خلال بضعة أسابيع فقط، تحولت بيروت إلى أكبر موقف سيارات في العالم، "ست الدنيا" التي لطالما احتضنت الجميع، تكتظ شوارعها بالنازحين الملتجئين إليها جراء العدوان الإسرائيلي على لبنان.
على مدى عصور، اعتادت بيروت على الصخب، وتكيّفت مع الزحام، ومع ذلك، ما يحدث اليوم في المدينة التي تمتد على مساحة حوالي 20 كلم مربع، يتجاوز كل التوقعات. تختنق بيروت -المدينة الضيقة أصلاً- بالسيارات القادمة من كل حدب وصوب، وذلك بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان الذي دفع مئات الآلاف إلى الهروب من مناطقهم والنزوح إلى العاصمة.
ووفقاً لبلدية بيروت، فإن "حوالي 70,000 سيارة جديدة" وفدت إلى شوارع المدينة المزدحمة أصلاً، لتصبح العاصمة أشبه بموقف سيارات ضخم، يعاني من سوء الإدارة.
الشوارع المزدحمة تخنق المدينة
كان بإمكان العاصمة، في أيامها العادية، أن تُظهر بعض التحمل للازدحام، ولكن مع قدوم هذا العدد الهائل من السيارات، باتت الطرق شبه مشلولة. لا مفر من الزحمة! ومهما حاولنا شرح الأمر، فإن ما يحدث يومياً على الطرقات خارج عن السيطرة. إن كنت تحتاج التنقل، فالسير خانق، وإن اخترت ركن السيارة، فهذه مهمة شبه مستحيلة.
الشوارع الضيقة تحولت إلى بحرٍ من السيارات التي تتسابق على أي مساحة متاحة، سواء كان ذلك في وسط الطرق أو على الأرصفة. ولم تعد الطرق تتحمّل، فأصبح التحرك داخل المدينة تحدياً حقيقياً، حتى أن المسافة التي كانت تستغرق دقائق باتت اليوم تستغرق ساعات، وسط استياء عام وتوتر يشعر به الجميع.
كان بإمكان بيروت في أيامها العادية، أن تُظهر بعض التحمل للازدحام، ولكن مع قدوم هذا العدد الهائل من السيارات، باتت الطرق شبه مشلولة
تقول حنين إن طريقها إلى العمل الذي كان يستغرق 10 دقائق، بات اليوم يتطلب 40 دقيقة وأحياناً أكثر. في المقابل، آثرت ديما أن تترك سيارتها الخاصة مركونة، والاستعاضة عنها بوسائل النقل المشترك لتهرب من فعل القيادة اليومي بعد أن أمسى مشقة حقيقية.
يشرع هذا الحديث الباب على موضوع النقل العام المشترك في لبنان، الذي لطالما كان حديث الرأي العام اللبناني وواحداً من أبرز القضايا العالقة. فحتى يومنا هذا، لم تستطع الدولة اللبنانية تأمين خطة كاملة وكافية للنقل العام المشترك، الأمر الذي فاقم مشكلة السيارات المزدحمة في العاصمة ووضعنا أمام خطر انفجار اجتماعي حقيقي.
أما الخطة السابقة التي استغرق التخطيط لها سنوات، والتي تتضمن تسيير حافلات نقل مشترك يبلغ عددها 96 باصاً، فقد أحبط تنفيذها بشكل كامل من قبل "قطاع الطرق" المتمثلين بـ"مجموعات النقل الخاص"، والتي كانت لتكون ملاذاً للناس الآن.
لذا يمكن القول إن الناس يدفعون ثمن تأخر الدولة في وضع الخطط، وفشلها في تنفيذها، ومن ثم حمايتها.
انعكاسات الأزمة على حياة الناس
قد يبدو الازدحام مجرد أزمة مرورية، ولكنه في الواقع امتد ليطال أوجهاً لحياة السكان اليومية، فمعدلات التلوث ارتفعت مع كثافة السيارات، وازدادت ساعات الانتظار الطويلة في السيارات، ما تسبب بنوع من الاختناق النفسي، إذ بات الخروج من المنزل مغامرة مرهقة. والأحياء التي كانت تنبض بالحيوية والحياة باتت اليوم أقرب إلى أماكن صاخبة، مليئة بالضوضاء ودخان العوادم، مما زاد من مستوى الإجهاد والتوتر لدى السكان.
وبالحديث عن التلوث، لا بد من ذكر التلوث السمعي أيضاً الذي قد يعتبره البعض ثانوياً، لكنه فصل مظلم آخر من فصول الحرب. بين أصوات القصف وخرق جدار الصوت المتكرر من قبل العدو، نجد أنفسنا أمام ضوضاء من نوع آخر تسلب منا الهدوء، اليوم أصبح الهدوء في بيروت حلماً صعب المنال.
عرقل هذا العدد الضخم من السيارات يوميات الناس، وحتى احتياجات النازحين منهم. وبعض الشوارع ضاقت لدرجة انعدام قدرة صهاريج المياه على الوصول إلى أماكن التعبئة. وبينما تعاني المدينة أصلاً من شح في المياه بسبب مشاكل متراكمة متعلقة بشح الينابيع وانقطاع الكهرباء المتكرر، كما تقول مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، يرتفع منسوب الأزمة أكثر وأكثر مع صعوبة مرور صهاريج تعبئة المياه في الأحياء الضيقة المتخمة بالسيارت.
بسبب هذه الحاجة الملحة، ابتكر السكان حلاً قد يكون نافعاً ولكنه مضر في ذات الوقت، فأصبح الليل ملاذ الصهاريج الوحيد، فتنشط حركتهم بعد الساعة العاشرة علهم يفرغون ما في خزّاناتهم دون عوائق أو مشاكل محتملة. وفي المقابل تنتج أصوات مرتفعة من الصراخ واللوجيستيات المعقدة، لا سيما في الأماكن الضيقة.
تطال الأزمة جوانب أكثر حساسية، منها إمكانية مرور سيارات الإسعاف إلى مقصدها، فمن الطبيعي أن ينتج عن ازدحام الناس حالات طبية طارئة، لكن ازدحام السيارات المركونة يميناً ويساراً يحول دون الوصول المطلوب لسيارات الإسعاف بيسر وسرعة. بعض الحالات تتطلب قطع السير تماماً لعدة دقائق، بغية تأمين وصول السيارة وضمان نقل المرضى.
يحدث هذا يومياً في العاصمة التي تستقبل العدد الأكبر من النازحين، وتزداد الحاجات مع متطلبات الحياة الأساسية؛ كنقل المرضى إلى المستشفيات مثلاً.
وفي السياق نفسه، وقع حريق كبير في أحد مواقف السيارات في "محلة الحمرا"، بسبب تسرب مادة "المازوت" من مولد كهربائي، وللأسف، فإن تأخر وصول آليات الإطفاء في الوقت اللازم، تسبب بانتشار الحريق على نطاق واسع، ملتهماً عشرات السيارات ومبنَين قريبين من الموقف. في قراءة أخرى للحادثة فقد حالت "تخمة" الطرقات بالسيارات دون السيطرة على الحريق.
معدلات التلوث ارتفعت مع كثافة السيارات، وازدادت ساعات الانتظار الطويلة، مما تسبب بنوع من الاختناق النفسي، إذ بات الخروج من المنزل مغامرة مرهقة. أما الأحياء التي كانت تنبض بالحيوية باتت اليوم أقرب إلى أماكن مليئة بالضوضاء ودخان العوادم، مما زاد من مستوى الإجهاد والتوتر
يُحمّل المهندس عاطف بارود مسؤولية الحريق لشرطة سير بيروت، ويرى أن "تأخر سيارات فوج الإطفاء هو نتيجة عدم اعتماد خطة سير مسبقة لتسهيل عمل أي سيارة إسعاف أو إطفاء".
وبالحديث عن التصميم المعماري للمدينة، يؤكد في حديثه لرصيف22 أن "التقصير المتراكم على مدى السنين أدى إلى تكدس الأعداد، وإلى عدم القدرة على توزيع السيارات بشكل سليم على المواقف العمومية".
يتساءل بارود عن دور وزارة النقل، وعن سر عدم قدرتها على إيجاد الخطط العملية والبدائل المريحة للناس. كذلك، يشير في حديثه إلى موضوع "الأرصفة التي تمت توسعتها دون دراسة حقيقية للنتائج، الأمر الذي جعلها عبئاً على ممرات السيارات". وحول هندسة الطرقات وحيثياتها، يقول إن "إدارة ملف النفايات يفتقر إلى التنظيم من حيث الأوقات التي تمر بها الشاحنات، فضلاً عن إدارة المستوعبات وأمكنتها في الأزقة"، الأمر الذي يسبب ضيقاً إضافياً يمكن ربطه بأزمة المرور.
النزوح، والسيارات، والأزمة الاقتصادية
بالإضافة إلى التحديات اليومية، هناك جوانب اقتصادية، فالنازحين حملوا معهم ليس فقط سياراتهم؛ بل أيضاً متطلبات معيشية، وهو ما أثقل كاهل البنية التحتية للمدينة التي لم تكن مستعدة لاستيعاب هذا العدد الهائل من السيارات. وقد أهمل المسؤولون عن المدينة هذا الملف إلى أن "وقعت الفأس على الرأس"، واضطر الناس إلى مواجهة أزماتهم بأنفسهم. وأمام هذا الواقع، تضاعفت تكلفة المعيشة، وباتت بيروت تواجه نقصاً في مواقف السيارات وارتفاعاً في تكلفة ركنها، مما أضاف عبئاً إضافياً على السكان وعمّق الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
وهنا أطل تجار الأزمات. هؤلاء الذين يمتهنون استغلال حاجة الناس. فبين ارتفاع تكلفة النقل المشترك -سيارات الأجرة مثلاً- وارتفاع تسعيرة مواقف السيارات، يجد الناس أنفسهم كضحايا لمطرقة من نوع آخر.
الذهاب إلى العمل والعودة منه تكلف المواطن اللبناني حوالي 400 ألف ليرة (5 دولارات تقريباً)، وهو رقم ليس بالقليل إذا احتسبناه على مدى الشهر. أما من يفضل الذهاب بسيارته، فتضاف إلى حسبته كلفة الوقود المرتفعة وكلفة ركن السيارة، فلا طرقات تتسع، ولا أرصفة تكفي.
تتراوح تعرفة ركن السيارة اليومي في مواقف بيروت بين الـ 300 ألف والـ 500 ألف ليرة. لذا صار لزاماً على الناس تخصيص معاش آخر فوق معاشهم، للتنقل.
على مقلب آخر، هناك من فضّل ركن سيارته بشكل دائم وعدم استخدامها بشكل يومي بحكم توقف مئات المؤسسات عن العمل. لذا يُعد محظوظاً من استطاع حجز مكان لسيارته في الشارع، وإن كان في منطقة بعيدة.
إبراهيم مثلاً ترك سيارته في منطقة عين المريسة، بينما يقطن هو في الحمرا، أي على بعد كيلومترات. أما من باغته الوقت، فقد اضطر للبحث عن مواقف عمومية -إن وجدت- وهنا تكمن الكارثة، إذ تطلب بعض المواقف مبلغ 100 دولار مقابل ركن السيارة شهرياً. ماريانا بحثت لساعات عن موقف يأوي سيارتها، ووصلت حد اليأس والبكاء، وعلى الرغم من أن هذه المشكلة تبدو بسيطة مقابل ما يحدث في الحرب، لكنها تشكل عبئاً لا يمكن الاستهانة به عليها.
يحدثنا الناس عن طرائف تحدث يومياً تحمل في طياتها معاناة. مثلاً لدى خروجنا من مطعم في أحد شوارع بيروت، هرع إلينا شخص يسأل: "وين سيارتكم؟ بدي صف مكانكم." فقد افترض الرجل أننا جئنا بسيارة، وبالتالي فقد وجد أخيراً مكاناً ليركن سيارته بعدما أمضى حوالي ساعة في البحث عن مكان، ولم يجد سبيلاً للحل إلا انتظار الناس على أبواب المحلات.
استخدامات غريبة في زمن الحرب
ابتكر الشعب اللبناني، كعادته، طرقاً ملهمة للتعامل مع أزمة السيارات في بيروت. البعض اتخذها مأوىً وحولها إلى بيت صغير يركنه في الشارع وينام فيه. والبعض الآخر استعملها لعرض منتجاته مستعيضاً بذلك عن المحال التي تدمرت في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية. مثل علي الذي نزح من منطقة النبطية الجنوبية، يعرض في سيارته في منطقة عين المريسة، محصوله الذي تمكن من انتاجه كزيت الزيتون والزيتون والزعتر. آخرون يعرضون الملابس بأسعار مدروسة "بتمشي الحال"، كما يقولون لرصيف22.
علي الذي نزح من منطقة النبطية الجنوبية، يعرض في سيارته في منطقة عين المريسة، محصوله الذي تمكن من إنتاجه كزيت الزيتون والزيتون والزعتر.
أما عن حلول "الصَفّات"، فلهذا قصة أخرى. الأرصفة والجسور وواجهات المحال والساحات والحدائق وغيرها، كلها تحولت إلى معرض كبير يركن فيه الناس سياراتهم بشكل لا يمكن يخطر ببال عاقل، إبداع يفي بالغرض، لكنه يخلق ضيقاً ومشكلات ونزاعات.
ما الحل؟
السؤال الأول الذي يراود كل اللبنانيين الآن: أين خطة الطوارئ التي وضعتها الدولة؟ ألم تستغرق هذه الخطة المنشودة أشهراً من الإعداد؟
في ظل هذه الأزمة الخانقة، يقف المسؤولون أمام تحد كبير. فإعادة تنظيم حركة المرور، وتطوير وسائل النقل العامة، أو إنشاء مواقف جديدة، أصبحت ضرورة ملحة. ربما تكون الحاجة الآن إلى حلول مستدامة تضمن تخفيف العبء عن العاصمة وتعيد لها توازنها المفقود.
في المقابل، وعوضاً عن تحمل المسؤولية، تعمد الدولة إلى فرض مخالفات سير، وعلى الرغم من أن اللجوء إلى هذا الأمر مفهوم أحياناً، لكن فرض الضرائب والمخالفات، يتطلب طرح حلول وتسهيلات بديلة، فقد ارتأت الحكومة اللبنانية أن تعاقب من لم يجد مفراً من الزحمة، وتحميله عبئاً جديداً.
وفي حديث لرصيف22 مع بعض المواطنين افادوا بتلقيهم مخالفات سير إثر ركن سياراتهم في أماكن "يمنع الركن فيها"، بينما تطلق وزارة الداخلية مطلع الأسبوع الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر حملة أمنية في محافظتي بيروت وجبل لبنان لضبط الدراجات النارية المخالفة.
في حديثه لرصيف22 أكد رئيس بلدية بيروت عبدالله درويش أن أزمة السيارات الحالية هي واحدة من أكبر الأزمات التي عاشتها بيروت. وبوفود "أكثر من 320 ألف نسمة" إلى العاصمة، تتأثر البنية التحتية للمدينة بشكل ملحوظ.
ينعكس هذا بحسب درويش على "حركة السير، آلية جمع النفايات، إطفاء الحرائق، نقل المرضى، الخ." ولدى سؤاله عن الحلول، يقول درويش إن هيئة إدارة الكوارث تعمل جاهدة على حل هذه المشكلة.
تعمد الدولة إلى فرض مخالفات سير على المواطنين، وعلى الرغم من أن اللجوء إلى هذا الأمر مفهوم أحياناً، لكن فرض الضرائب والمخالفات، يتطلب طرح حلول وتسهيلات بديلة، إلا أن الحكومة ارتأت أن تعاقب من لم يجد مفراً من الزحمة، وتحميله عبئاً جديداً
في الإطار نفسه، يقول مصدر أمني لرصيف في مفرزة سير بيروت إن عديد الشرطة الموجود غير كاف لمتابعة ملف بهذا الحجم، وإن "القرار الحاسم يجب أن يُتخذ في مجلس الوزراء وليس على نطاق ضيق"، مضيفاً أن العسكر والشرطة يحاولون قدر المستطاع التعاون مع الناس، لكن في الأزمات الكبيرة "يوضع صغار العساكر والضباط في مواجهة مباشرة مع الناس، ولكنهم غير قادرين على تلبية متطلبات أزمة نزوح كهذه لوحدهم".
لعل الضياع هو السمة الأبرز لأداء الدولة في هذا التحدي الكبير. ضياع ظهر جلياً في تصريحات المسؤولين الذي فضّل بعضهم عدم التصريح بشكل مباشر، لضعف ما قد يصدر عنهم من أقوال، وافتقاره لأدنى مقومات الجهوزية المطلوبة.
وإلى حين الوصول إلى حلول تنصف المواطنين في سرائهم وضرائهم، تبقى بيروت مدينة تختنق بين الأمواج المتلاطمة من السيارات، تحمل معها حكايات النازحين وآمالهم، وتواجه أزمةً مروريةً خانقة تضاف إلى سجل الأزمات التي تحاصرها منذ زمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 17 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت