لا يمكن النظر إلى الموسيقى بمعزل عن سياق المجتمع الذي وُلدت فيه وتطورت، تماماً مثلما لا يمكن فصل الأدب أو الفنون الأخرى عن السياق الثقافي لأصلها. كذلك تؤثر التغيرات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والأحداث التاريخية والسياسات الحكومية بشكل مباشر على الموسيقى والعديد من فروع الثقافة والفن الأخرى، ومن هذا المنطلق وُلدت موسيقى "الأرابيسك"، أو ربما يمكننا القول "ثقافة الأرابيسك" التي لها قصة تعكس العديد من الأحداث في تاريخ تركيا.
بدأت قصة "الأرابيسك"، حينما سعت الجمهورية التركية حديثة الولادة، والتي تأسست بعد قرون من الإمبراطورية العثمانية، إلى التحديث والتطوير، إذ اعتقدت هذه الحكومة الجديدة أنها تستطيع بناء مجتمع حديث وناجح من خلال دعم التغييرات في المجتمع نحو الثقافة والسياسة الغربيتين، والتي بدأت في الفترات الأخيرة للدولة العثمانية، واكتسبت زخماً مع الجمهورية الجديدة.
ومع ذلك، كان العديد من المثقفين الجمهوريين يدركون أن هذا الصراع ليس أكثر من تشبّه بالغرب، حيث تأثرت الموسيقى بهذه التغيرات أكثر من أشياء أخرى كثيرة. رُوّج للموسيقى الغربية واستخدام الآلات الموسيقية الغربية، التي دخلت تركيا خلال فترة الإصلاح العثماني، على نطاق واسع في فترة ما بعد الجمهورية. وفي الواقع، كانت تسعى الحكومة إلى أن يتخلى المجتمع عن تقاليده وأذواقه القديمة، ويستبدلها بالنمط الغربي، حيث شكلت هذه المناقشات أساس الاستقطاب الثقافي الذي استمر لسنوات، ويمكن القول إنه لا يزال مستمراً.
أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد وأسمهان
لكن محاولة تغيير المجتمع التركي لم تنتهِ عند هذا الحد، حيث كانت القوات الرسمية تحاول تولّي إدارة الآلية الثقافية للمجتمع، ومن خلال سياستها هذه، أصدرت في عام 1926، قراراً غريباً يمنع تدريس الموسيقى التركية في مدارسها، وتقرر أن يدرس الطلاب الموسيقى الغربية فقط، وإن خالفوا هذا القانون أو أصرّوا على تعلم الموسيقى التركية، فسيتم منعهم من الدراسة.
تؤثر التغيرات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والأحداث التاريخية والسياسات الحكومية بشكل مباشر على الموسيقى والعديد من فروع الثقافة والفن الأخرى، ومن هذا المنطلق وُلدت موسيقى "الأرابيسك" أو "ثقافة الأرابيسك" في تركيا
لكن هذه لم تكن القصة بأكملها، إذ في عام 1934، شملت هذه المحظورات مستمعي الموسيقى التركية أيضاً، حيث في وقتها تم حظر بث الموسيقى التركية عبر الراديو، ويعني هذا الحظر أن الناس لم يعودوا قادرين على قضاء أوقات في الاستماع إلى الأصوات المألوفة التي كانت تأتي من تاريخهم ولغتهم وثقافتهم، بل جرت محاولات عديدة للحطّ من شأن الموسيقى التركية، وبعض تلك الجمل والتشبيهات تحولت إلى أمثال كانت تُضرب عن الأصوات المزعجة.
ومع ذلك، لم يهتم الناس بهذه القوانين، وسعوا إلى سماع موسيقاهم المألوفة في كل لحظة ومكان ممكن، والأشخاص الذين لم يتمكنوا من سماع هذه الموسيقى من أجهزة الراديو التركية الرسمية، توجهوا إلى ترددات أخرى، حيث كانوا يبحثون عن صوت مألوف وجدوه في مكان آخر، وما سمعوه هناك كان مألوفاً بالنسبة لهم أكثر، فالموسيقى العربية التي كانت تبثّ عبر الراديو التركي، وفي إذاعات الدول العربية، خاصةً إذاعة مصر، لبّت احتياجات الناس، من خلال الاستماع إليها، وكانت خطوة الناس هذه، بمثابة احتجاج على سياسة إصلاح الموسيقى التركية.
وحول هذا الموضوع، كتب الکاتب والصحافي التركي بيامي صفا في جريدة "جمهوريَت" في نيسان/أبريل 1933: "يشعر الناس بأن أصوات وألحان الموسيقى العربية التي يسمعونها في الإذاعة المصرية هي أصواتهم، حيث كانت الموسيقى جزءاً كبيراً من البثّ الإذاعي، ومن خلال هذا كان الناس يخبرون رجال الدولة بأن شوبان وباخ وموزارت، مهما كانوا جيدين، فهم ليسوا من اختيارهم". وكانت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وليلى مراد وأسمهان، المفضلين/ات لدى الشعب التركي في تلك البرهة.
في ذلك الوقت، لم تكن الموسيقى العربية فقط هي التي رحّب بها الشعب التركي، بل السينما العربية كذلك، لا سيما السينما المصرية، إذ كانت تحظى بشعبية كبيرة بين الشعب التركي، بسبب قرب موضوعات الأفلام المصرية من الحياة التركية، ما شجع الناس على مشاهدة هذه الأفلام، وهذا الأمر تسبب في أن يصنع العديد من السينمائيين الأتراك أفلاماً بالأسلوب المصري نفسه.
"دمعة الحب"… آخر طلقة
في عام 1938، وبعد بثّ فيلم "دمعة الحب"، الذي تم إنتاجه تحت تأثير السينما العربية في تركيا، لاقى هذا الفيلم إقبالاً كبيراً من قبل الناس، وعلى هذا الأساس أعلنت المديرية العامة للصحافة والنشر في تركيا منع بثّه ومشاهدته، كما حظرت الاستماع إلى الموسيقى العربية أو غناء الأغاني باللغة العربية، وتطور الأمر حتى تم حظر استيراد الأفلام المصرية إلى تركيا، في عام 1948.
استمر حظر بثّ الموسيقى التركية في الإذاعة لمدة عامين، واستمر حظر تدريس الموسيقى التركية لمدة خمسين عاماً، وخلال هذه الفترة، استمر الناس في اللجوء إلى الثقافات الأخرى للهروب من هذه الإكراهات والمحظورات، وحاولوا إيجاد طريقة للخروج من هذا الحبس الموسيقي. وكان سعاد الدين كايناك، یُعدّ نقطة تحول جديدة في هذا الطريق والمخرج الرئيس من هذا الحبس، فهو الذي كان يؤذّن ويصلّي في المساجد، كما كان حافظاً للقرآن وإماماً للمسجد، وكان أيضاً مهتماً بالموسيقى غير الدينية ويشتغل بالتلحين والغناء في الوقت نفسه.
ومن خلال تجاربه هذه، توصل كايناك إلى حلّ سعد به المجتمع التركي، حيث قام بتأليف قصائد تركية ولحّنها بالألحان العربية، وبهذه الطريقة تم إنشاء أولى أغاني موسيقى "الأرابيسك". و"الأرابيسك" هي في الأصل كلمة فرنسية تعني "الأسلوب العربي"، واستُخدمت هذه المفردة للإشارة إلى هذا الأسلوب من الموسيقى التركية، ويمكن القول إن هذا المصطلح تم تطبيقه لأول مرة على أغنية المطرب التركي الشهير أورخان كنجه باي.
ولادة "الأرابيسك"
بين عامي 1930 و1950، ويمكن عدّ هذه الحقبة عصر ولادة موسيقى "الأرابيسك"، حاول الملحنون الأتراك عبور حاجز الرقابة من خلال تزيين الموسيقى التراثية التركية بعناصر موسيقية من بلدان أخرى، وتالياً الوصول إلى شكل جديد من الموسيقى التركية. كانت الفترة الوسطى لموسيقى "الأرابيسك" هي فترة الاضطراب الاقتصادي، وفترة ذروة الهجرة من القرى إلى المدن، خلالها تشكلت التوترات الاجتماعية ومواجهة الناس مع صراعات الهوية.
حينها تعمقت الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وتمت ممارسة الضغوط السياسية أكثر من ذي قبل، وكل ذلك كان له تأثير مباشر على المجالات الثقافية كافة، خاصةً الموسيقى، إذ تعاملت كلمات موسيقى "الأرابيسك" في الغالب مع اليأس والحب والمشكلات والمتاعب وموضوعات أخرى، وذلك من خلال الإيقاعات والألحان السهلة والعذبة، التي ترسخ في ذاكرة الناس، بشكل يمكن متابعتها وغناؤها بسهولة.
ولم تكن هذه المواضيع ولا الألحان والآلات العربية المستخدمة في هذه الأغاني متوافقةً مع الذوق الحكومي، ما دفع الجهات الرسمية إلى مواجهة هذا الأسلوب، بهدف منع الناس من اللجوء إلى هذا النمط من الموسيقى، ولم یکتفوا بهذا القدر، حيث صاروا يخرّبون سمعة "الأرابيسك"، باستخدام مصطلحات مثل: "موسيقى الحافلات الصغيرة"، و"موسيقى الأحياء الفقيرة"، و"الموسيقى المنحطة"، وغيرها من العناوين المشابهة.
من أشهر مطربي أسلوب "الأرابيسك"، أورخان كنجه باي، الذي يُعدّ من أهم الشخصيات في هذا الطور الموسيقي، وأيضاً مسلم جورسيس، الذي أطلق عليه جمهور هذه الموسيقى لقب "ملك الأرابيسك"
ومع ذلك، رأى الناس المزاج الكئيب والحزين لموسيقى "الأرابيسك" قريباً من حياتهم الحقيقية، وتعاطف جزء كبير من المجتمع التركي مع تلك الأغاني هو ما دفع الحكومة إلى فرض حظر جديد مرةً أخرى وزيادة إصرارها على دفع الناس نحو الموسيقى والثقافة الغربية، ولذلك في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حُظر بث موسيقى "الأرابيسك" على قنوات الإذاعة والتلفزيون التركية الحكومية.
أورخان كنجه باي ومسلم جورسيس وإبراهيم تاتليسس
في هذه البرهة، كان المجتمع التركي ملتهباً. التهميش والفقر جعلا الناس أقرب إلى هذا النمط من الموسيقى، ولذلك بحث الناس بفارغ الصبر عن الأفلام وأشرطة أغاني "الأرابيسك"، التي من خلالها كانوا يعبّرون عن أحلامهم وحقوقهم. كما كان "الأرابيسك" يمثل آمال وآلام الناس الذين هاجروا من القرى إلى المدن، لا سيما أنه كان يصور التناقض بين مسقط رأسهم الذي فقدوه، وحياة المدينة التي لم يتمكنوا من التكيّف معها.
ومن أشهر مطربي هذا الأسلوب، أورخان كنجه باي، الذي يُعدّ من أهم الشخصيات في هذا الطور الموسيقي، ومسلم جورسيس من الأسماء المهمة الأخرى لموسيقى "الأرابيسك"، إذ أطلق عليه جمهور هذه الموسيقى لقب "ملك الأرابيسك"، وكان يُدعى "بابا" مثل كنجه باي. ويُعدّ إبراهيم تاتليسس، الذي كان هو نفسه مهاجراً حديثاً إلى المدينة، أحد المعجبين والمستمعين إلى هذا الأسلوب الموسيقي. عمل تاتليسس في البداية، بائعاً متجولاً، ثم بناء في إسطنبول، ودخل إلى عالم الغناء من خلال أحد أصدقائه الذي سمع صوته فجأةً، فوجد له وظيفةً في مسرح في أضنة، وكانت تلك بدايةَ إمبراطوريته.
وبينما كان المجتمع التركي يتغير باستمرار، استمرت موسيقى "الأرابيسك" في النمو والتحسن، حيث أشاد بها البعض وعدّها آخرون موسيقى متخلفةً ومبتذلةً، وبمرور الوقت تغير هذا النمط من موسيقى الطبقة الدنيا من المجتمع إلى موسيقى الطبقة الوسطى، وتوسع حتى تم مزجه مع موسيقى البوب والروك في الآونة الأخيرة.
يستمر هذا النمط من الموسيقى في الوجود كأحد أنماط الموسيقى الأكثر شعبيةً ونمواً في تركيا، وكما يقول المثل التركي: "إذا كان بإمكانك فصل الأرابيسك عن تركيا، فلن تتمكن من فصله من قلوب الأتراك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 6 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف