شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
يفقدون الكلام والحركة والأحلام السعيدة في الليل… هكذا تتجسد الصدمة لدى أطفال غزة

يفقدون الكلام والحركة والأحلام السعيدة في الليل… هكذا تتجسد الصدمة لدى أطفال غزة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لمدة خمسة أيام متواصلة، ظلّت الطفلة وداد مراد (11 عاماً) من شمال قطاع غزة، غير قادرة على الكلام. في اللحظة التي قصف فيها الجيش الإسرائيلي منزلاً في شارع قرب من بيت عائلتها نهاية آب/ أغسطس الماضي، فقدت وداد قدرتها على النطق.

"لقد عانت من صدمة نفسية قاسية. وكانت في تلك الأيام تنظر حولها وتتأمل الأشياء دون أن تنطق بكلمة واحدة. وكلما حاولت النوم تصحو فزعة وتصرخ بصوتٍ عالٍ"، تقول والدتها هناء مراد (35 عاماً) لرصيف22.

حاولت الأم، التي تخرجت من كلية التربية في "الجامعة الإسلامية بغزة" قبل 13 عاماً استثمار معرفتها بأساليب التربية والتعامل مع الأطفال، من أجل محاولة علاج ابنتها في المنزل، والتخفيف من حدة الصدمة النفسية التي تعرضت لها، إلى أن بدأت بالعودة لطبيعتها بعد أيام.

لكنها تشير إلى أن طفلتها لم تتعافَ تماماً من الصدمة، على الرغم من أنها توليها اهتماماً خاصاً وتنام إلى جوارها في الليل لمساعدتها على التعافي.

لقد اضطرت هناء لإيجاد سبل تُخرج ابنتها من الصدمة، بسبب غياب منظومة الطب النفسي وتخصص العلاج من الصدمة في قطاع غزة، لا سيما للأطفال، وفي ظل تفاقم الأوضاع النفسية التي يعاني منها الأطفال مع مرور عام على الإبادة الإسرائيلية لكل شيء يعرفونه عن محيطهم.

في اللحظة التي قصف فيها الجيش الإسرائيلي منزلاً في شارع قرب من بيت عائلتها نهاية آب/ أغسطس الماضي، فقدت وداد قدرتها على النطق

وقد كشف تقرير للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، نُشر عام 2021- بعد شهر من انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة في ذلك العام- عن أن 90% من أطفال غزة يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).

فكيف يمكن تصوّر نسبتهم اليوم بعد عام من مشاهدتهم لحرب الإبادة، وتعرضهم للقصف المباشر والتهجير والتجويع واليُتم، وربما للاعتقال والتعرية ولملمة أشلاء أحبائهم كما رأينا في بعض الفيديوهات المتداولة.

وقد اعتبرت "اليونسيف"، قبل هذه الحرب، أن نصف مليون طفل كانوا بحاجة إلى الدعم النفسي في القطاع. أما اليوم، فتشير تقديراتها إلى أن "جميع الأطفال تقريباً يحتاجون إلى خدمات الصحة النفسية والعقلية، أي أكثر من مليون طفل".

في حين سُجلت شهادات لآباء وأمهات في غزة قالوا إن أطفالهم يعانون من عوارض الصدمة النفسية كفقدان القدرة على الكلام والحركة، كفقدان الشهية والرغبة في التفاعل مع المحيط، والتبول اللاإرادي وغيرها من العوارض. 

"اعتدى الجنود على ابني بالضرب واعتقلوه"

في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، مكث الطفل إبراهيم أبو عودة (13 عاماً)، مع عائلته المكونة من 5 أفراد في مركز إيواء داخل مخيم جباليا.

وفي أحد أيام كانون الأول/ ديسمبر 2023، اقتحمت قوات الجيش الإسرائيلي مركز الإيواء واعتقلته من داخل الغرفة الصفية التي كان فيها.

"اعتدى الجنود على ابني بالضرب خلال اعتقاله. ثم اقتادوه لمكان التحقيق داخل المدرسة"، يقول محمد أبو عودة، والد الطفل، لرصيف22.

ويوضح أن الجنود أمروا العائلة بالمغادرة مع النازحين، وبقي إبراهيم وسط المعتقلين. اعتقل نحو 12 ساعة، ثم أفرج الجيش عنه.

ظل إبراهيم يبحث عن أفراد العائلة لساعات طويلة حتى استدل على مكانهم.

ويصف الأب الحالة النفسية التي وجد ابنه عليها، بالصعبة للغاية، إذ طرأ تغيير على سلوكه بعد تجربة الاعتقال التي تعرض فيها للإهانة والضرب وأجبر على خلع ملابسه.

كان إبراهيم محباً للعب والحياة ويعشق البحر والسباحة ولعب كرة القدم. لكن منذ أن عاش تجربة الاعتقال، تغير كل شيء

"صار إبراهيم ينام ساعات محدودة في الليل بسبب الكوابيس والتبول اللا إرادي. إضافة إلى أن العصبية صارت ملازمة لمعظم تصرفاته"، يقول محمد.

ويردف: "كان إبراهيم محباً للعب والحياة ويعشق البحر والسباحة ولعب كرة القدم. لكن منذ أن عاش تجربة الاعتقال، تغير كل شيء، صار بحاجة للتأهيل والعلاج، حتى يستعيد صحته النفسية. للأسف حتى الآن لا توجد منظومة تقدم تلك الخدمة".

يلفت محمد إلى أن "بعض مبادرات التفريغ النفسي عن الأطفال، والتي يشرف عليها شبان من غزة، التقت بنجله عدة مرات لكن دون جدوى، لأن إبراهيم بحاجة إلى طبيب مختص يعيده لوضعه الطبيعي".

العزلة وفقدان الشهيّة

في بلدة خزاعة شرق محافظة خانيونس جنوبي قطاع غزة، عاش أفراد عائلة قديح حياة مستقرة في بيتهم الجديد الذي بنوه حديثاً.

"فيه وضعت أنا وزوجي جلّ جهدودنا في توفير الرعاية والظروف النفسية السليمة لتربية أطفالنا. لدينا صبيان وبنت"، تقول الوالدة إنعام (33 عاماً) لرصيف22.

لكن الحرب حولت أطفالها إلى نازحين داخل خيمة، يعانون ظروفاً معيشيةً قاسية. وابنها البكر مؤمن (8 سنوات) هو أكثر المتأثرين من أجواء الحرب من بين إخوته، تقول إنعام.

وتضيف: "لقد بدأت معاناتهم منذ نزوحهم من منزلهم الذي دمرته طائرات الاحتلال الإسرائيلي بشكل كامل في كانون الأول/ ديسمبر 2023. إن فقدان مؤمن لعدد من أصدقائه، ولمدرسته والأجواء التي كان يعيشها، أدخله أزمة نفسية لا يزال يعاني من تبعاتها".

وتلفت الأم إلى أن أعراض الأزمة النفسية التي يعانيها مؤمن تتجسد في رغبته بالجلوس وحيداً طوال الوقت، ورفضه لتناول الطعام في معظم الأحيان. كما أنه يعاني في الليل من محاولات طويلة للنوم، فتضطر الأم أن تكون مستيقظة معه حتى ساعات متأخرة حتى يتمكن من النوم.

الآثار الكارثية على حاضرهم ومستقبلهم

تؤكد المتخصصة التربوية حلا أبو سخيلة، التي تعمل في مجال التأهيل النفسي لأطفال غزة داخل مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، في حديثها لرصيف22، أن "الحرب تركت آثاراً نفسية كارثية على الأطفال في غزة، وسببت لهم أزمات لن يكون من السهل تجاوزها بالأنشطة البسيطة أو بالجلسات القصيرة".

وتوضح "الأطفال الذين تعرضوا للاعتقال وفقدوا أفراداً من عائلاتهم وعانوا من الإصابة يحتاجون لعلاج نفسي حقيقي من خلال أطباء مختصين".

وتقدّر "اليونسيف" أن نحو نصف أطفال غزة فقدوا فرداً من أفراد العائلة، وأن 17 ألفاً منهم فقدوا أحد الوالدين أو الاثنين معاً. وتقدر منظمة إنقاذ الطفولة وجود أكثر من 20 ألف طفل مفقود في القطاع، منهم من يُتوقع أن يكونوا أحياءً وليسوا تحت الحطام. 

أما بالنسبة للإصابات الجسدية التي تتسبب أيضاً في تفاقم الحالة النفسية التي يعيشها للإصابات، فتقدر إصابات الأطفال بنصف إصابات عموم الغزيين.

تلفت الأم إلى أن أعراض الأزمة النفسية التي يعانيها مؤمن تتجسد في رغبته بالجلوس وحيداً طوال الوقت، ورفضه لتناول الطعام في معظم الأحيان

وأقرت الأمم المتحدة في اجتماع عُقد هذا الأسبوع، بأن غزة أصبحت موطناً لأكبر مجموعة من الأطفال المبتوري الأطراف في التاريخ الحديث، ويقدّر عددهم بـ4500.

علماً بأن هؤلاء يحتاجون، كما أشار الطبيب الغزي غسان أبو ستة في أكثر من مناسبة، إلى 8-12 عملية جراحية وإلى أطراف صناعية، في حين أن المنظومة الصحية في غزة لا تستطيع توفير هذه الخدمات، الأمر الذي يزيد من معاناتهم ويقيّد من حركتهم ونشاطهم ولعبهم.

وتشير أبو سخيلة إلى أن المتخصصين في مراكز الإيواء "يتعاملون يومياً مع عشرات الأطفال الذين يعانون من الصدمة ومشاكل في النطق والتبول اللإرادي وغيرها من العوارض التي تتركها الأزمات والأمراض النفسية". مؤكدةً أن "علاجهم يحتاج لمنظومة حقيقية تعمل بشكل فاعل ويكون لديها قدرة على استيعاب أعداد كبيرة وحالات مختلفة".

وتذكر أن هناك حاجة "لتصميم برامج تعليمية للأطفال تعزز المرونة النفسية لديهم وتمكنهم من تجاوز الصدمات، كما أنه من الضروري إنشاء برامج أولية لاستيعاب الأطفال بشكل عاجل والمباشرة بعلاجهم".

في حين يقول مشرف الصحة النفسية في وزارة التنمية الاجتماعية بقطاع غزة، محمد حرارة، إن أهم المشكلات النفسية التي يعاني منها الأطفال في قطاع غزة بسبب الحرب، هي "اضطراب القلق، والتوتر، والعدوانية، والاضطرابات النفس- جسمية، وعدم القدرة على التركيز، والتجنب، والعديد من اضطرابات الخوف".

ويضيف، ضمن تقرير أوردته وكالة الأنباء الرسمية الفلسطينية، "المعضلة تكمن في الآثار النفسية للصدمة على المدى البعيد، وهو ما سيعاني منه الأطفال وذووهم في المستقبل".

لكن قطاع غزة، كما يؤكد حرارة، يفتقر حالياً لخدمات الدعم والرعاية النفسية لجميع الفئات. ويحتاج إلى إنشاء فوري لنظام وطني لعلاج الآثار النفسية المتراكمة لدى الأطفال، لإنقاذ حاضرهم ومستقبلهم من الضياع".

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image