في استقبالي للفيلم الروماني "العام الجديد الذي لم يأت قط"، استبشرتُ واستشرفتُ ما أتمناه، هنا والآن، واستعجلتُه. وفي متابعتي لبشائر تحرُّر حلب وإدلب وحمص وحماة من قبضة بشار الأسد، تذكرتُ الفيلم الروماني، وتأكد لي أن عدوى الحرية ستصل قريباً إلى دمشق، كما اجتاحت العاصمة بوخاريست واقتلعت حكم نيكولاي تشاوشيسكو الذي فاجأته الثورة، كما فاجأت المشاركين فيها، وقد خرجوا قسرا للاحتفال بالديكتاتور، ودعم شرعيته المترنحة. لا يشغلني أين ينتهي الواقع، وأين تبدأ الدراما؟ فأنا أعيش الدراما، لا أفصلها عن الواقع. كما أقرأ الواقع في ضوء دراما وأخيلة تنحني، أحياناً، احتراماً لدراما واقع يسبقها ويُلهمها.
ما سر شهر كانون الأول/ديسمبر؟ ماذا جرى في رومانيا في مثل هذه الأيام عام 1989؟ ماذا جرى في كوريا الجنوبية الأسبوع الماضي؟ ماذا جرى في سوريا هذه الأيام؟ أسمح لنفسي باستدعاء جملة من روايتي "ليل أوزير" (2008)، عن مستبد حكَمَ قرية، هو وابنه، بالرعب، أربعين سنة، بحيلة بسيطة يمارسها رجاله الذين يحتكرون السلاح، إذ "يضعون الناس في مواجهة مع ضعفهم، كلما كانوا فرادى"، والناس خائفون ما لم يكتشفوا أنهم ليسوا فرادى. ففي كوريا الجنوبية خرجوا اعتراضاً على قرار الرئيس فرضَ أحكامٍ عرفية، بدا الشعب أقوى من الجيش الذي حاصر البرلمان، فاضطر الرئيس إلى الاعتذار، واعتقل وزير الدفاع. لو نجح الانقلاب لربما كُرّم الوزير!
تذكرتُ الفيلم الروماني، وتأكد لي أن عدوى الحرية ستصل قريباً إلى دمشق، كما اجتاحت العاصمة بوخاريست واقتلعت حكم نيكولاي تشاوشيسكو الذي فاجأته الثورة، كما فاجأت المشاركين فيها
فيلم "العام الجديد الذي لم يأتِ قط" يتخلى عن الكلام الكبير، يخلو كلمة تشير إلى الاستبداد، الحرية، الخلاص الجماعي، حتمية الثورة. لا شيء إلا الدراما، الخوف العمومي، الطموح إلى الخلاص الفردي، الرغبة في السلامة الشخصية وتأمين مستقبل الأبناء، ولو بالإجبار على كتابة تقارير أمنية في الزملاء. من هذا الهمس، يقدم المخرج الروماني بوجدان موريشانو عملاً استحق جائزة الهرم الذهبي لأفضل فيلم، في الدورة الخامسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (13 ـ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2024).
كل التفاصيل في هذا الفيلم تنفي وقوعاً وشيكاً لثورة، لكن التفاصيل نفسها هي كل أسباب الثورة. أبطال الفيلم على شفا الانهيار، في دولة تكاد تجربتها الشيوعية تنهار، تنتظر عود ثقاب يشعل نيران الغضب.
كل أبطال الفيلم يعانون من فوائض استبداد تشاوشيسكو، والقبضة لا تسمح بكلمة اعتراض، والرعب من وشاية غير مقصودة من صبي بريء بأبيه. في ذلك الصمت لا أحد يجرؤ على الكلام، ويواصلون الإذعان لاشتراطات الديكتاتورية، متحاملين على آدميتهم، خوفاً من عقاب يسهل أن يسحق أي تمرد فردي. كانوا فرادى، يجمعهم زحام الميدان، لكنهم فرادى، ينتظرون سقوط راية، أو دهس صورة، نزول قطرة مطر تطوحها ريح تنشر الرذاذ، فيبدأ الطوفان بمصادفة، ويكتشفون أنهم كثيرون، أنهم الشعب، وتتلاحم الأجساد بما يسمح بالطفو، فيسبحون في بحر الثورة، غير مبالين برئيس يواصل الخطابة، أو بإذاعة بيانات تؤكد ازدهار الاشتراكية في عصر الزعيم.
في الفيلم ست حكايات لا تخلو من كوميديا سوداء. ممثلة مسرحية ملتزمة كارهة للاستبداد يطلب إليها المشاركة في عرض تلفزيوني للدعاية للرئيس. عجوز ترفض مغادرة بيتها. شابان يخططان للفرار من البلاد، بحثاً عن الحرية. طفل في سن السابعة أرسل أمنية بالبريد إلى بابا نويل، ولا يعي أن الرسالة تهدد حياة أبيه.
تتوازى القصص ولا تتقاطع، في سرد ذكي يؤكد أنهم فرادى لا يتفاعلون، لا يتشاركون مخاوفهم. تجمعهم هموم واحدة، ولا يلتقون إلا في المشهد الأخير، حتى البعيدون ستكون أعينهم شاخصة إلى ساحة شهدت نهاية حكم الطاغية، وكانوا أعدّوها للاحتفال به. بعض هذه القصص لا يتصل مباشرة بالسياسة، وبعضها ذو علاقة بالمؤسسة الإعلامية الرسمية، بالتلفزيون المسؤول عن تجميل صورة الرئيس تشاوشيسكو باعتباره الروح الأبدية لرومانيا الاشتراكية.
المؤسسة الديكتاتورية هشّة، يزلزلها فعلٌ فردي يبدو بسيطاً، هو انشقاق ممثلة شاركت في تسجيل عرض دعائي ستبثه القناة الوطنية في ليلة رأس السنة. انشقاق الممثلة الهاربة أحدث شرخاً في المؤسسة الإعلامية، لا وقت لإعادة التصوير، ولا يستطيعون حذفها من المشهد، وعليهم البحث عن ممثلة تشبهها لإلقاء قصيدة تتغنى بالطاغية، في حين تشهد مدينة تيميشوارا انتفاضة شعبية. يقع الاختيار على فلورينا (الممثلة نيكوليتا هانكو)، لتحل محل الأخرى الهاربة. فلورينا ممثلة ملتزمة، بالمعنى الكلاسيكي للالتزام الأخلاقي، أبوها رجل وطني فكيف تشارك في هذه المسرحية؟ سلوك سيجعلها منبوذة في مجتمعها.
في هذه الحيرة تأتي المسخرة، تطرق باب جارها، وترى إصابة في وجه زوجته. تكلمه عن ضجيج سمعته، فيخبرها أنه ضرب زوجته، ويعتذر عن الإزعاج، ويخشى أن تبلغ عنه، فتفاجئه بأنها تريد كدمة في وجهها، تحت عينها تماماً، مثل التي في وجه زوجته. الرجل لا يصدق، لا يستوعب أن الممثلة تتهمه بأنه يمتهن ضرب الجارات. فتسأل زوجته عن سبب يدعوه إلى الانفعال والضرب، تجيب الزوجة: عندما يسمع سباباً لأمه. تسب الممثلة أمه، فينفعل ويحار، وتخرج فلورينا خائبة، وتحاول إصابة نفسها، وشرخ صوتها، لإنقاذ نفسها من عار المشاركة.
الفيلم بانوراما لمجتمع تحت نظام يتفكك، لا كلام عن الاستبداد وإنما عن آثاره النفسية، عن كبت أراوح يأكلها الخوف؛ فتتحول إلى مسوخ. اعتمد المخرج لقطات مقرّبة، تكشف خلجات نفوس الخائفين. وباستثناء المشهد الأخير في الساحة لا وجود للجموع، لا لقطات عامة، حتى الانتفاضة في مدينة تيميشوارا نسمع عنها ولا نراها. معظم مشاهد الفيلم داخلية، في ستوديو التصوير، في مبنى التلفزيون حيث صورة تشاوشيسكو أعلى من رؤوس الجميع، في بيت نساء وحيدات، في بيت العامل جيلو (الممثل أدريان فانسيكا) الذي يضرب ابنه؛ لأنه كتب خطاباً إلى بابا نويل يطلب أن تكون هدية عيد الميلاد هي موت "العم نيكو"، هكذا كانوا يدللون الرئيس الأب نيكولاي.
ما سر شهر كانون الأول/ديسمبر؟ ماذا جرى في رومانيا في مثل هذه الأيام عام 1989؟ ماذا جرى في كوريا الجنوبية الأسبوع الماضي؟ ماذا جرى في سوريا هذه الأيام؟
يفزع الأب، ويتهم طفله بالخيانة. الابن لم يكذب، لا يعرف معنى الوشاية، قال إنه كتب أمنية قالها أبوه. ويحاول الأب إنقاذ رقبته بمعرفة صندوق البريد. الابن وضع الرسالة في الصندوق الأول، فيخطط الأب لفتحه وإفراغ الرسائل. الأب، في الطريق إلى الصندوقين، يقابل الممثلة فلورينا، في مشهد وحيد يجمع طرفي قصتين، من دون كلام ولا معرفة. وبالليل، في لقطة مقربة، والإضاءة تكشف جانباً من وجهه، تشعر به زوجته يتململ في السرير، فتسأله لمَ القلق بعد أن أفرغ رسائل الصندوق؟ فينهض ويقول إن الولد لم يقل بالضبط هل كان الصندوق الأول وهو ذاهب إلى المدرسة، أمْ في رجوعه إلى البيت؟
تتفجر الكوميديا للتخفيف من فاجعة موت متوقع للأب المرعوب. يعثر على حل آخر، فيملي على ابنه خطاباً تصحيحياً إلى بابا نويل، يوضح أنه يتمنى موت "العم نيكو كيكان"، فيغضب الطفل، ويرفض الكتابة؛ لأنه يحب العم نيكو كيكان، ولا يريد له الموت. يثور الأب المجبر على المشاركة في مسيرة يريد بها الحزب الشيوعي الحاكم اصطناع شعبية زائفة للرئيس، والأخبار تنتشر عن مواجهات بين المدنيين والجيش الذي قتل مواطنين في تيميشوارا، وفي التلفزيون يجربون مونتاج وجه الممثلة بديلاً للهاربة، مع استبدال الصوت بدوبلاج للصوت المشروخ.
كل محاولات المكياج والإصلاح لا تفيد، مع اهتراء الأحوال تكون الثورة حتمية، وها هو العامل جيلو يحمل صورة الرئيس، وآخرون يحملون اللافتات، وتنطلق ألعاب نارية تحرر الحشد الجماهيري من الخوف، فتنتكس الصور والشعارات، وترتفع هامات استعادت حقها في التعبير الغاضب، وتنتهي أربع وعشرون ساعة هي زمن الأحداث، وقد استردوا رومانيا.
كلمة السرّ هي الشعب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...