الطيور البرية والبحرية الفريدة، مطالباً بتعزيز التوعية بأهمية هذه المحميات والتنوع البيولوجي الذي تحتضنه، وتنفيذ القوانين واللوائح المتعلقة بحماية الحياة البرية، وتطوير إستراتيجيات مواجهة التغيرات المناخية.
ويرى حامد في تصريحاته لرصيف22 أن شرطة الحياة البرية تمارس سياسة تعويم القضية، دون التصدي للمشاكل التي تواجه المحمية، في ظل الإهمال الحكومي وعدم الاستقرار السياسي الذي تشهده البلاد منذ فترة طويلة، ويؤكد أن العديد من النزاعات القائمة تنتهي بالغرامات الضئيلة، في غياب للعقوبات الرادعة التي يجب أن تحافظ على مستقبل الحياة البرية في السودان.
نشاطات تعدين الذهب في محيط المحميات تؤثر بشكل مباشر على استقرار النظام البيئي.
وفي نفس الإطار، يقول الدكتور السعدي كارم أستاذ الدراسات البيئية في جامعة كردفان، إن نشاطات تعدين الذهب في محيط المحميات تؤثر بشكل مباشر على استقرار النظام البيئي بداخلها، بالإضافة إلى الآثار البيئية الخطيرة للعملية على المدى الطويل، مشيراً إلى أن تلك الأنشطة البشرية الضارة تنتهجها شركات حكومية وخاصة، وتجبر العديد من المجموعات الحيوانية على الرحيل من بيئتها الطبيعية، بالإضافة إلى أنها تعد المصدر الرئيسي لتلويث مياه الشرب في بحيرات وروافد الأنهار.
ويؤكد كارم لرصيف22 أن التغيرات المناخية تمثل 50% من المخاطر التي تهدد مستقبل الحياة البرية والبحرية داخل المحميات، فاضطراب درجة حرارة البحر الأحمر وارتفاع نسبة التلوث في مياهه أديا إلى انتشار بعض فصائل السرطانات المائية، وغياب أنواع من الأسماك والكائنات البحرية، كما تأثرت الحياة البرية في ظل ازدياد الجفاف والتصحر بسبب ارتفاع درجات الحرارة وتغير نمط الأمطار، بالإضافة إلى زحف الرمال للمناطق الخضراء وتأثيرها على المجاري المائية، ما أدى إلى تقلص الغطاء النباتي.
جهود مجتمعية ومدنية
على أثر الأنشطة البشرية الضارة، وقبل نحو عامين، أطلقت مجموعة من المسؤولين والمهتمين بالحياة البرية في السودان دعوات لحماية محمية الردوم من المخاطر التي تواجهها، التي تشمل نشاطات التعدين وقطع الأشجار، بما تتضمنه من استخدام معدات ثقيلة ومواد كيميائية ضارة، بالإضافة إلى خطر وجود الرعاة وزراعة الحشيش في أطراف المحمية، وجود عدد من المواقع العسكرية للجيش السوداني داخلها.
وفي حين تسعى شرطة حماية الحياة البرية بالسودان لملاحقة شبكات الصيد الجائر والتجارة غير المشروعة، أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان قراراً مفاجئاً في شباط/ فبراير الفائت بإلغاء محمية جبل الحسانية الغنية بموارد الحياة البرية والتنوع البيولوجي والبيئي وأحد معالم الجذب السياحي في البلاد، في محاولة لاسترضاء سكان المنطقة الذين يسعون للزحف على الغطاء النباتي للمحمية واستغلال مواردها الطبيعية.
بالرغم من هذه الثروة القومية الهائلة التي يتميز بها السودان، فإن العديد من المخاطر والتحديات تلاحق تلك المحميات، وتؤثر على مستقبل الحياة فيها، إذ أفادت تقارير إعلامية بأن مساحة المحميات في السودان تقلصت بنسبة 30% بسبب التغيرات المناخية والأنشطة البشرية
وعن جهود مؤسسات المجتمع المدني لحماية المحميات الطبيعية في السودان، يقول عبد الغني حامد: "تسعى مجموعة من الشركاء المحليين والدوليين المهتمين بالحفاظ على الحياة البرية والبحرية الطبيعية، بالتنسيق مع الإدارة العامة لحماية الحياة البرية والمجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية، لترقية التنوع الحيوي والبيئات الطبيعية للحيوانات والكائنات البحرية داخل المحميات الطبيعية في إطار مجموعة من المشروعات، وذلك من خلال دعم استدامة وتحسين وتنمية قدرات إدارة المحميات بشكل علمي في ظل الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة التي تعيشها البلاد، وإيجاد سبل للحياة تستوعب الاحتياجات المعيشية للمجتمعات المحلية التي تستوطن محيط المحميات".
ويضيف: "نسهم بشكل جاد في أكثر من مشروع للمراقبة الاجتماعية والبيئية للمحميات، ونتواصل بشكل دوري مع الهيئات الرسمية لإيجاد حلول للمشكلات التي تضرب المناطق المحمية، كما نعمل على تشجيع السياحة الداخلية للمحميات، بالإضافة إلى تعزيز الثقافة البيئية للمواطنين في المجتمعات المحلية عن طريق دورات توعوية وورش عمل مع المتطوعين الشباب المهتمين بتعزيز نظام الإدارة المتكاملة للنظم البيئية"، مشيراً إلى أن تلك الجهود تتم بالتنسيق والتمويل من عدة جهات مانحة أبرزها المرفق العالمي للبيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.