شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الأغلبية دائماً على حق، حتى لو كانت ضد مصلحتها

الأغلبية دائماً على حق، حتى لو كانت ضد مصلحتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقيقة

الأربعاء 13 نوفمبر 202411:45 ص

تعرّضنا في المقال السابق، لفوضى الخطاب المجتمعي المرافق لهذه الحرب، والناتجة عن طبيعة العقل العربي وتعامله مع المعارف ككيانات مستقلة عن بعضها، هذا التعامل الناتج بدوره عن العلاقة الوثيقة، أو حتى السيامية، بين هذا الخطاب الصادر عن المجتمع وخطاب السلطة السياسية، واعتمادهما الدائم على بعضهما البعض.

في هذا المقال سنحاول دراسة هذه الفوضى انطلاقاً من نقطتين أساسيتين؛ واحدة في التاريخ العربي، وتحديداً في منطقتنا، وهي تفكّك وسقوط الإمبراطورية العثمانية، أو ما يُطلق عليه "الخلافة الإسلامية"، أما الثانية فهي بعيدة عنا، لكن تأثيراتها طالتنا كما طالت بقية العالم، ولو بمقادير متفاوتة، ألا وهي سقوط جدار برلين في العام 1989.

لقد أنتج سقوط الإمبراطورية العثمانية، بصفتها الجسم السياسي الجامع للمسلمين تحت راية واحدة، حالة من الضياع وتشتّت الرؤى والأهداف، ولأن التاريخ ليس موضوعنا هنا، فسوف نشير فقط، ومن باب التذكير وليس البرهان، إلى بعض الأمور التي قد تفيدنا في خلاصاتنا النهائية إن صحّت.

من ضمن هذه الأمور، ذهاب بعض قيادات البرجوازية العربية إلى الملك فؤاد في مصر، لمبايعته خليفة للمسلمين. انقلاب رشيد رضا ومجلة "المنار" على فكر محمد عبده المنادي بالدولة الوطنية، وبدء المناداة بالخلافة الإسلامية. ابتداع مصطلح "العروبة" على يد فلاسفة قوميين غالبيتهم من المسيحيين، وذلك من أجل "التملّص" من، أو قطع الطريق على، عودة شكل للحكم يكون جوهره أو مركزه إسلامياً، كما كان في السابق. انقلاب حسن البنا على فكر رشيد رضا، والتوقف عن المناداة بالخلافة الإسلامية الجامعة لعموم العرب والمسلمين، لصالح مصطلح جديد هو الدولة الإسلامية المحصورة في حدود سياسية. إنشاء النظام العربي وعقود من المناداة والعمل القومي من أجل الوحدة العربية... والكثير الكثير من المشاريع المنطلقة من رؤية إسلامية تارة، ومن رؤية قومية تارة أخرى.

نحن في حضرة رؤيتين؛ واحدة إسلامية تبغي توحيد المسلمين من أجل خلق نموذج كما كان قبل هزيمة الإمبراطورية وتفكّكها، وواحدة قومية تبغي توحيد العرب من أجل خلق إمبراطورية جديدة، مسترشدة هي أيضاً، بالماضي المجيد للعرب وعصور ازدهارهم حين كانوا ضمن إمبراطورية واحدة ذات حكم مركزي

إذن نحن في حضرة رؤيتين؛ واحدة إسلامية تبغي توحيد المسلمين من أجل خلق نموذج يشبه نموذج الماضي المجيد، أو عصر الازدهار الإسلامي كما كان قبل هزيمة الإمبراطورية وتفكّكها، وواحدة قومية تبغي توحيد العرب من أجل خلق إمبراطورية جديدة، مسترشدة هي أيضاً، ودون أن تفصح علانية عن ذلك، بالماضي المجيد للعرب وعصور ازدهارهم حين كانوا ضمن إمبراطورية واحدة ذات حكم مركزي.
لا الرؤية الأولى أجابت عن سؤال الهزيمة، بمعنى أنه ما دمنا أقوياء ومزدهرين خلال حكم الخلافة فلماذا هُزمنا؟ ولا الثانية سألت عن قدرة عناصر التشابه في التغلب على عناصر الخلاف، في أمة يجمع مكوناتها الدين واللغة، وتفرّقها المصالح والاقتصاد والمؤثرات الخارجية. ولأن الفشل كان من نصيب الرؤيتين، وظلّ كذلك إلى يوم الناس هذا، فقد قام دعاة كل رؤية بإقناع جماهيرهم بمسؤولية الاستعمار عن هذا الفشل.

لا شك أن الاستعمار يستحق اللوم في كثير من الجوانب، لكن لا أحد فكّر بلوم النفس، أو بتحميلها مسؤولية التقصير أو الخطأ في التقدير، وذلك لأن النفس هذه لها تاريخ جيد يشفع لها، وهي بالتالي فوق النقد والمساءلة، ولأنها كذلك، أو لأن تاريخها كذلك، فقد شكّل ملجأً دائماً للهروب والاختباء في كل مرة يسوء فيها الحاضر. أعني أنه كلما اصطدمنا بخسارة ما أو هزيمة ليست في الحسبان، أو فشلنا في التعاطي مع الواقع، أو واجهنا محنة كبيرة أو صغيرة، فإن استدعاء الماضي هو ما ينقذنا من المساءلة، وهو ما يريّحنا ويشكل لنا الحماية، على المستوى النفسي في أقل تقدير.

من هذا الماضي، ومن لغته ومصطلحاته، تتمّ صياغة خطاب سلفي أيديولوجي يصلح لوصف ما نحلم به وللتنظير لما نتمناه، لكنه لا يصلح لا لوصف الواقع ولا لدراسة الحاضر أو استشراف المستقبل. فهو خطاب يفتقد للسياسة وأدواتها لصالح الأيديولوجيا ورومانسية أحلامها. وكما أن أصحاب الرؤيتين المتعلقتين بالأمة الإسلامية والوحدة العربية، القابعتين في الماضي وفي أحلام استعادته، قد أهملوا المشروع المتحقق وهو الدولة الوطنية القطرية، ولم يسعوا لتثبيتها وتطويرها، فقد أهملوا بالضرورة الخطاب التنظيري لهذا المشروع، ومحاولة وصفه وتبيان مزاياه وعلّاته.

المواطن المسكين، لا حيلة له إلا الضياع بين كثرة وتناقض الشعارات والآراء، ولا مأمن له إلا ترديد ما تتفق عليه الأغلبية، فالأغلبية دائماً على حق، حتى لو كانت ضد مصلحتها
خطاب آخر سلفي أيديولوجي سيطر على جزء كبير من منتجي الثقافة والفكر في العالم العربي هو خطاب يمكن تسميته دون تردّد بـ "خطاب سقوط جدار برلين". لم يكن سقوط جدار برلين تعبيراً فاضحاً عن انتصار الرأسمالية الغربية وانتهاء عالم القطبين فحسب، بل كان إيذاناً بدخول هذا العالم في مرحلة جديدة من تطوّره وهي "عصر العولمة".
لا داعي للاسترسال بما هو عصر العولمة بقدر ما هو ضروري التأكيد على أن شكل التحالفات في هذا العصر قد اختلف جذرياً عما كان في السابق، فالمصالح الاقتصادية صارت هي المعيار، وتراجع معيار الأيديولوجيا، والشركة استولت على نصيب كبير من وظيفة الدولة كمؤسسة حاكمة، بل وزاحمتها حتى في استثماراتها الخارجية، كما لا يندر وجود تحالفات لهذه الشركات تتعارض مع تحالفات الدول الراعية لها. حركات التحرّر والثورات المحلية والانقلابات السياسية هنا وهناك فقدت الزخم السابق من حلفائها، وانكمش الاهتمام بها وبمآلاتها في حدود مؤسسات حقوق الإنسان والأجسام القانونية والإغاثية.
لم يستطع قادة الرأي في العالم العربي، باستثناء قلة قليلة من المفكّرين الجادين، أن يروا هذه المتغيرات وأن يأخذوها بالحسبان في إنتاج خطابهم، بل على العكس تماماً، فقد عاشوا حالة من النكران تمظهرت في محاولات حثيثة لإثبات صحّة خطابهم السابق، وصلاحيته المتجدّدة والقابلة للمزاحمة والفوز.
هذا الخطاب أيضاً يحكم على الحاضر بلغة ومفاهيم الماضي، ويصفه بأثر رجعي إن صحّ التعبير، فهو لا يرى في المذبحة التي تحصل في غزة مثلاً، إلا نموذجاً مكرّراً من الجزائر، ولأن المقدمات بين النموذجين متشابهة فلا بد أن تكون النتائج متشابهة كذلك.

لم يستطع قادة الرأي في العالم العربي، باستثناء قلة قليلة من المفكّرين الجادين، أن يروا المتغيرات وأن يأخذوها بالحسبان في إنتاج خطابهم، بل على العكس تماماً، فقد عاشوا حالة من النكران تمظهرت في محاولات حثيثة لإثبات صحّة خطابهم السابق، وصلاحيته المتجدّدة والقابلة للمزاحمة والفوز

وهو يصم آذانه ويغمض عينيه عن كل المتغيرات التي حصلت في العالم منذ ما يقرب المائة عام من الزمن، ولا يريد، قاصداً أو غافلاً، أن يقيس اختلاف الحلفاء والبيئة والأدوات وطبيعة العدو، ولا عناصر القوة والضعف. كل ما يعنيه هو أن يظل خطابه، السابق لانهيار جدار برلين، صالحاً لكل مكان وزمان، كنص مقدس غير قابل للنقد أو النقض.
هذه ثلاثة نماذج للخطاب العربي وتعاطيه مع مشكلاته وحروبه، وكل منها يعتقد، بسذاجة مفرطة، أن له الدور أو الغلبة في السوق، لكنها في الحقيقة، ودون أن يعلم أصحابها، مادة دسمة وجاهزة دوماً للتلاعب من قبل صانع الرأي الأول في الساحة وهو الإعلام. هذا الإعلام هو من يختار الشعار الحالي في المكان المعين، وذلك حسب أجندة ومصالح مموّليه، ويبدأ بضخّه بين جماهير المتلقين، أما من يعتقدون أنهم صانعو رأي، فلا دور لهم إلا صياغة المادة الأولية وتقديمها للمموّل وقناته الإخبارية، إذ لا أريد القول إنهم يشتغلون في أحيان كثيرة موظفين عند هذا الإعلام.
أما المواطن المسكين، وفي غياب فكر جاد وجريء، وحريص على الوطن والمواطن، فلا حيلة له إلا الضياع بين كثرة وتناقض الشعارات والآراء، ولا مأمن له إلا ترديد ما تتفق عليه الأغلبية، فالأغلبية دائماً على حق، حتى لو كانت ضد مصلحتها.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image