لا يمكن الحديث عن غزّة كـ"أخطر مكان على الأطفال في العالم"، دون التفكير بالفئة المجتمعيّة التي تشهد أمامها هذه الخطورة، عاجزةً عن الحماية، وهي النساء، الأمهات والأخوات والجدات والعاملات، اللاتي يرعين الأطفال وهن بأمسّ الحاجة لمن يرعاهن جسدياً ونفسياً.
تضطرّ المرأة الغزّية إلى الخروج قسراً من بيتها أو وداع فرد أو أكثر من أسرتها، لكنها لا تملك رفاهية الحزن أو التذكّر، لأنها ستعود لتشد وتد خيمتها وتكمل طبختها لمن تبقى من العائلة. فهي مقدّمة الرعاية الأساسيّة لأسرتها، هي آخر من يأكل وأقل من يأكل في ظلّ ظروف المجاعة، بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة.
تدلل أرقام المؤسسات الوطنية والدولية الخاصة بالظروف التي تعيشها النساء في غزة على معاناة جسديّة كارثية بسبب نزوحهن، ومواجهة نحو 177 ألف امرأة منهن لمخاطر صحيّة مهددة للحياة، 40 ألف امرأة حامل لمستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي والموت والإجهاض، في ظل توقّف 85 مستشفى ومركز طبّي عن الخدمة في القطاع.
من أبرز الأعراض التي تُظهر الحالة النفسية للنساء اللاتي تعاملت معهن: الصداع الدائم، العصبية الزائدة، فقدان الشهية، الرغبة بالوحدة، فقدان الرغبة بالعيش، وذلك نتيجة للخسارات والفقدان المتكرر سواء للأشياء المادية أو المعنوية
لكن كيف ندلّل على معاناة النساء الغزيّة النفسيّة بالأرقام، وعلى الرعب الذي يعشنه كلّ لحظة لخوفهنّ على عائلاتهنّ وأطفالهن ومستقبلهن، ومواجهتهنّ اليوميّة للإصابة والموت بالقصف أو الجوع دون أن نجعل صفة "المرأة الغزيّة الصامدة" تسلب منها حقّها الأساسيّ في حياة آمنة من الخوف والموت؟
فعلى الرغم من تحفّظ كثيرات منهن من البوح بدواخلهنّ، نجدهنّ يسارعن لحضور ورشات الدعم النفسي في الخيام، ثم سرعان ما يعدن إلى خيامهنّ لجمع الحطب وتلبية احتياجات أسرهنّ، في ظلّ غياب تام لمنظومة علاج نفسيّ فاعلة في القطاع.
التكيّف مع واقع غير طبيعيّ
"يا ليتني لم أنزح، وبقيت في بيتي في مخيم جباليا أعاني الجوع وأهرب من الجيش الإسرائيلي وقت الاجتياح. تعبانة ونفسي أنام"، تقول باسمة عوض (47 عاماً) لرصيف22.
تصمت قليلاً ثمّ تضيف: "نزحت مع زوجي وتركت عائلتي في الشمال، وبعد شهرين من النزوح تركني زوجي وسافر إلى مصر. أخبرني أنه سيطلب مني في أقرب وقت اللحاق به. لكنه أغلق حساباته على مواقع التواصل الاجتماعيّ واختفى".
تؤكد باسمة أن أكثر ما يؤلمها أنها وحيدة وتعتاش على المعونات التي توزّع على الخيام، ولا تملك سوى خيمة تبرعت بها إحدى الجمعيّات الخيريّة.
"في بعض الأحيان أقضي يوماً كاملاً بالنوم. يكون القصف قريباً منّي لكنّي لا أهتز وأواصل نومي. لا شيء يشغلني بعد أن خسرت كلّ شيء حولي وأصبحت وحيدة"، تقول.
ترى باسمة أنها تعاني من الاكتئاب، فطرقت باب العيادة النفسية لوكالة "الأونروا"، لكنها لم تجد فيها أي خدمات. ثمّ وجدت إعلاناً لجلسات نفسيّة، التزمت بثلاث جلسات لكنّها توقّفت. "تعبت كثيراً وأنا أسرد قصّتي"، تؤكد. تتفقّدني الجارات أحياناً، يقدّمن لي الطعام ويجبرنني على الخروج من الخيمة.
"وفي جميع الأحوال، لا يخفي الدعم النفسيّ الضغوط النفسيّة التي تقع على المرأة الغزيّة في ظلّ حرب مستمرّة، إنما قد تخفّف من حدّتها أو تفاقمها كي لا تتحوّل إلى مرض نفسيّ سيحتاج فترة علاجيّة صعبة"، تقول أرجوان حسن، الاختصاصيّة النفسيّة، لرصيف22. مشيرةً إلى أنّ المرأة الغزيّة تسعى لتتكيّف مع واقع غير طبيعيّ- حيث لا بيت ولا كهرباء ولا ماء- وبأساليب بدائيّة، بالإضافة إلى كونها مطالبة بعدم التقصير مع الأولاد والزوج".
"ومن أبرز الأعراض التي تُظهر الحالة النفسية للنساء اللاتي تعاملت معهن: الصداع الدائم، العصبية الزائدة، فقدان الشهية، الرغبة بالوحدة، فقدان الرغبة بالعيش، وذلك نتيجة للخسارات والفقدان المتكرر سواء للأشياء المادية أو المعنوية"، تؤكد حسن.
وتتابع في حديثها عن طريقة التعامل مع النساء اللاتي يعانين من هذه الأعراض، إنّ الاختصاصيين يسمعون أكثر مما يقدمون النصيحة، موضحة أن النساء في حاجة لشخص يسمعها دون مقاطعة ويتعاطف مع ظروفها، وأن مجرد "الفضفضة" تقطع نصف طريق العلاج.
وأشارت إلى أن لجلسات الدعم النفسي في الخيام أثراً إيجابياً، "لا سيما حين تنصت كل سيدة للأخرى وتسمع هموم غيرها"، تقول، مشيدةً بأن الدعم النفسي وقت الحرب يعتمد على دعم النساء لبعضهن البعض، القائم على اكتشاف نقاط القوة في شخصياتهن واستثمارها في مواجهة الظروف الصعبة.
"لا أعلم كيف يتكرّر معي التبوّل اللاإراديّ"
في مخيم النزوح بالقرب من شاطئ "الزوايدة"، تهمس سامية إلى جارتها آمنة أنها بالت على نفسها ليلة أمس، واتهمت صغيرها بأنه هو من فعلها. توقعت سامية أن يثير الأمر استغراب الجارة، لكن الأخيرة ردت عليها: "عادي، كلنا مع الخوف هيك"، ثم علت ضحكتهما، ثم بكاؤهما، كثيراً.
تقول سامية (39 عاماً)، وهي أم لأربعة أطفال، لرصيف22: "في هذه الحرب كوابيس لم نرها في مناماتنا قبل الحرب. فبعد بدئها بشهر، خرجت من حيّ النصر في مدينة غزّة وتوجهت إلى المنطقة الوسطى. تنقلت ما بين مدرسة الجاعوني ومركز إيواء "النشاط النسائي" في النصيرات. وبعد قصف المكانين، استقر بنا الحال في خيمة قرب بحر الزوايدة".
أقضي يوماً كاملاً بالنوم. يكون القصف قريباً منّي لكنّي لا أهتز وأواصل نومي. لا شيء يشغلني بعد أن خسرت كلّ شيء حولي وأصبحت وحيدة
شهدت سامية خلال هذه الحرب المجازر وقتل أفراد من عائلتها والجيران والأصدقاء، كما تم إخراجها مع أولادها من تحت الحطام مرتين.
"لا أعلم كيف يتكرر معي التبول اللاإرادي في الليل. وأحياناً أصحو فزعة من نومي. طرقت عيادة "الأونروا"، وهناك أخبرتني الطبيبة أن الأمر قد يعود للحصر البولي نتيجة وجودي في مراكز الإيواء وانتظاري في طابور طويل، أضطر بسببه لقضاء حاجتي مرّتين في اليوم فقط. فضلاً عن الخوف والقلق المستمرّين"، تقول سامية.
وتردف: "لا تتوافر الأدوية لأي علاج نفسيّ، فأحاول أن أسيطر على نفسي ليلاً، وأن أستفيد من دعم زوجي".
لا تستغرب الاختصاصية النفسية حسن حالة سامية، فقد أكدت أن هناك حالات كثيرة كهذه، نشهدها جراء تعرض النساء لنسف بيوتهن أمام أعينهن وانتشالهنّ من تحت الركام وفقدان أحد الأبناء في كثير من الأحيان. وفي حالة نزوحهنّ، فتسبب دورة المياه المشتركة أمراضاً كثيرة تفاقم من وضع النساء النفسيّ.
المشي على الجثث ومحاولات الانتحار
في مخيم الشاطئ، استقر الحال بسندس أبو عاصي (27 عاماً) وعائلتها، بعد أن نزحت من منطقة جباليا. لكن قصف البيت ووصل إلى بيت جدها الذي نزحت إليه رفقة زوجها وصغارها الثلاثة.
وخلال الهدنة في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، اشتد الجوع والاجتياح البري لمدينة غزة وشمالها، قرر زوج سندس النزوح إلى الجنوب، بينما أصرت هي على البقاء برفقة صغارها، خشية المرور عبر "البوابة الإلكترونية" التي نصبها الجيش الإسرائيلي في شارع صلاح الدين شرق القطاع.
تقول سندس لرصيف22: "لم نتوقع أن تطول الحرب، وحين نزح زوجي إلى الجنوب، توقعت أن المسألة مسألة شهر إلى حين تنتهي الحرب. حتى وصل بي الحال إلى أن خرج وقت ابتعاد الجنود عن المنطقة لأجمع الأعشاب من الأرض وأطهوها لصغاري".
وتضيف بعد صمت: "هل لأي مرء أن يتخيل كيف يشعر وهو يدوس بقدميه، دون أن يدري، جثث القتلى؟ خلال رحلة نزوحي كنت أدوس الجثث والأعضاء البشرية. الأمر مخيف ومفزع".
لاحظت سندس أنها تتشاجر مع زوجها عبر الهاتف، وتثور على عائلتها لرفضهم النزوح، "وفي كثير من الأحيان، كنت أخرج وصل أماكن خطرة للتخلص من حياتي"، تؤكد.
وتستدرك: "أعرف أن الذهاب للتهلكة حرام. لكني تعبت كثيراً وزادت أعبائي. أصبحت مهامي اليومية البحث عن الحطب ثم التوجه إلى "التكايا" للحصول على وجبة طعام للأولاد".
لاحظت سندس أنها تتشاجر مع زوجها عبر الهاتف، وتثور على عائلتها لرفضهم النزوح، "وفي كثير من الأحيان، كنت أخرج وصل أماكن خطرة للتخلص من حياتي"
"محظوظ كل من استشهد في هذه الحرب. وما سيأتي بعد انتهائها سيكون أصعب"، تختم سندس.
وتعتقد الاختصاصية النفسية أرجوان حسن بأن الانتحار هو أخطر أعراض الاكتئاب، وقد تصل المرأة إلى هذه النقطة من حياتها حين لا تجد الدعم أو السند، فتتفاقم حالتها وتصل إلى التفكير بالانتحار للتخلص من حياتها.
وتستذكر حسن موقفاً حصل مع سيدة في شمال القطاع، حين "اقتحم الجيش الإسرائيلي بيتها وقتلوا ابنها الوحيد وزوجها أمام عينيها، وطلبوا منها النزوح إلى الجنوب. ظلت السيّدة تتوسل إلى الجنود ليقتلوها، حتّى أنّها أمسكت بسلاح الجندي وحاولت تصويبه نحوها، لكنه رفض وضربها"، كما أخبرت السيدة الاختصاصية النفسية حين وصلت إلى الجنوب بوضع نفسي سيىء للغاية.
في الحروب السابقة على قطاع غزة، عمل المعالجون النفسيّون داخل المستشفيات. لكن الحرب الحالية دمّرت المستشفيات والمنظومة الصحيّة بأكملها، فضلاً عن عدم توافر العقاقير العلاجيّة الخاصّة بالاضطرابات النفسيّة. وكل ما يمكن أن يُقدّم للمعالَج هو جلسات دعم تخفف من حدة اضطرابه، الذي لن يهدأ ولن يشفى ما دامت حرب الإبادة الجماعيّة مستمرّة، دون رادع أو وازع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...