شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
خير جليس في الزمان كتاب، وخير جليس في سوريا... لا شيء

خير جليس في الزمان كتاب، وخير جليس في سوريا... لا شيء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 5 ديسمبر 202411:05 ص

هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها خارج سوريا منذ بداية الحرب، أي منذ أكثر من عشر سنين، أي منذ أن تغيّر كل شيء في سوريا وأضحت أشبه بعالم خياليّ أو أقل ما يمكن قوله إنه يعود للعصر الحجريّ.
لم أكن أدرك مدى اختلاف العالم خارج حدود الوطن حتى اللحظة التي وطئت فيها قدماي حدود عمّان، وكأنني أعيش في عالمين مختلفين تماماً. شعور بالخفّة والتوتر يختلطان في داخلي، يتلاعبان بي ويذكرانني بأنني لم أعرف سوى الحرب منذ سنوات. نظرت حولي وبدأت أراقب الناس: عائلات تجتمع وتضحك، أطفال يركضون في الممرات بحرية، وكأنهم يعيشون في عالم آخر لم تطرق الحرب بابه، وألف حمد وشكر.

غادرت سوريا وأنا أحمل معي حماساً مشبعاً بالشوق لحضور "معرض الكتاب الدولي" في عمّان، الذي افتتح تحت شعار "القدس عاصمة فلسطين" بتاريخ 10 أكتوبر الماضي لعام 2024.
لم يكن مجرد معرض، بل كان رمزاً للأمل بالنسبة لي، وكان هناك شيء في داخلي يتوق لهذا اللقاء مع عالم الكتاب، خصوصاً وأنا أتابع الكتب والمكتبات تختفي من شوارع دمشق شيئاً فشيئاً.

بين الشوق ووجع الأرصفة

لحظة وصولي إلى معرض عمّان، بدأت الأخبار تضجّ عن مداهمة أرصفة الكتب في دمشق. تلك الأرصفة التي اعتاش عليها الناس سنوات طويلة، بين جسر الرئيس وجسر فيكتوريا وشارع الحلبوني، حيث كان التجوال بين الكتب المتناثرة نشاطاً جيداً، كانت هذه الأرصفة مكتبة شعبية مفتوحة في الهواء الطلق، ملاذاً لمن يودّ القراءة ولا يملك القدرة على شراء الكتب الجديدة، خاصة في ظلّ توقّف طباعة ونشر الجرائد اليومية، وارتفاع أسعار الكتب غير المنطقي، مقارنة بدخل المواطن السوري الذي أقل ما يقال عنه "حدّث ولا حرج"، وأيضاً مع منع نشر الكثير من الكتب وقلة دور النشر في سوريا، وإغلاقها واحداً تلوَ الآخر بسبب تراجع مستوى شراء الكتب أو طباعتها.

لم أكن أدرك مدى اختلاف العالم خارج حدود الوطن حتى اللحظة التي وطئت فيها قدماي حدود عمّان، وكأنني أعيش في عالمين مختلفين تماماً. شعور بالخفّة والتوتر يختلطان في داخلي، يتلاعبان بي ويذكرانني بأنني لم أعرف سوى الحرب منذ سنوات

كل كتاب على هذا الرصيف كان يحمل قصة، ليس فقط القصة المكتوبة على صفحاته، بل قصة المرة الأولى التي تم فيها اقتناء الكتاب، والأصدقاء الذين تحدثت معهم عنه، واللحظات التي قضيتها في قراءته.

بينما كنتُ أنغمس في مشاعر الدهشة في المعرض، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لأكوام الكتب المرمية على الأرض بعد المداهمة. كانت مشاهد مؤلمة للعين والقلب. كتب مهملة، ممزقة، بالية، استُبدلت بإعلانات لمواد غذائية لاحقاً.

تزامن رؤيتي للخبر بعد أسبوع من انتهائي من قراءة رواية "حارس سطح العالم" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى. من قرأ الرواية سيفهم ما أقصده، أما من لم يقرأها، فالرواية تتيح للقارئ أن يدرك معنى الرقابة، كيف يتم برمجة الإنسان على أن يكون روبوت، لا يفكر بل يبصم، كيف تُمنع عنه القراءة والكتابة والتفكير، ولو أُتيح لهم أن يمنعوا عنه الهواء لما قصّروا، وأننا جميعاً في هذا العصر شخصيات في رواية الرقابة.

ألم الكتاب في زمن الحرب

أصبحت الكتب نادرة في دمشق، كما أن أسعارها ارتفعت بشكل يفوق قدرة أي قارئ سوري عادي، الأمر الذي دفع البعض للاعتماد على نسخ الكتب بطرق غير شرعية وبسرية تامة. المواطن السوري يبحث عن بدائل، حتى وإن كانت نسخاً بجودة أقل وحروف باهتة. دون اعتبار بأن ذلك يعد خرقاً لحقوق الملكية، لكن كيف للقارئ أن يصمد في وطن يفتقر فيه لكل شيء؟ صارت النسخ الرديئة جزءاً من الحياة، وحين تلمس الورق الرقيق الباهت، تلمس آثار القهر في تفاصيل صغيرة، كأنك تلمس الحكاية بملمس عتيق بالي.

وقت دخولي إلى المعرض، غمرني شعور بالدهشة والجمال. صفوف لا تنتهي من الكتب، ألوان وأحجام وأنواع متنوعة، وجوه القراء متحمّسة ومندهشة. هناك فرق كبير بين أن تشتري كتاباً عبر الإنترنت وبين أن تراه فعلياً، أن تلمس غلافه وتستشعر وزنه بين يديك. كنتُ أتنقّل بين الأجنحة، أتأمل عناوين الكتب، أقرأ بعض الصفحات الأولى، وكأنني أعيش مهرجاناً حقيقياً للكتاب، ليس مجرد معرض.

لفت انتباهي حضور دور النشر الفلسطينية، كان لهم جناح واسع يتوسط المعرض، وكأنهم يقولون إن النضال والكتب وجهان لعملة واحدة. شعرت بفرحة غامرة، وأخذت أفكر كيف يمكن للكتاب أن يكون رمزاً للصمود. انتقلت بين الكتب وتخيلت حكاياتها، كم كتاباً نُشر رغم التحديات، وكم حكاية انتقلت من كاتب إلى قارئ عبر أجيال؟

كل كتاب على هذا الرصيف كان يحمل قصة، ليس فقط القصة المكتوبة على صفحاته، بل قصة المرة الأولى التي تم فيها اقتناء الكتاب، والأصدقاء الذين تحدثت معهم عنه، واللحظات التي قضيتها في قراءته

البحث عن سوريا في المعرض

استمرّت جولة البحث في أجنحة المعرض على أمل رؤية دار نشر سوري، شيء يذكّرني بأن سوريا ما زالت تحب الكتب، وأن السوريين مازالوا يقرأون وينشرون. بحثت بلهفة، وقلبت النظر في كل جناح، لكنّي وجدت خيبة: محطتان تحملان العلم السوري، ولكنهما تقدمان كتباً دينية تقتصر على علم الفقه وما شابه، أو كتب قليلة لا تشدّ الزائر للوقوف أمام جناحها سوى دقائق.
في تلك اللحظة، عادت مشاهد رواية "1984" لجورج أورويل إلى ذهني. كيف يتم التحكّم بالمواطن بطريقة قمعية شديدة، بالمراقبة المستمرة وتزوير الحقائق وتغيير الماضي والتاريخ، لتتماشى مع روايات الواقع الحالي لخلق واقع زائف يعيشه الجميع.
أتساءل كم كتاباً كان يمكن أن يكون، لو لم تقيد الرقابة يدي الناشرين؟ كم فكرة تم وأدها، وكم صوت كُتم؟ هذا يعطينا لمحة كيف يمكن لأي سلطة أن تتحكم بذاكرة الناس، وكيف يمكن للتاريخ أن يُكتب حسب ما تريده السلطة، وكيف يُحرم القارئ من حرية المعرفة.

أطفالنا والقراءة المحرومة

لم يكن الكبار وحدهم محرومين من الكتب، بل حتى الأطفال في سوريا بالكاد يحصلون على كتب قصصية مناسبة لأعمارهم. في المعرض، رأيت أطفالاً يختارون قصصهم بكل حب، يضحكون ويشيرون إلى الرسومات الملونة، يلتقطون كتباً جديدة بفرح. توقفت أمام هذا المشهد، وبدأت أتخيل أطفال سوريا، الأطفال الذين يكبرون وسط غياب الكلمة الحرة والقصص الملهمة.

كانت لحظة تفكيري بمصير القراءة في سوريا مختلطة، حزناً وفخراً، إذ رغم كل هذه الظروف فازت الطفلة السورية شام البكور بالمركز الأول بمسابقة تحدي القراءة العربي في عام 2022، ثم تبعها الطفل حاتم تركاوي في عام 2024. كان إنجازاً مشرفاً، لكنه يحكي أيضاً قصة من الحزن، فهؤلاء الأطفال كانوا استثناء، بينما حُرم آلاف الأطفال الآخرين من فرصة القراءة.

وجدتني، وككثيرين غيري، أقرأ الكتب بصيغة إلكترونية كحلٍ أخير، بسبب ارتفاع أسعار الكتب الورقية وصعوبة الوصول إليها. إلا أن هذا الخيار كان له تبعاته الخاصة، فالقراءة عبر الشاشات تؤلم العين، وتسبب الإرهاق، خصوصاً في ظل انقطاع الكهرباء المستمر. كما أن الشعور الحقيقي عند إمساك الكتاب، تقليب الصفحات، واستنشاق رائحة الورق، شيء لا يمكن تعويضه.
وعملية شراء الكتب الإلكترونية غير متوفرة في سوريا، إذ نحصل على الكتب المتوفرة فقط على المواقع دون دفع ثمنها، أو قد نتبادل الكتب المقروءة مع من خارج البلاد من الاصدقاء، يقومون بشرائها ثم يرسلونها إلينا، وأنا واحدة من اللواتي اتّبعن هذه الطريقة لتحصيل الكتب.
أيضا هناك تهديد كبير لبائعي الكتب بالخسارة والإفلاس وهذا أصبح موجوداً بشكل كبير، خصوصاً بعدما أُغلقت نسبة كبيرة من المكتبات في دمشق،
حيث أدت سهولة استخدام الكتب الإلكترونية وتوافرها إلى انعدام زيارة المكتبات أو شراء الكتب.
الكتب الإلكترونية وسيلة للوصول إلى المعرفة، لكنّها تفتقر إلى العلاقة الحميمة التي تربط القارئ بالكتاب، وفي كل مرة أفتح فيها كتاباً إلكترونياً، أشعر بنوع من الفجوة، كأنني أقرأ شيئاً لا حياة فيه، كأن الكتب التي بين أيدينا تحمل جزءاً من روح كاتبها، ولا يمكن أن تُختزل في شاشات باردة، كما أنني فقدت واحدة من أجمل اللحظات، وهي لحظة الحصول على توقيع الكاتب على الصفحة الأولى، شعور الانتماء للكتاب والشخص الذي صنعه.

كانت الكتب صديقي الوحيد في عتمة الحرب، تأخذني بعيداً عن صوت الانفجارات وأخبار الضحايا، إلى عوالم بعيدة لا تعرف حدود الحرب. كل صفحة كنتُ أقرأها كانت تجعلني أعيش لحظات من الراحة والهروب

أحلامي بوطن يحتفي بالكتاب

سمعت عن انطلاق معرض الكتاب الدوليّ في الشارقة، الذي يجمع أكثر من 1400 دار نشر، ويستقطب أكثر من مليون زائر. يضم كتباً من أكثر من 200 لغة، وتتخلله فعاليات ثقافية وفنية، عروض مسرحية وغنائية، وأمسيات شعرية. تأملت ذلك الحلم، وتمنيت أن أرى سوريا يوماً جزءاً من هذا المهرجان، بلداً يحتفي بالكلمة ويكرمها، ويعيد للكتاب مكانته.

بعد انتهاء زيارتي للمعرض، استرجعت ذكريات تلك الكتب، كأنني أرى شريطاً من الصور أمامي. كانت الكتب صديقي الوحيد في عتمة الحرب، تأخذني بعيداً عن صوت الانفجارات وأخبار الضحايا، إلى عوالم بعيدة لا تعرف حدود الحرب. كل صفحة كنتُ أقرأها كانت تجعلني أعيش لحظات من الراحة والهروب.

أدركت أن أمنياتي لا تزال كبيرة رغم كل ما نمر به، وأدركت أن كل كلمة أقرأها هي نافذة تفتح على عالم أفضل، ربما عالم يمكن أن نبنيه في سوريا يوماً ما، وأقول قولي هذا وأستغفر الله على أمنياتي التعيسة التي ليس لها من تحقيق المراد شيء. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image