أُحبُّ شجاعة الملك كُليب وبصيرته، وأكره استبداده. أتذكّر شبح كليب، وأنا أشاهد الفيلم اليوغوسلافي "برج القوة" في مهرجان القاهرة السينمائي (13ـ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2024). أُفضّل أن أنسب الفيلم إلى دولة اختفت من الوجود عام 1992، وكوّنت شظاياها بضع دول منها صربيا وكرواتيا، والجبل الأسود التي ينتمي إليها مخرج الفيلم نيكولا فيكتشافيك. ولا أظنه يعرف كُليباً. قبل أن يغدر جسّاس بزوج أخته كُليب، سأله ألا يخاف على نفسه؟ فقال: "كل من هم أقلّ من خمسين فارساً لا يُخيفني". سأله جساس: وإذا كانوا أكثر؟ أجاب: "إذا كانوا أكثر أحسستم بهم". هذا ما فعله الألباني المسلم "ور الدين دوكا"، بطل فيلم "برج القوة".
شاهدت ما لا أُحصي من أفلام صنعها عرب مسلمون وغير مسلمين، ومسلمون غير عرب، منها أعمال أمريكية ناطق بالإنكليزية. أعمال موجّهة، مباشرة تهدف إلى تحسين الصورة الذهنية عن المسلمين، أعباء الرسالة أضرّت بالدراما؛ فلم تجد هذه الأفلام مكاناً في الذاكرة.
أظن أن "برج القوة"، الذي أخرجه فنان مسيحي، أهمّ فيلم ينصف المسلمين، يراهم بشراً، لا هم شياطين ولا ملائكة، لا تمنعهم الشجاعة أن يشعروا بالخوف، وفي اختبار الإنسانية ينجحون بامتياز. لا علاقة لي بدين أي مخرج أو مؤلف. وإشارتي، إلى الدين، أرادها نيكولا فيكتشافيك في محاورة مع جمهور المهرجان عقب عرض الفيلم.
أظن أن "برج القوة"، الذي أخرجه فنان مسيحي، أهمّ فيلم ينصف المسلمين، يراهم بشراً، لا هم شياطين ولا ملائكة، لا تمنعهم الشجاعة أن يشعروا بالخوف، وفي اختبار الإنسانية ينجحون بامتياز
في المشاهد الأولى تتباطأ حركة الكاميرا تناغماً مع رتابة إيقاع الحياة، وتبدأ الحرب فتتلاحق المشاهد. لقطات موسعة، في فضاء فسيح، أو غابة ممتدة. في الغابة يذهب نور (الممثل الكوسوفي إيدون ريزفانولي) بصحبة ولده محمد. رحلة لتدريب الصبيّ على فنون الصيد، وإكسابه خبرات جديدة. الابن يسمع إطلاق نار على طريدة، ويبلغ أباه أنه شعر بالخوف من الآخر الذي يحمل سلاحا، وأنه يخجل من خوفه. يقول الأب إن الخوف شعور غريزي لا يجب التعالي عليه، وعلى العاقل أن يتدبر كيفية التغلب على مخاوفه وتفادي الأخطار. ويعودان بغزالة يحملها الأب على كتفيه، فيعترضهما رجال مسلحون.
نور بطلٌ اعتزل القتال والمتحاربين، ويقيم في بيت في الخلاء مع أبيه وزوجته وأبنائه، ويحظى باحترام الجميع، ويلقبونه بحامل الراية. عنوان الفيلم يشير إلى ما يتمتع به من صفات الجسارة والنبل. هو ينتمي عرقياً ودينياً إلى المسلحين الذين يقودهم رجل فظّ يطالب نور بشيء من الطريدة، فالرجال لا يجدون إلا الذرة.
يرفض نور، والآخر يصرّ، وفي إصراره تهديد خفيّ، فيقول له نور: "خذه إن استطعتَ انتزاعه مني"، فينتهي الحوار، ويمضي الرجل وابنه إلى البيت. المفارقة أنهما حين تمكنا من الطريدة، فاجأهما رجل يريد نصيبه، فأولاده جوعى. قال إنه رأى الغزالة أولا، وأطلق عليها النار قبلهما. عن طيب خاطر أعطاه نور فخذاً كاملة. امتن الرجل، واعداً إياه بردّ هذا الجميل.
فيلم "برج القوة" يثبت أن في حياة الأخيار والمثاليين والنبلاء أيضاً دراما. في العادة تكون الدراما من نصيب الأشرار، لديهم خليط من مشاعر متضاربة، وسلوك غير منضبط، غير متوقع، لا يبالون بقانون ولا يراعون قيمة إنسانية، وربما تصحو ضمائرهم فجأة فيكون سلوكهم أكثر نبلاً، وقد تتباين النهايات مع البدايات.
أما الطيبون فحياتهم رتيبة، وسلوكهم مستقيم يخلو من النتوءات ولا يخلق دراما. في هذا الفيلم صراع نفسي يتعرض له رجل شريف عليه أن يواجه معضلة الاختيار بين أمرين كلاهما صعبٌ، عليه وعلى المشاهدين الذين يصيبهم التوتر طوال الفيلم، لا يستطيعون تخمين ماذا سيقرر؟
يحمل الملصق الإعلاني للفيلم هذه الجملة: "في زمن الحرب تصبح الإنسانية أكثر أهمية من أي وقت". الحرب تجلو النفوس، وتميز الأصيل من الزائف، وتجعل البعض وحوشاً، وتعيد البعض إلى آدميتهم. والفيلم يلحّ على التفرقة بين النظرة إلى القيم وصنوف الرجال. الابن محمد يسأل أباه، الذي منح رجلاً غريباً في الغابة فخذاً من الصيد، لماذا لم يعطِ جنود الجيش الذين يعرفونه وينادونه بتبجيل "يا حامل الراية". يجيب الأب بأنهم عصابة، وليسوا جنوداً في الجيش.
تنتمي الفرقة إلى ميليشيا فاشية لا يظهر رئيسها إلا في مشهد واحد ليليّ، في غرفة تبدو مثل السجن. وقد مارست العصابة إرهابا فأحرقت قرية، وقتلت أهلها ومنهم والدا صبيّ هرب ولجأ إلى بيت نور الذي يُفاجأ به حين عاد من الغابة، وتلاحقه العصابة التي تريد "الصبي المسيحي". لا ينجح نور في إثنائهم، فيقصد رئيسهم، ويعهد بحماية بيته إلى فرد من العصابة (الممثل الصربي ألبان أوكاج)، ففي رقبته ديْن قديم يدين به إلى نور. يعطيه الرجل كلمة شرف بمنع المسلحين من اقتحام البيت، حتى يعود من لقاء رئيسهم الذي لا يتنازل عن تسلّم الصبي الذي لا نعرف اسمه، ولا ذنب له إلا أنه مسيحي هارب.
يعرف "حامل الراية" عجزه عن مواجهة الفرقة المسلحة، فيمرّ بالقاضي الذي يعرف تفاصيل المأزق. يقول لنور إنه مخيّر بين رفض تسليم الصبي فيخاطر بقتل أسرته، وتسليم الصبي فيلحق بنفسه العار. يحار نور ويسأله: "ماذا تفعل أيها القاضي لو كنت مكاني". بثقة يجيب القاضي بأنه لن يكون مكان نور. يعيد السؤال: "ماذا لو..."، فيجيب القاضي بأن ابنه محمد يمكن أن يكون فداء.
فيلم "برج القوة" رسالة إنسانية تستند، كما قال صناع الفيلم عقب عرضه، إلى قصة لعائلة المؤلف. الفيلم يعيدني إلى ما بدأتُ به، إلى المسلسل التلفزيوني "الزير سالم" للمخرج السوري حاتم علي
زمن الفيلم ست وثلاثون ساعة، ليلٌ طويل بعد نهار شهد حرائق القرية وهروب الصبي. نور بين خيارين كلاهما أقسى من الآخر. تبكي زوجته، تريد حماية أبنائها، حياتهم عندها أهم من هذا العار الذي يخشونه. خيارها عاطفي يختلف عن قيم يؤمن بها والد نور (الممثل الصربي سلمان يوسفي). خارج البيت يتصاعد غضب العصابة، يهمّون باقتحام البيت؛ فالشمس تكاد تشرق، وتنتهي المهلة، ويتمرد عليهم الرجل المدين بجميل إلى نور، ويؤكد أن الحرب حين تنتهي، وسوف تنتهي لا محالة، سيكون السؤال هو: إلى أي قيمة كان الانحياز؟ وينزع شارة النازي ويلقيها في النار.
وفي البيت يتلقى نور من أبيه دعماً، يحثه على عدم التخلي عن الصبي المسيحي؛ انتصاراً لقيمة إنسانية، وتفادياً لعارٍ يورّثه لأبنائه من بعده. الأب يقرأ يخشوع، باللغة التي تأتي عبر الترجمة كأنها آية "الكرسي"، وبين جملة وأخرى من الآية القرآنية يدعو الله أن يكتب لابنه نور موتاً شريفاً لا يدنس اسمه وشرفه. وكما قال القاضي، سيخرج الابن محمد، يفتح الباب فيراه القتلة، هذا صبي وذاك صبي، وفي النور الشحيح وعمى البصيرة لا يميزون هذا من ذاك. إن في قتله فداء لبقية أفراد الأسرة، ووفاء بصوْن قيمة الشرف التي توجب حماية المستجير.
فيلم "برج القوة" رسالة إنسانية تستند، كما قال صناع الفيلم عقب عرضه، إلى قصة لعائلة المؤلف. الفيلم يعيدني إلى ما بدأتُ به، إلى المسلسل التلفزيوني "الزير سالم" للمخرج السوري حاتم علي.
يلوذ شرحبيل بن مُرّة بعدوّه الزير سالم، يلجأ إليه مدعياً أنه اعتزل الحرب، فيجيره الزير. وفي الليل يسرق الشاب حصان الزير المسمّى "المشهّر"، ويسرع إلى أبيه مُرّة بن ذُهل سيد قبيلة بكر، يزفّ إليه خبر الخديعة، فيضيق صدر أبيه: "لا تحكِ هذه القصة لأحد، لئلا تموت النخوة في نفوس العرب؛ فلا يجير أحد ملهوفاً بعدها".
انتهت الحرب، واختفت يوغوسلافيا من الخريطة، وبقيت هذه القيمة الإنسانية، وأثمرت فيلم "برج القوة" الذي عبر الحدود واللغات، وجاء إلى مهرجان القاهرة في وقته تماماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 6 أيامtester.whitebeard@gmail.com