"عُدنا لأيام الحرب الأولى"، هذه الجملة التي سمعتها وأسمعها من الذين أعرفهم في الساحل السوريّ الذي أعيش فيه. أمشي في الشوارع، أرى الحذر يخيّم على المدينتين اللتين أتنقل بينهما بحكم العمل والسكن. ربما يخفي ذلك الحذر خوفاً كامناً من القادم، فتنظيمات النصرة والقاعدة وداعش، لا يمكن إلباسهم لباساً ثورياً ومدنياً، إذ لا يزال صدى خطابات التكفير يرنّ في الآذان، رغم التوجيهات الواضحة لـ "إدارة العمليات العسكرية" بعدم التعرّض لأي مدنيّ، واقتصار الأمر على تخريب التماثيل وتمزيق الصور حتى هذه اللحظة، الأمر الذي لا نعرف إن كان حقيقياً.
لاشك بأنّ الانهيار السريع كان مفاجئاً، ولكنه في الوقت نفسه، متوقعٌ. يقول لي صديقي: "حبة بطاطا، كيف بدّها تخلي جيش يقاتل؟"، وهو عسكري تسرّح من ثلاث سنوات. أبسط ما يجب أن يحصل عليه العسكري لكي يقاتل، الغذاء بكل بساطة، قليل وسيء ورديء، ولا يكفي لشخص يعيش حياة عادية في ظروف مريحة، والأسباب الحقيقية ليست القلة التي فرضتها الحرب، فالأمثلة كثير عن حالات ثراءٍ فاحش لأشخاص تسلموا مناصب تخصّ إطعام الجيش أو ما يُعرف بـ "السخرة"، وعليه فإنّ الهروب، رغم آثاره الكارثية، كان مُبرَّراً بعيون الكثير من أهل الساحل بالإضافة لأسباب موضوعية أخرى.
"ما متنا بس شفنا مين مات"
انخفضت حدة العمليات العسكرية في سوريا. لملم الساحل بعدها جراح أبنائه ووجد نفسه يعج بالأطفال اليتامى والأمهات الثكالى والزوجات الأرامل، فتقول لي "سمية": "هؤلاء الشباب خاضوا الحرب، ورأوا بأم أعينهم رفاقهم وأقاربهم وجيرانهم الذين استشهدوا، وبعدها ضاع الأطفال، وانكسرت الأمهات، وانتظرن في طوابير المساعدات، وتعرّضت الزوجات للاستغلال بأبشع الطرق، فهل يُلامون على الهرب؟ يعني 'ما متنا بس شفنا مين مات'"، وهذا سبب آخر يجعل الشبان يفضلون النجاة بأنفسهم لأجل أطفالهم وزوجاتهم، خصوصاً في ظل غياب أي دعم اجتماعي ومادي لذويهم.
لاشك بأنّ الانهيار السريع كان مفاجئاً، ولكنه في الوقت نفسه، متوقعٌ. يقول لي صديقي: "حبة بطاطا، كيف بدّها تخلي جيش يقاتل؟"
وقد انقضت تلك السنوات التي كان التجييش فيها على أشده، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي قد توغلت في حياة أبناء الساحل مثل اليوم، لقد فهم الجميع اللعبة، وعرف كثيرون أنهم حطب في محرقة، وبنود في مساومات سياسية قذرة، لا ترضي سوى أصحاب السلطة.
فرحت لفرح "يوسف"
لا يمكن لي شخصياً أن أعيش تحت حكمٍ إسلاميّ، ويشاركني في ذلك قسم كبير من السوريين، فمهما جمّلنا "إدارة العمليات العسكرية" فهم في النهاية جبهة النصرة، وبعضهم يحمل شعارات داعش، في الوقت ذاته، لا أستطيع إلا أن أكون فرحاً لفرح أولئك المعتقلين الذي خرجوا من سجون حلب منذ بضعة أيام. تعقيد في المشاعر يتناغم مع تعقيد الحالة السورية.
أولئك المعتقلون السياسيون الذي ضاع شبابهم ظلماً في الأقبية المظلمة بسبب رأي أو كلمة، ربما بسبب مسقط الرأس أو مجرد شكٍ أو شبهة أو مزاج ضابط، منهم كان المعتقل "يوسف" الذي دخل حلب بعد إعلان النظام فتح ذراعيه لاستقبال كل المهجرين واللاجئين السوريين، ليصدّق المسكين مجبراً، مدفوعاً برغبة علاج والده المريض، ليلقى القبض عليه على الحدود، وكان قد تكلم قبل سنتين مع برنامج الإعلامي قتيبة ياسين من داخل السجن، ووجه نداءً لكل اللاجئين ألا ينخدعوا كما تم خداعه، ليخرج اليوم مفصحاً عن هويته شاكراً: "أنا يلي طلعت باتصال عل تلفزيون سوريا مع الصحفي قتيبة ياسين".
خرج يوسف بعد أن "سقطت حلب"، أو "عادت حلب"، أو أصبحت ذات عيون حمراء... لا تهم التسمية، الملفت أن الإعلام السوري غارق في سبات عميق لم يستفق منه. أفتح القنوات الرسمية فلا أستطيع الحصول على أي معلومة مفيدة: "يتصدى، يسطر البطولات، يضرب معاقل الإرهابيين، لن يثنينا، سنلتف حول، لن يكسروا عزيمتنا..."، ولكن أين أصبحت قوات المعارضة؟ لا جواب.
على المحطات العربية: "إدارة العمليات العسكرية تدخل مدينة حلب"، الإعلام الرسمي: "لا صحة لما تتناقله وسائل الاعلام عن..."، ثم تظهر فيديوهات لعناصر ملتحين يصورن مقاطع فيديو داخل أحياء مدينة حلب. نقلب على الصفحات الموالية: "الجهات المختصة تلقي القبض على مجموعة من الشبان صورت مقاطع داخل مدينة حلب لتظهر أن المسلحين دخلوا المدينة". لا تعليق.
لماذا كل هذا الإخفاء؟ لماذا التكتم؟ هل يمكن إخفاء خبر سقوط/تحرير حلب؟ ثم ألا تعرفون أنّ تلك القلة القليلة التي تابعتكم ثم عرفت الحقيقة، لن تعود مجدداً لمتابعتكم، وهو ما حصل في اليوم التالي، حين قالت صفحات المعارضة أنها سيطرت على محردة والسقيلببة، وتوغلت في مدينة حماة، ليهلع أهالي الساحل بباصاتهم إلى حمص لإجلاء أبنائهم من طلاب وطالبات جامعة البعث في حمص، فإن دخلوا حماة، فلا يفصلهم عن حمص سوى 45 دقيقة. الدروس ذاتها تتكرّر، والإعلام السوريّ الرسميّ لا يريد أن يتعلم.
ومن الجدير بالذكر أن الصفحات الرسمية الخاصة بالإعلام الرسمي مثل "الإخبارية السورية"، قد حجبت التعليقات على منشوراتها، بعد عدد التعليقات السلبية الهائلة الناقدة لقصور تلك المنابر في تغطية حدث كبير كهذا.
خرج يوسف بعد أن "سقطت حلب"، أو "عادت حلب"، أو أصبحت ذات عيون حمراء... لا تهم التسمية، الملفت أن الإعلام السوري غارق في سبات عميق لم يستفق منه: "يتصدّى، يسطر البطولات، يضرب معاقل الإرهابيين، لن يثنينا، سنلتف حول، لن يكسروا عزيمتنا..."
مزاح ما قبل الموت
وعلى أنباء سقوط/تحرير مدينة حماة، جلسنا ومجموعة من الأصدقاء في إحدى المقاهي في اللاذقية "إي بما انه الدنيا على بو آخر، تفضلوا نحكي". تردّ صديقتي كاترين وهي شابة مسيحية: "يا الله ما بدي موت، ما تعذبت بهالماجستير أربع سنين مشان موت قبل ما آخدو"، أما "كميت"، فقد ذهب على عجل وبدا عليه القلق والتوتر بعد اتصال من أحد أصدقائه العساكر الذي كان يتأمل أن يتم تسريحه في أول السنة الجديدة، هو اليوم في إجازة في منزل أهلة باللاذقية، ويخدم في أحد أرياف حلب.
تابعنا حديثنا الهزليّ، إذ لم نجد سوى السخرية لتنقذنا من ذلك التوتر الرهيب، إذ نصحني "مصطفى" بحلق شاربيّ الكثين، والامتناع عن حلاقة الذقن كنوعً من التحضير للمرحلة المقبلة، أما هزار فقد نظرت إلى "باسمة" قائلة: "سأشتري نقاباً ولكن أتمنى ألا تقلديني وتشتري مثله كما هي العادة!"، لترد عليها: "لأ يا حيوانة منجيب متل بعض ومنصير ماتشي!"، ثم حاولنا وضع خطة للحظة التي يدخلون فيها، فقلت: "نلتزم البيوت، ولا نعارض ولا نتمرجل، ونرشّ الأرز إن دعت الضرورة"، ليهزأ بي "مصطفى": "حتى سمير جعجع ما طلعت معه هي الخطة"، لكنّ حديثنا المفرط بمزاحه، لم يكن كذلك في الشارع حين خرجنا.
في الشارع، لا مكان للمزاح
الجميع على هواتفهم يقرؤون الأخبار، سائقو التكسي يضعون أجهزتهم المحمولة على المقود، يتلهفون لسماع خبر واحد يطمئنهم، وهم ينتظرون الزبون الذي لن يأتي، وآخرون يمشون في الشارع، يتصلون ليطمئنوا على أخبار معارفهم وأقربائهم وأصدقائهم في حلب وحماة، يريدون تأمين أي وسيلة تنقلهم إلى دمشق واللاذقية وطرطوس، وقد أخبرني صديق من حلب أن سائق الباص طلب منهم 11 مليون ليرة سورية ليقلّهم إلى طرطوس بعد سيطرة المسلحين على حلب، بحجّة أنه يخاطر بحياته وبالباص.
"إذا ما بتتحرك روسيا، رح ينيـ...ونا"... تبدو الكلمة ثقيلة وهي تخرج مع الدخان الأبيض من فم مراهق أسمر نحيل، يبدو من يديه أنه عامل بناء، لكنه واقع، يجسّد خيبة أهل الساحل من الحليف الروسي الذي أخلى مواقعه، وهي خيبة ليست بجديدة بعد الاستهدافات الإسرائيلية شبه اليومية، ويأخذ الروس فيها "وضع المزهرية"، كما يقول لي أحد الجيران.
بالعموم ليس كل سكان الساحل سوداويين إلى هذه الدرجة، إذ يوجد حتى الآن من يثق بقدرة الجيش على قلب المعادلة، ويرى قسم أنّ هذا التقدم السريع قد ينقلب على أصحابه، فهم لم يعتادوا إدارة مناطق واسعة هكذا.
ثم من لهم سوى الجيش؟ ليس لهم مطرانية ترسل لهم المساعدات، ولا آغا خان يمدهم بعطاياه، ولا مرشد ولا سيّد، ومشايخهم النافذون والمسيطرون هم مشايخ سلطة ومخابرات، أي أنّ العدوّ من أمامهم والبحر من ورائهم، ولا يملكون أي سفينة، بعد أن شوّهت ثلة قليلة صورة الأكثرية منهم، واعتاشت وعمرت قصوراً على خوفهم ودمائهم، ويوجد منهم من يعرف أنّ الوضع لن يستمر على ما هو عليه للأبد، وأنّ التغيير قادم لا محالة، ووحده المجهول سيد الفوضى التي نعيشها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 3 ساعاتأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...