تعرّضنا في المقال السابق، لفوضى الخطاب المجتمعي المرافق لهذه الحرب، والناتجة عن طبيعة العقل العربي وتعامله مع المعارف ككيانات مستقلة عن بعضها، هذا التعامل الناتج بدوره عن العلاقة الوثيقة، أو حتى السيامية، بين هذا الخطاب الصادر عن المجتمع وخطاب السلطة السياسية، واعتمادهما الدائم على بعضهما البعض.
في هذا المقال سنحاول دراسة هذه الفوضى انطلاقاً من نقطتين أساسيتين؛ واحدة في التاريخ العربي، وتحديداً في منطقتنا، وهي تفكّك وسقوط الإمبراطورية العثمانية، أو ما يُطلق عليه "الخلافة الإسلامية"، أما الثانية فهي بعيدة عنا، لكن تأثيراتها طالتنا كما طالت بقية العالم، ولو بمقادير متفاوتة، ألا وهي سقوط جدار برلين في العام 1989.
لقد أنتج سقوط الإمبراطورية العثمانية، بصفتها الجسم السياسي الجامع للمسلمين تحت راية واحدة، حالة من الضياع وتشتّت الرؤى والأهداف، ولأن التاريخ ليس موضوعنا هنا، فسوف نشير فقط، ومن باب التذكير وليس البرهان، إلى بعض الأمور التي قد تفيدنا في خلاصاتنا النهائية إن صحّت.
من ضمن هذه الأمور، ذهاب بعض قيادات البرجوازية العربية إلى الملك فؤاد في مصر، لمبايعته خليفة للمسلمين. انقلاب رشيد رضا ومجلة "المنار" على فكر محمد عبده المنادي بالدولة الوطنية، وبدء المناداة بالخلافة الإسلامية. ابتداع مصطلح "العروبة" على يد فلاسفة قوميين غالبيتهم من المسيحيين، وذلك من أجل "التملّص" من، أو قطع الطريق على، عودة شكل للحكم يكون جوهره أو مركزه إسلامياً، كما كان في السابق. انقلاب حسن البنا على فكر رشيد رضا، والتوقف عن المناداة بالخلافة الإسلامية الجامعة لعموم العرب والمسلمين، لصالح مصطلح جديد هو الدولة الإسلامية المحصورة في حدود سياسية. إنشاء النظام العربي وعقود من المناداة والعمل القومي من أجل الوحدة العربية... والكثير الكثير من المشاريع المنطلقة من رؤية إسلامية تارة، ومن رؤية قومية تارة أخرى.
نحن في حضرة رؤيتين؛ واحدة إسلامية تبغي توحيد المسلمين من أجل خلق نموذج كما كان قبل هزيمة الإمبراطورية وتفكّكها، وواحدة قومية تبغي توحيد العرب من أجل خلق إمبراطورية جديدة، مسترشدة هي أيضاً، بالماضي المجيد للعرب وعصور ازدهارهم حين كانوا ضمن إمبراطورية واحدة ذات حكم مركزي
لا شك أن الاستعمار يستحق اللوم في كثير من الجوانب، لكن لا أحد فكّر بلوم النفس، أو بتحميلها مسؤولية التقصير أو الخطأ في التقدير، وذلك لأن النفس هذه لها تاريخ جيد يشفع لها، وهي بالتالي فوق النقد والمساءلة، ولأنها كذلك، أو لأن تاريخها كذلك، فقد شكّل ملجأً دائماً للهروب والاختباء في كل مرة يسوء فيها الحاضر. أعني أنه كلما اصطدمنا بخسارة ما أو هزيمة ليست في الحسبان، أو فشلنا في التعاطي مع الواقع، أو واجهنا محنة كبيرة أو صغيرة، فإن استدعاء الماضي هو ما ينقذنا من المساءلة، وهو ما يريّحنا ويشكل لنا الحماية، على المستوى النفسي في أقل تقدير.
من هذا الماضي، ومن لغته ومصطلحاته، تتمّ صياغة خطاب سلفي أيديولوجي يصلح لوصف ما نحلم به وللتنظير لما نتمناه، لكنه لا يصلح لا لوصف الواقع ولا لدراسة الحاضر أو استشراف المستقبل. فهو خطاب يفتقد للسياسة وأدواتها لصالح الأيديولوجيا ورومانسية أحلامها. وكما أن أصحاب الرؤيتين المتعلقتين بالأمة الإسلامية والوحدة العربية، القابعتين في الماضي وفي أحلام استعادته، قد أهملوا المشروع المتحقق وهو الدولة الوطنية القطرية، ولم يسعوا لتثبيتها وتطويرها، فقد أهملوا بالضرورة الخطاب التنظيري لهذا المشروع، ومحاولة وصفه وتبيان مزاياه وعلّاته.
المواطن المسكين، لا حيلة له إلا الضياع بين كثرة وتناقض الشعارات والآراء، ولا مأمن له إلا ترديد ما تتفق عليه الأغلبية، فالأغلبية دائماً على حق، حتى لو كانت ضد مصلحتها
لم يستطع قادة الرأي في العالم العربي، باستثناء قلة قليلة من المفكّرين الجادين، أن يروا المتغيرات وأن يأخذوها بالحسبان في إنتاج خطابهم، بل على العكس تماماً، فقد عاشوا حالة من النكران تمظهرت في محاولات حثيثة لإثبات صحّة خطابهم السابق، وصلاحيته المتجدّدة والقابلة للمزاحمة والفوز
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ اسبوعينمقال رائع فعلا وواقعي