منذ تموز/يوليو 2013 يحلو للإخوان والمتأخونين، ولغير الإخوان ممن يحترمون الإخوان ولساقطي القيد من غير المتدينين، اتهام المصريين بأنهم عبيد البيادة. والبيادة لمن لا يعرف هي الحذاء العسكري، البسطال، الجزمة. أما العبيد فمعروفون، وقد يتهم عبدٌ أحراراً بالعبودية الراسخة في نفسه، كما تقول نظرية الإسقاط في علم النفس.
ومن كان عبداً لحسني مبارك سارع إلى تقديم أوراق اعتماده إلى الإخوان، وأربكته الأحداث، فانطلق إلى محطة السيسي. وللسيسي جسور علوية ومحطات أرضية ونفقية، سكك تاهَ فيها مَن رغبوا في الخدمة، والعائدون من هذا التيه طبقات من المرتزقة، ينتظرون فرصة استعادة أمجادهم، ومواصلة أدوار أتقنوها في خدمة دولة حسني مبارك وابنه جمال.
الإصلاح في مصر الآن ليس ممكناً، والكتابة عنه ترفٌ وإبراء للذمة. ما جدوى الكتابة؟ لا أكتب الآن في السياسة، قررت إراحة روحي من وجع القلب، والاكتفاء برصد ظاهرة استسهال سباب الشعب، من دون أن يجرؤ "البطل" الشتّام على التظاهر الذي يلوم الشعب على تجنّبه، والشعب لا يبالي بالهتّيفة. ولا أريد إقناع مخلوق بشيء، وأترك الملك للمالك، ولا أناقش من يتهم 25 كانون الثاني/يناير بأنها مؤامرة، ولا من يصف 30 حزيران/يونيو بأنها انقلاب. ما أقتنع به أن الشعب المصري عظيم، متحضر، دعنا من مظاهر قلة الذوق والفجاجة والخشونة، هذه من فوائض القرف واليأس والاعتراض السلبي على الاستبداد. والمواقف الحرجة مختبرات لا تكذب.
الإصلاح في مصر الآن ليس ممكناً، والكتابة عنه ترفٌ وإبراء للذمة. ما جدوى الكتابة؟ لا أكتب الآن في السياسة، قررت إراحة روحي من وجع القلب، والاكتفاء برصد ظاهرة استسهال سباب الشعب
في جمعة العضب، 28 كانون الثاني/يناير 2011، حوصرنا في مسافة محدودة، بين ميدان عرابي وشارعي التوفيقية و26 يوليو. فوق الرصيف تناثر الزجاج، ومن التعب حاولت الاستناد إلى واجهة محل للملابس، فمنعني رجل عجوز يحرس المحل بمعاونة شابين من المتظاهرين، وقال إن رصاص الشرطة دمّر واجهة المحل. ولم يحاول أحد أن يسرق، وهم يتطوعون لحراسة المحل، حتى يأتي صاحبه. تلك الرصاصات، التي دمرت الواجهة الزجاجية للمحل، كانت آخر ما لديهم، نفدت الذخيرة، وبقيت المواجهة بالأجساد والعصي. ثم قطعنا مسافة في شارع طلعت حرب، وهربنا من الغاز إلى شوارع جانبية، ودخلنا "مول طلعت حرب"، ولا أثر لحرس. نتكدس حتى يختفي أثر الغاز، ثم نخرج لنهتف، ونتزاحم مرة أخرى.
لم تمتد يد إلى أي شيء. الملابس والذهب في متناول من يريد السرقة أو التخريب، والثوار أكبر وأعفّ. ولا أظن شيئاً سُرق من "وسط البلد" في ذلك اليوم ولا بعده.
أقارن هذا السلوك الحضاري بسلوك مسلمين مع مسلمين في بدايات تيه ملوك الطوائف. في عام 1010 م، قتل الخليفة المهدي، وطافوا برأسه في الشوارع، "دون أن تُسمع همهمة واحدة، فليس ثمة من يحنّ إلى أيام الطاغية"، كما كتب الدكتور الطاهر أحمد مكي في دراسته عن ابن حزم وكتابه "طوق الحمامة"، وحاصر البربر قرطبة، ثم اقتحموها وقتلوا الحرس، ولجأ الأهالي إلى المسجد، فلم يفرق القتلة في الذبح بين طفل وشيخ وامرأة، ونهبوا المدينة قبل أن يحرقوها، ويجعلوها خرائب. كانت قرطبة الأغنى والأعظم آنذاك، لا تقارن بها بغداد والقاهرة وأي مدينة أوروبية. نهبت القصور وأشعلوا فيها النيران، واختفت آثار مدينتَي الزهراء والزاهرة.
في اختبار التحضّر نجح المصريون بامتياز. وفي اختبار الإرادة يواصل الفلسطينيون التحدي. بصدور عارية وأيدٍ لا تملك إلا الحجارة فرضوا، عام 1987، كلمة "انتفاضة" على معاجم أجنبية بالنطق العربي من دون الحاجة إلى ترجمة. ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أنجز العقل التوليدي الفلسطيني واقعاً جديداً، من مفرداته "المسافة صفر"، تلخص دلالة المصطلح قدرة الشاب الحافي، أو بحذائه الرياضي، على المواجهة، وزرع عبوة ناسفة بيده في أحشاء المدرعة، وتفجير دبابة بجنودها القتلة المرعوبين. الشعوب الحية تبتكر مصطلحات ومعاني، فتنضج اللغة وتتجدد. وبعد النجاح الأول لثورة 25 يناير نهضت الثورة المضادة، فكان مصطلح "الدولة العميقة"، ثم "حزب الكنبة".
الدولة العميقة حقيقة تاريخية انتظرت زلزال الثورة ليصوغها، معنى حاضر بقوة، ومن فرط هذه القوة لا يُذكر ضمن المكونات والعناصر التقليدية للدولة. تفرض الشبكة العريضة، الغويطة أيضاً، من القوى الوظيفية والاجتماعية والبيروقراطية قوانين مكتوبة، وأعرافاً متفقاً عليها، تحافظ على الدولة من التفكك، وتحمي حقوق المواطنين من بطش السلطة. لعلك صادفت عجرفة موظف لا يملك في جيبه ثمن تذكرة الأتوبيس: "اللوائح لا تسمح"، رافضاً توصية وزير. هذا الموظف يستطيع إجراء هذا الاستثناء للمواطن، برشوة معقولة، من دون تأشيرة الوزير. الموظف بحسّه الإنساني، ليكن صاحب مخبز، سائق أتوبيس أو قطار، صلى الفجر في الأيام التالية لجمعة الغضب، واستأنف عمله، والبلد بلا حكومة.
في الأحوال الطبيعة للدولة تترسخ تقاليد وقوانين ملزمة، وينأى أكبر رأس في البلد عن تجاوزها، صوناً لمهابته الشخصية، واحتراماً لرمزية المنصب.
في الأحوال الطبيعة للدولة تترسخ تقاليد وقوانين ملزمة، وينأى أكبر رأس في البلد عن تجاوزها، صوناً لمهابته الشخصية، واحتراماً لرمزية المنصب. أضرب الأمثلة بعدة مواقف، أولها للشيخ مصطفى إسماعيل، وكان يُحيي الذكرى السنوية للملك السابق فؤاد، بداية من عام 1943، بحضور الملك فاروق، ورئيس الحكومة مصطفى النحاس، ووزير الحربية محمد حيدر باشا، ومن رموز المعارضة أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي. واتفق ناظر الخاصة الملكية مراد محسن باشا مع الشيخين أبو العينين شعيشع ومصطفى إسماعيل على التلاوة طوال شهر رمضان، في قصر رأس التين بالإسكندرية، المقر الصيفي الرسمي للملك. وأذيعت التلاوة الرمضانية للشيخين في الراديو، واستمر ذلك التقليد حتى عام 1952.
ذكر كمال النجمي في كتابه "الشيخ مصطفى إسماعيل... حياته في ظل القرآن" أن الشيخ قاطع الإذاعة، لتحديد نصف ساعة فقط للقراءة. زمن لا يمنح صوته المساحة الكافية للتجلي، وقد اعتاد التلاوة ساعات طوالاً، "وكان كلما امتدت ساعات قراءاته ازداد صوته حلاوة ومقدرة، وازداد أداؤه تمكناً وارتياداً لآفاق المقامات، مجلجلاً بجوابات الجوابات التي لا يصل إليها صوت غير صوته، ولا يحكمها أداء إلا أداؤه". وظل الشيخ غاضباً، يرفض التعامل مع الإذاعة، حتى عام 1948. وتعددت شكاوى المستمعين يطلبون سماعه، وخصوصاً بعد انقطاع صوت الشيخ محمد رفعت بسبب المرض. واستطاع حيدر باشا وناظر الخاصة الملكية مراد محسن باشا إقناعه بالعدول عن المقاطعة.
قال الشيخ إن القائد العام للقوات المسلحة كان من "السمّيعة"، مثل مراد باشا رجل الملك، وقد "صارا من أعزّ أصدقائي، قالا لي إن هذا هو نظام الإذاعة الذي لا تستطيع تغييره، وقد رضي به الشيخ رفعت وسائر القراء... وظل الرجلان يتكلمان معي في هذا الشأن حتى اقتنعت". ظل غير قانع بثلاثين دقيقة: "نصف الساعة في الإذاعة ليس هو مصطفى إسماعيل". لعل الرجلين القويين، حيدر باشا وناظر الخاصة الملكية، كانا يستطيعان تغيير "نظام الإذاعة"، وهو نظام غير مقدس، غير أبدي، اجتهاد مسؤولين يستطيعون تغييره أو استثناء الشيخ مصطفى أو غيره، بتوصية أو أمر ملكي. لكن كليهما رجل دولة يعرف مساوئ العبث.
الدولة العميقة حقيقة تاريخية انتظرت زلزال الثورة ليصوغها، معنى حاضر بقوة، ومن فرط هذه القوة لا يُذكر ضمن المكونات والعناصر التقليدية للدولة. تفرض الشبكة العريضة، الغويطة أيضاً
ابتُذل مصطلح "الدولة العميقة"، كأنه يخص دولة مبارك. المعنى أعمق. البيروقراطية المصرية تزيد على 4700 عام، اللوائح أكبر من الحاكم، أقصد الحاكم العاقل بالطبع. أراد وزير التعليم كمال الدين حسين أن يكون المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب تابعاً للوزارة، فاستنكر جمال عبد الناصر: "هل تكون وزير طه حسين والعقاد؟ أنت الأمين العام للمجلس" الذي تأسس هيئة مستقلة تتبع رئاسة مجلس الوزراء. وكان العقاد رئيس لجنة الشعر في المجلس، لا يعترف بشعر التفعيلة، وأثناء الوحدة مع سوريا دعي أحمد عبد المعطي حجازي إلى مهرجان في دمشق. وأبلغوا عبد الناصر رفْضَ العقاد. ردّ بسؤال استنكاري: "هو احنا قدّ العقاد؟". واقترح أن يسافر حجازي، كصحفي في مؤسسة "روزاليوسف"، وهناك يقول شعراً كما يريد ويريدون.
زعيم يعرف أقدار الرجال، لا يهاتر، ولا يقامر بمكانته. وخلفه رئيس تدعمه شرعية نصر عسكري. طلب أنور السادات ملف مصطفى أمين، المحكوم بالسجن المؤبد، منذ اتهامه بالتجسس عام 1965. جاءوا بصورة من الملف، فقال السادات لرئيس جهاز المخابرات العامة إنه يريد الملف الأصلي. ردّ عليه ببضع كلمات: "يا أفندم، الجماعة في الجهاز يقولون إن خروج الملفات ممنوع"، فانتهى الحوار، وانتصر القانون على الرئيس. وكتب رءوف عباس في سيرته "مشيناها خطى"، أن السادات زار جامعة القاهرة، ومما قاله للأستاذة عن مصطفى أمين، إنه "يعلم تماماً أنه "وسخ" وأنه أخرجه من السجن، وأعاده إلى العمل بالصحافة ليتصدّى "للأوساخ" الذين يسمون أنفسهم الناصريين".
في الكيد السياسي، قد يصدر الرئيس عفواً صحياً عن سجين متهم بالجاسوسية أو بقتل مطربة. لا مجال لتحفظات من الدولة العميقة، لكنها عارضت السادات في زيارة مناحيم بيجن لمصر، إذ طلب زيارة قاعدة عسكرية بحرية، فاعترض قائد القاعدة قائلاً للسادات: "ممنوع يا أفندم، هل سمحوا لسيادتك هناك بزيارة قاعدة عسكرية بحرية إسرائيلية؟". احترم السادات لوائح "الدولة".
يروى أيضاً أن السادات كان يحب الشيخ سيد النقشبندي، وأراد اعتماده قارئاً للقرآن، فأخبرته لجنة الاستماع في الإذاعة أن الرجل منشد، مبتهل وليس قارئاً. وأمام إعادة الطلب, قال السادات: "اعتمده يا أفندم بقرار جمهوري!"، فانتهى الحوار.
هذه الوقائع، في مصر الملكية ومصر الجمهورية، جرت في سياق طبيعي، يؤمن فيه الرأس الكبير بأنه يؤدي مهمة سياسية، وليس فتوة في حارة، ولا ندّاً لأشباح يدّعي محاربتهم، فينفعل في اجتماع رسمي مذاع على الهواء، ويتباهى بأنه "مش سياسي".
كانت الحدود واضحة، والمسافة بين الرأس والأجهزة غير منسوفة ولا مستباحة، كما تستباح كل قيمة، ويلوذ مَن يحترم نفسه وتاريخه بالصمت، تفادياً لرذاذ يصيبه في اجتماع عمومي، ويؤدي إلى موته، كما تموت الآن الدولة العميقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 20 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.