يتميّز المطبخ السوداني بتنوعه وتعدد مصادره، إذ تندمج خلاله تأثيرات ثقافات مختلفة. علماً أن الطعام يمثّل للسودانيين أكثر من مجرد حاجة غذائية، فهو يقوم على عادات وتقاليد تُعد من الأسس التي تربط الأفراد بعضهم ببعض.
تقاليد المائدة والطعام في السودان
تأثرت المأكولات السودانية بالثقافات المتنوعة التي استوطنت السودان عبر التاريخ، إذ صاغت الثقافات العربية والإفريقية والبريطانية والتركية مزيجاً فريداً للمطبخ السوداني، أدى ذلك إلى تعدد وغنى المأكولات التي تجمع بين المكونات المحلية والعالمية.
في ولاية الجزيرة يشتد الخلاف بين الناس حول استضافة المسافرين، حتى أن أحد المواطنين رفع دعوى قضائية ضد جاره، متهما إياه بـ"سرقة" الضيوف بدون أن يترك له أي مجال لمشاركته في إكرامهم
يعد مشروب "الحلو مر" من المشروبات الشعبية الاجتماعية الرائجة، وتتم صناعته من رقائق طحين الذرة الممزوجة بأطعمة مختلفة من البهارات مثل (الكزبرة، القرفة، الهيل، العرق الأحمر، التمر هندي، الكركديه، والكمون)، لتعطي مذاقاً فريداً يجمع بين الحلاوة والمرارة، وبشكل عام يعد تناول الطعام بكثرة في الأفراح والمناسبات الاجتماعية أحد أشهر طقوس المجتمع السوداني.
موروث المطبخ من الحضارات القديمة
تعد الأطعمة السودانية جزءاً من التراث الثقافي العريق في السودان، وقد تميزت بتنوعها وجودة مكوناتها على مر العصور، وتقول فادية خير الله الباحثة في مجال التغذية البشرية لرصيف22: "ثقافة الأطعمة في المطبخ السوداني تأثرت بالعديد من الثقافات والحضارات، فهناك العديد من المأكولات التي تمتد تاريخياً منذ مملكة كوش القديمة، كـ(الدقة) وهي عبارة عن عجينة مصنوعة من الحبوب المطحونة، ويتم تناولها مع اللبن أو الزبدة أو الجبن، وكان يتناولها الملوك والنبلاء في مملكة كوش القديمة، كما يعد الدجاج المحشي بالأرز والتوابل واللحم المفروم، والكبة السوداني، وطبق البامية باللحم، ضمن أشهر الأطباق الرئيسية السودانية التي تعود لمملكة كوش القديمة".
تنوع المطبخ السوداني يأتي لتأثره بالحضارات القديمة، والثقافة الأفريقية والإسلامية والعربية، والحكم العثماني والاستعمار البريطاني
وتضيف "كما امتزجت بعض أنواع الأطعمة العربية في ثقافة الغذاء بالسودان بعد الفتح العربي الإسلامي، بعدما كانت البلاد تحت السيطرة النوبية، فانتشرت (الفتة) وهي عجينة رقيقة محشوة باللحم والبصل والتوابل، وتقلى في الزيت، ويمكن إعدادها بدون اللحم لتناسب النباتيين، و(المعقودة) وتشبه لفائف السينابون الأمريكية، وتضم مكوناتها الطحين والسمن والسكر والقرفة، كما يعد (الفول المدمس) أحد أشهر موروثات ثقافة الطعام المصرية بالطعام السوداني".
التأثير الشرقي
في نفس السياق يقول الباحث السوداني عبد الغني الرفاعي المهتم بثقافة الحضارة الإسلامية بالسودان لرصيف22: "طبيعة الغذاء في السودان قد تأثرت بشكل كبير من الحكم العثماني للبلاد، والذي استمر لفترة طويلة، فسادت العديد من الأطعمة التركية، مثل (شرائح بوري)، وهي شرائح من الخبز المحمص مع التوابل الحارة والصلصات المختلفة، و(الأوزي) التي تشبه البيتزا في المكونات، و(الكبة المشوية) المحشوة باللحم المفروم والتي تخبز في الفرن وتقدم مع الصلصة، كذلك (بامية الدجاج) التي تجمع بين قطع البامية وقطع الدجاج في طبق واحد، ولم يعرف السودان المُلاح (الإدام) الذي يصنع من الخضروات كالبطاطس والفاصوليا الا في العصر التركي".
التأثير الأفريقي
بحكم الامتداد الجغرافي والثقافي للسودان، تنتشر العديد من المأكولات الأفريقية، وضمن أشهر تلك الأطعمة "الأكلة الحارة" وهي وجبة أفريقية شهيرة تعتمد على الفول والطماطم والفلفل الحار، وتقدم مع الخبز أو الأرز، كما يمثل طبق "العدس بالشنكليش" الذي يصنع من الحليب والزبدة والدقيق إحدى الأطباق الموروثة من الثقافة الافريقية، ويعد "الجلاب" أي عصير الليمون مع النعناع أحد أهم المشروبات التقليدية السودانية خلال شهر رمضان، وأحد أبرز مشروبات المطبخ الأفريقي.
التأثير الكولونيالي
تأثرت الأطعمة السودانية بالحكم البريطاني الذي استمر لفترة طويلة في السودان، وتؤكد ذلك سويداء الشيخ المتخصصة في رصد ثقافة الطعام سودانياً، حيث عبرت في تصريحات خاصة لرصيف22 أن "هناك العديد من الأطعمة السودانية التي تعود لحقبة الاستعمار البريطاني للبلاد، ومن بين تلك المأكولات (اللقوم بالبيض) وهي فطائر محشوة بالبيض المسلوق والطماطم والفلفل والبصل والتوابل، كما يعد (الكعك السوداني) - المحشو بالتمر المبشور والسمسم أحد أبرز الأطعمة في التراث الغذائي السوداني والتي تأثرت بالمطبخ البريطاني أثناء فترة الاحتلال".
تستطرد: "تأثر المطبخ السوداني كثيراً بالثقافة الهندية، حينما أضاف التجار الهنود ثقافة البهارات والتوابل وأسلوب التحضير المميز في الطعام للسودانيين، وانعكس ذلك في عدد من المأكولات التي تأثرت بالثقافة الهندية وانتشرت بالبلاد، مثل (طبق الكاري)، و(السمبوسة المقلية)، و(البيرياني)".
تنوع المأكولات بتنوع الولايات
بين الموروث والتجديد، تأثرت مائدة الطعام في السودان، حيث شهد السودان إقبالًا على المأكولات السريعة التي تقدمها توكيلات المطاعم العالمية خلال السنوات الأخيرة، مما أدى إلى إدخال بعض التغييرات الجذرية على الأطعمة السودانية، الا أن الأطعمة السودانية الأصيلة ما زالت تحتفظ بطابعها التقليدي الفريد والمميز، مع بعض التحديثات البسيطة التي تتيح لها الاندماج بشكل جيد في عالم الطبخ الحديث.
في الشمال والغرب ينتشر "الفسيخ" و"التركين" و"الكجيك”، وهي أسماك يتم تخميرها بطرق خاصة، إما عن طريق تجفيفها أو دفنها، أما اللحم المجفف المنتشر في غرب السودان فيسمى "الشرموط"
تتنوع الأطباق التقليدية في المطبخ السوداني بتنوع الثقافات القبلية للولايات السودانية المختلفة، الا أن هناك العديد من المأكولات الشعبية التي تجمع بين كل الولايات، وان اختلفت طرق طهيها وتحضيرها، وتعد "العصيدة" من أبرز تلك الأطباق، وتتميز ببساطة مكوناتها، فهي عبارة عن دقيق وملح وماء وخميرة، ويمكن إضافة مرق اللحم السوداني أو صلصة التمر الهندي لها، بالإضافة إلى "ملاح الويكة" واسعة الانتشار، التي تصنع من خضار البامية المجففة.
كما تمثل "الكسرة" جزءاً من التراث الغذائي السوداني الجامع لكل ولاياته، ويطلق عليها في بعض الولايات "الدوكة"، وهي نوع من الخبز الشعبي الرقيق المصنوع من الذرة المطحون. أيضاً تحافظ "الأقاشي" و"السلات" على مكانتهما التقليدية في مختلف الولايات، وهما طريقتان مختلفتان لشواء اللحم، بينما يعد "الدبس" المُركز المحلى، أحد أبرز حشوات المعجنات والحلويات في مختلف الولايات السودانية، ويصنع عادة من عصائر التمر والخروب والرمان.
ولا تخلو الثقافة السودانية من الأطعمة المخمرة من الأسماك واللحوم والنباتات، ففي الشمال والغرب ينتشر "الفسيخ" و"التركين" و"الكجيك”، وهي أسماك يتم تخميرها بطرق خاصة، إما عن طريق تجفيفها أو دفنها، كما يطلق على اللحم المجفف في غرب السودان "الشرموط"، بينما يتم تخمير أحشاء الأبقار والجاموس والأغنام في بعض المناطق، ويتم تخمير نبتة "الكول" في غرب السودان، بينما يطلق عليها في الشمال "سوريب" ويستخدمها البعض بديلاً للحم، بينما يستخدمها آخرون كأحد أنواع التوابل، رغم رائحتها الكريهة التي تلاصق الأصابع لفترة طويلة.
اتساع الذائقة باتساع البلاد
تتأثر المأكولات السودانية بالعديد من العوامل الجغرافية والاجتماعية لكل ولاية، وفي هذا الإطار تقول فاطمة المهدي المسؤولة عن تطوير وصفات الطعام بمجموعة "دال" الغذائية لرصيف22: "الأطعمة السريعة مثل الفول والفلافل والفطائر من أكثر الأطعمة شهرة في مطبخ الخرطوم، بينما تعتبر الكسرة والمرق والسلطات والفواكه والحلويات هي الأكلات الأساسية في ولايات نهر النيل، ويشتهر مطبخ الجزيرة بتناول الأطعمة الشامية والعربية، ويتميز بتناول الأكلات الساخنة والمشوية والمحشيات، وفي مطبخ الحوض الشرقي تتنوع الأطعمة الشرق أوسطية والصحراوية، ويتميز بتناول الأكلات الحارة واللحوم الحمراء والحلويات السكرية، كما يعتاد تناول الأطعمة المحفوظة مثل اللحوم المجففة والأسماك المملحة، بينما يتميز مطبخ دارفور بتناول الأطعمة الإفريقية والعربية، والأكلات الحارة المقلية والشوربات، وتنتشر المأكولات البحرية في الولايات السودانية التي تمتلك سواحل على البحر الأحمر والأنهار والبحيرات، مثل ولايات البحر الأحمر وسنار وكسلا والشمالية، ومن الأنواع الشهيرة لأطباق الأسماك والمأكولات البحرية في تلك الولايات، الأسماك المشوية والمقلية، وطبق الكباب البحري الذي يحتوي على الأسماك المتنوعة ويتم تقديمه على شكل كباب على الفحم، وطبق البامية البحرية، حيث يتم طهي البامية مع قطع السمك والمأكولات البحرية والتوابل المميزة".
احتفالات الطعام
هناك العديد من النشاطات والمهرجانات التي تقام في السودان للاحتفال بالثقافة التقليدية في الطعام، فتستضيف العاصمة "الخرطوم" مهرجان الطعام السوداني سنوياً، ويتميز بتقديم الأطعمة السودانية الشهيرة والمأكولات التقليدية من جميع أنحاء البلاد، كما تحتضن مهرجان السودان الدولي للطعام، الذي يضم العديد من المعارض وورش العمل والندوات والمسابقات والفعاليات التي تتعلق بالطعام، وتبين تقنيات الطهي والتحضير المختلفة المستخدمة في المطبخ السوداني، بالإضافة إلى تقديم الأطعمة المحلية للزوار.
أيضاً تستضيف ولاية البحر الأحمر مهرجان المأكولات البحرية، الذي يعرض أشهر المأكولات البحرية في المنطقة، ويتميز بالعروض الفنية والموسيقية والأنشطة الترفيهية، وفي ولاية الجزيرة يقام مهرجان الحصاد، ويشمل تقديم الأطعمة الشعبية التي تقدم خلال فترة الحصاد، ويهدف إلى تعريف الجمهور بالأطعمة الشعبية والمأكولات التقليدية في السودان، وتتيح تلك الأنشطة فرصة للمحليين والزوار للاستمتاع بالطعام الشعبي والتعرف على الثقافة التقليدية للأطعمة السودانية.
أثر الحرب
تؤثر الحرب السودانية على الاقتصاد والحياة اليومية في السودان، وبالتالي على ثقافة الطعام في البلاد، فبسبب الحرب يوجد نقص حاد في المواد الغذائية، وارتفاع موحش في أسعار الأطعمة، مما يجعل من الصعب الحصول على أطعمة غذائية كافية، وقد أثر ذلك على تنوع المأكولات، وعلاوة على ذلك، تعاني بعض المناطق من انعدام الأمن، مما يجعل من الصعب على الناس الذهاب إلى الأسواق والحصول على المواد الغذائية التي يحتاجونها.
لمحبي الطعام الحقيقيين تستضيف الخرطوم سنوياً مهرجان الطعام التقليدي في شهر فبراير/ شباط من كل عام، إضافة إلى مهرجانات أخرى تعلي قيمة الطبخ وتقدر الذواقة
لذا فقد دفعت الندرة والغلاء المجتمع السوداني إلى العودة بشكل أعمق للثقافة التقليدية في الطعام، بعدما غزت ثقافة "الهوت دوج" المجتمع خلال السنوات الأخيرة مع انتشار مطاعم الوجبات السريعة في العديد من الولايات.
تقول خبيرة التغذية الدكتورة مريم الصديق لرصيف22: "الأسر السودانية اضطرت بسبب الظروف الاقتصادية والأمنية الحالية إلى البحث في موروثها الغذائي عن بدائل شعبية، لتتغلب على نتائج الحرب الكارثية، فعادت (القراصة) و(العصيدة) و(المديدة) و(الويكة) بشكل ملحوظ للمطبخ السوداني، كما طفت على السطح وجبات شعبية حديثة، في محاولة للتغلب على غلاء أسعار الطعام".
بين هذا التاريخ الكبير من موروثات الثقافات المتنوعة، والحضارات القديمة، وغزو المستحدثات الجديدة، وتهديدات الحروب والصراعات، يبقى المطبخ السوداني خير شاهد على تاريخ هذا البلد، الذي لا زال يتمسك بإرثه الطويل الحافل، وحده المطبخ السوداني يستحق الحصول على لقب "المطبخ المليوني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...