شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"لم نجد أثراً له أو لجثته، كأنه تبخّر"... غزيون قد يبحثون طويلاً عن أبنائهم المفقودين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقيقة

الأحد 28 يوليو 202401:47 م

خرج الشاب صبحي المصري (26 عاماً) من بلدة بيت حانون شمالي قطاع غزة إلى مناطق الجنوب في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، في محاولة منه للنجاة بنفسه بعد اشتداد العمليات العسكرية الإسرائيلية وانتشار المجاعة بين المواطنين بسبب حصار الاحتلال ومنعه إدخال المواد الغذائية الأساسية.

اتفق صبحي مع عائلته أن يهاتفهم فور وصوله إلى مدينة دير البلح وسط القطاع، فيطمئنوا أنه وصل بسلام. لكن حتى هذه اللحظة، وبعد مرور أكثر من خمسة أشهر، لم يتصل صبحي.

وكان آخر اتصال بينه وبين والده راشد المصري، قبل أن يصل الحاجز الإسرائيلي الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه بربع ساعة.

"انقطع الاتصال بعد ذلك. وبتنا لا نعرف شيئاً عنه سوى أنه مفقود، رغم كل محاولات البحث والتواصل المتكرر مع الصليب الأحمر"، يقول راشد لرصيف22.

ولعل قصة صبحي تتكرر على نحو شبه يومي منذ بدء حرب الإبادة المستمرة على القطاع؛ فالعائلات تواصل بحثها ليلاً ونهاراً عن أبنائها الذين فُقدوا بفعل الاعتداءات الإسرائيلية وسياسة الاعتقال العشوائية والإخفاء القسري والاجتياحات المفاجئة.

في حين أن عدداً كبيراً ممن فقدوا، يُرجح فقدانهم عند هذه النقطة التي فُقد فيها صبحي، أي حاجز "نتساريم" الذي يشكل ثقباً أسود بالنسبة للغزيين، ولا يعرف المارّ منه إن كان سيمرّ أم سيُقتل أم سيُجر إلى حتفه المجهول.

وفي بيانٍ لها، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنّ نحو 6400 فلسطيني في غزة مدرجون في عداد المفقودين.

وبيّنت أن هؤلاء "إما عالقون تحت الأنقاض، أو أسرى في سجون الاحتلال، أو تم دفنهم من دون تحديد هوياتهم". فيما تقوم عائلاتهم ببحث حثيث عنهم من خلال الاتصالات المستمرة وتعليق الملصقات في شوارع قطاع غزة.

ملصق لطفل مفقود في قطاع غزة

الثقب الأسود المسمّى حاجز "نتساريم"

خلال محاولتهما العودة من جنوب قطاع غزة إلى شماله قبل أكثر من شهرين، فُقدت آثار الشابين أحمد إسماعيل ويوسف أنشاصي.

سلك الشابان طريق الرشيد الساحلي، قاصدين منطقة الشمال بعدما ضاق بهما الحال ويأسا من حالة الحرب والتشرد، بحسب ما يقول رامي إسماعيل شقيق أحمد لرصيف22.

ويتابع سارداً: "خرج شقيقي وصديقه وهما يعلمان أنهما قد يتعرضان للاعتقال أو القتل من قبل جنود الاحتلال. لكن حالة اليأس لديهما كانت متفاقمة جداً، فقررا المغامرة".

ويؤكد رامي بأن العائلتين فقدتا الاتصال بأحمد ويوسف منذ اليوم الذي خرجا فيه من الجنوب. ثم بدأت الاتصالات بالأصدقاء والأقارب في الشمال، ثم بالصليب الأحمر، لكن بلا فائدة أو إشارة لوجود أي طرف خيط.

وفي تصريحات سابقة أوضحت المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر، سارة ديفيز، أنهم يستقبلون أسبوعياً ما بين 500 و2500 مكالمة على خطوطها الساخنة التي أعلنتها مسبقاً، مشيرة إلى أن أغلبية هذه الاتصالات تتعلق بأفراد الأسرة المفقودين. 

وأنها "تتزايد مع ارتفاع وتيرة أعمال الاحتلال العدوانية ضد المدنيين، أو في حال تعليمات الإخلاء الصادرة عن جيش الاحتلال".

لا أحد يعرف مصير ابني حتى هذا اليوم، هل هو على قيد الحياة أم معتقل، أم قتل خلال التدافع على الشاحنات أم برصاص الجيش الإسرائيلي؟

يقول رامي إن العائلة شاهدت خلال الفترة الماضية فيديوهات إعدام لشبان كانوا يحاولون العودة إلى الشمال، وسمعوا قصصاً عن اعتقال آخرين، ما يزيد حيرته وحيرة العائلة حول مصير شقيقه.

وكانت هذه الفيديوهات التي أظهرت إعدام مدنيين من الجو أو قنصهم خلال عبورهم الطريق الساحلي أو خلال محاولتهم الحصول على مساعدات من الإنزالات الجوية، قد أثارت فزعاً لدى عائلات المفقودين وتجسيداً لتخيّل مصائر أحبائهم.

تُفقد آثارهم وهم يبحثون عن طعام

فقدت أسمهان التلولي، من منطقة تل الزعتر في مخيم جباليا شمالي القطاع، الاتصالَ بنجلها نمر (28 عاماً) منذ شباط/فبراير 2024.

في تلك الليلة، ودع نمر العائلةَ وخرج قاصداً "دوّار الكويت" الذي يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي في حي الزيتون جنوبي مدينة غزة.

انتظر نمر شاحنات المساعدات التي تحمل الدقيق، عله يتمكن من الحصول على طعام يسد به رمق زوجته وأبنائه الذين كانوا يتضورون جوعاً كما كل أهالي شمال القطاع.

"لا أحد يعرف مصير ابني حتى هذا اليوم، هل هو على قيد الحياة أم معتقل، أم قتل خلال التدافع على الشاحنات أم برصاص الجيش الإسرائيلي؟"، تتساءل أسمهان في معرض حديثها لرصيف22.

وتصف شعور فقدانها أحد الأبناء وعدم معرف مصيره بـ"اللوعة التي تكوي القلب في كل دقيقة".

نمر التلولي برفقة بناته

وتناشد أسمهان جميع الجهات المختصة بضرورة مساعداتها لأجل معرفة مصير نجلها، والتدخل لإعادته إلى أسرته الصغيرة المكونة من 4 أفراد، في حال كان معتقلاً في السجون الإسرائيلية.

وتعيش عائلة الشاب محمد أبو خاطر (19 عاماً) من بلدة جباليا شمالي قطاع غزة، قصة مشابهة. فقد فقدت الاتصال بنجلها محمد منذ آذار/مارس 2024، حين خرج هو الآخر لانتظار المساعدات.

يقول إبراهيم أبو خاطر، شقيق محمد، لرصيف 22: "خرج اثنان من إخوتي، هما محمد وصهيب، ليحاولا توفير الطعام للعائلة بعد أن اشتدت المجاعة على شمال القطاع".

ويردف: "في تلك الليلة، وصلنا اتصال من أحد الأصدقاء يفيد بأن صهيب أصيب بقدمه برصاصة إسرائيلية على حاجز الكويت، ونُقل إلى المستشفى، وأن أثر محمد اختفى ولا أحد يعلم عنه شيئاً".

كان الظلام دامساً في المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي، حين خرج إبراهيم برفقة والده إلى المكان ليبحثا عن محمد.

ومنذ ذلك اليوم لم تتوقف العائلة عن بحثها، وبشتى الطرق الممكنة، لكن دون الوصول إلى نتيجة أو إشارة تدل على مصيره، أكان حياً أم ميتاً.

وخلال الأشهر الماضية تعمدت إسرائيل استهداف منتظري المساعدات على مفترقي "الكويت والنابلسي" جنوبي مدينة غزة، ما أدى إلى مقتل وفقدان وإصابة المئات منهم.

ومن بين المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق منتظري المساعدات على دوار الكويت، كانت في 17 آذار/مارس 2024، حيث قتل في ذلك اليوم 20 شخصاً وأصيب 161 آخرين، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.

فقدان الخبر عن مصائر المختفين قسراً

في منتصف نيسان/أبريل 2024، ذهب ياسر اشتيوي (35 عاماً)، من حي الزيتون جنوب مدينة غزة، ليتفقد منزل عائلته في الحي الذي نزحت منه، لكنه لم يعد.

"حاولنا البحث عنه في الطريق الذي سلكه، لكننا لم نجده ولم نر أثراً له أو لجثته. كأن ياسر قد تبخّر"، يقول لرصيف22 أحمد اشتيوي ابن عم المفقود.

ويشير إلى أنهم بحثوا عن ياسر، المعيل لأسرة تتكون من 6 أفراد، في كل مكان.

قلبي ممزق ولا يرتاح أبداً. ولن أكف عن البكاء حتى يعود أبنائي إلى حضني وأحضنهم مجدداً

"بحثنا في المستشفيات والشوارع وسألنا كل من يعرفه. لكن دون نتيجة. عائلته تعيش ظروفاً نفسية صعبة بسبب فقدانه، ويسأل أطفاله دائماً عنه ويطلبون عودته"، يضيف أحمد.

وترجح العائلات التي لم تجد أبناءها في أي مكان، أن يكون الاحتلال أخفاهم قسراً، أي اعتقلهم واقتادهم إلى جهات غير معلومة.

فعائلة الإخوة جاد الحق، وآدم، وسيف بهار، تعيش مرارة الإخفاء القسري. فقد فُقد جاد الحق خلال زيارته لميناء غزة خلال عيد الفطر الماضي، بعد أن قامت باختطافه قوة إسرائيلية خاصة ونقله إلى جهة مجهولة.

وتقول نبية لبهار، والدة الشبان، لرصيف22: "لقد قتل الاحتلال ابني محمد واعتقل اثنين منهما هما آدم وسيف، أمام عينيّ خلال الاجتياح الأخير لحي الشجاعية، وخلال اقتحام الجيش الإسرائيلي للبيت ومحاصرته لمدة 7 أيام".

المفقودون جاد الحق وآدم وسيف بهار وشقيقهم الشهيد محمد

تصف الأم نبيلة شعورها بفقدان أبنائها: "قلبي ممزق ولا يرتاح أبداً. ولن أكف عن البكاء حتى يعود أبنائي إلى حضني وأحضنهم مجدداً".

استخدم الجنود الإسرائيليون آدم وسيف دروعاً بشرية وعذبوهما أمام العائلة قبل اقتيادهما، وفق ما يقوله الأخ الأكبر جبريل بهار لرصيف22.

ويضيف: "ناشدت العائلةُ جميع الجهات المختصة لمعرفة مصير أبنائها الثلاثة المفقودين، لكن دون نتيجة حتى الآن".

يشار إلى أن الكثير من الفلسطينيين يتم احتجازهم في إسرائيل بموجب قانون "احتجاز المقاتلين غير الشرعيين"، الذي يسمح للجيش باعتقال الفلسطينيين إدارياً، واحتجازهم لفترات طويلة من دون محاكمة أو تمثيل قانوني ومن دون إجراءات الحماية الممنوحة للأسرى.

فيوفر هذا الاعتقال إطاراً قانونياً للجيش الإسرائيلي، وهو يستند إلى مجرد الشك وليس الأدلة.

ويبدو من خلال الشهادات والقصص التي تصلنا على نحو شبه يومي من غزة، أن من تخفيهم إسرائيل قسراً وتغيّبهم عن عائلاتهم، هم مجرد مدنيين تستغلهم إسرائيل في عقابها الجماعي لأهالي غزة وحرب الإبادة التي تنتهجها منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر2023.

والدة وشقيق وشقيقة المفقودين من عائلة بهار

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard