هل صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، أم شعيرة اختيارية من أدّاها جزاه الله عنها خيراً، ومن لم يؤدِّها يتوجب عليه إطعام مسكين فقط؟ هذان السؤالان ما كانا ليُطرحا للنقاش إلا بسبب كلمة وردت في إحدى آيات سورة "البقرة". لكنّ لصيام رمضان عند العرب والمسلمين قصةً طويلةً يجب أن تُروَى.
شهر "رمضان" قبل الإسلام
يروي كثيرٌ من المؤرخين أن كلاب بن مرة -الجدّ الخامس للرسول- هو أوّل من سمّى الشهور العربية، واختار في تسميتها موافقة الشهور لحالات وقعت في كل شهر. فمثلاً، رجب من "الترجيب وهو التعظيم، وشعبان من تشعّب القبائل وتفرّقها للإغارة بعد تركها ذلك في رجب، ورمضان من الرمضاء، وهي شدّة الحر، وقد صادف وقت التسمية أن كان الطقس حارّاً جدّاً"، وذلك وفقاً لما أورده محمد أبو شهبة، في كتابه "السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنّة"، ووافقه في ذلك عددٌ من المؤرخين، مثل شهاب الدين النويري، في كتابه "نهاية الأرب في فنون الأدب".
هل صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، أم شعيرة اختيارية من أدّاها جزاه الله عنها خيراً، ومن لم يؤدِّها يتوجب عليه إطعام مسكين فقط؟ هذان السؤالان ما كانا ليُطرحا للنقاش إلا بسبب كلمة وردت في إحدى آيات سورة "البقرة"
لم يكن رمضان شهراً للصيام. وحتى وقت بدء الدعوة الإسلامية لم يصُم المسلمون فيه يوماً واحداً، وظلّوا على هذه الحال ثلاثة عشر عاماً قضاها النبي وأصحابه في مكة، وأتبعوها بعامٍ كامل في المدينة، ثم في السنة الثانية من الهجرة، نزلت آيات الصيام، وتبدأ في سورة "البقرة": "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ"، وتنتهي بقوله: " وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".
هل صيام رمضان اختياري؟
قبل تلك الآيات الواردة في سورة "البقرة"، كان المسلمون يصومون -كما أمرهم النبي- ثلاثة أيام من كل شهر، أو كما يروي البيهقي وأبو داود في سننهما: "عن ابن أبي ليلى يقول: حدّثنا أصحابنا أن رسول الله لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام، ثمّ أنزلَ رمضان، وكانوا قوماً لم يتعودوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديداً".
رواية أبي ليلى، تتوافق مع الوارد في قوله تعالى: "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين"، أي أن صوم رمضان كان شاقّاً على الصحابة -حتى الأصحّاء منهم- لذلك استعاض كثيرٌ منهم بإطعام مسكين عن كل يوم يفطرونه، وهو ما كان السبب الذي جعلَ كثراً من المتأخرين يرونَ أن المسلمين المُطيقين للصيام أحرارٌ في ما يختارون، إن أرادوا الصوم فهو "خيرٌ لهم"، وإن أرادوا الإفطار فعليهم إطعام مسكين.
في السنة الثانية من الهجرة، نزلت آيات الصيام، في سورة "البقرة": "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ"، وتنتهي بقوله: " وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".
هذا الرأي قال به الباحث والمفكر السوري الدكتور محمد شحرور، الذي رأى أن الآية واضحة، وكلمة "يُطيقونه" تعني الاستطاعة، إذاً، وفقاً لرأيه، الصيام ليس فرضاً.
الرأي ذاته، قال به الباحث الجزائري سعيد جاب الخير، حين صرّح في أكثر من مقابلة تلفزيونية بأن صيام رمضان "اختياري" حتى على المستطيع، وروى أن "بعض الصحابة كانوا لا يفطرون، ولم يجبرهم النبي على الصيام".
قبل عامين، أُثِيرَ الجدلُ مرةً أخرى على يد الأزهري الدكتور مصطفى راشد، المعروف بمفتي أستراليا، حين كتب مقالاً فسّر فيه قوله تعالى "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين"، بأن العلّة الأساسية وراء الصوم هي الشعور بالمساكين، أو كما قال: "إطعام المسكين هو التكافل المطلوب حتى لو كان المسكين غير مسلم، فهذا أفضل لأن الصيام لن يفيد الله في شيء، فهو الغني عن كل شيء، والعبد محتاج، والله لا يحتاج، لذا لم يضع شرع الله عقاباً للمفطر بل جعله اختياراً، لكن معطوبي العقل وضعوا الكثير من الأحاديث المزوّرة عن الصيام لإرهاب الناس بسبب فهمهم الخطأ للآيات".
هل الآية ناقصةٌ حرفاً؟
بيد أن الجدل الذي سببته جُملة " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ"، أرّق السابقين من علماء اللغة، فلجأوا إلى صيغة لغوية لرأب الصدع، مفادها أن الجملة فيها تقدير محذوف وهو "لا"، لتصبح الجملة "وَعَلَى الَّذِينَ لا يُطِيقُونَهُ"، ورأوا أن الذين "لا يُطيقونه" هم كبار السنّ غير القادرين على الصوم، كما ذكر محمد بن إبراهيم الكندي في كتابه "بيان الشرع".
اختلاف القراءات أيضاً كان أحد الحلول لإيجاد تفسير توفيقي لهذه الجملة المُلغزة. إحدى هذه القراءات كانت للصحابي عبد الله بن عباس، الذي رُوي في الأثر أنه كان يقرأها "وعلى الذين يطوقونه" (بالواو)، ومعناها يتجشمونه ويتكلفونه، أي لا يُطيقونه.
وروى البخاري في صحيحه: "حدّثنا علي بن شيبة، قال: حدّثنا روح بن عُبادة، قال: حدثنا زكريا بن إسحاق، قال: حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (وعلى الذين يطوقونه) فدية طعام مسكين".
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "التلخيص الحبير"، نقلاً عن ابن عبد البر: "رُوِيَت هذه القراءة (يطوقونه) عن طُرُق ابن عباس، وعائشة، ومجاهد، وجماعة".
الناسخ والمنسوخ يحسم الجدل
على المستوى الفقهي، جاء علم الناسخ والمنسوخ وقضى على كل هذا الخلاف، ووضع الحكم الذي يسير عليه المسلمون إلى الآن، وباتَ صيام رمضان أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، وفقاً للإجماع المعروف عند أهل السنّة بأنه أحد أهم الأدلة الفقهية بعد القرآن والسنّة. وبتبسيط غير مُخلّ، فالناسخ والمنسوخ مُصطلحان ينتميان لعلم أصول الفقه. وعليه، فالناسخ يُراد به الله تعالى كونه الشارع، والنبي كونه حامل الرسالة، أما المنسوخ فهو الحكم الشرعي في آية ما. إذًا، فالنسخ هو إبطال حكم آية بآية أخرى أو بحديث نبوي.
بالنظر إلى آيات صيام رمضان في سورة "البقرة"، نجد ترتيبها بدءاً من الآية 183 حتى الآية 185، كالتالي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ".
قبل تلك الآيات الواردة في سورة "البقرة"، كان المسلمون يصومون -كما أمرهم النبي- ثلاثة أيام من كلّ شهر، أو كما يروي البيهقي وأبو داود في سُننِهما: "عن ابن أبي ليلى يقول: حدّثنا أصحابنا أن رسول الله لما قدم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام ثمّ أنزلَ رمضان، وكانوا قوماً لم يتعودوا الصيام وكان الصيام عليهم شديداً"
والقائلون بالنسخ يرون أن قوله تعالى "وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين"، تم نسخها بما بعدها في قوله تعالى "فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"، أي أنّ كل من حضرَ شهر رمضان وكان مُطيقاً، فالصوم مفروض عليه، وبه قال غالبية المفسرين، وخاصةً المؤمنين بفكرة الناسخ والمنسوخ في القرآن.
وبمرور الزمنِ عضد ذلك القول، الحديث المروي في الصحيحَين "البخاري ومسلم": "عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، وصوم رمضان".
ما زال الباب مفتوحاً للتأويل
برغم الإجماع على نسخ الآية، والإجماع كذلك على صحة حديث أركان الإسلام، فالباب ظل مفتوحاً على مصراعيه، لأن مفهوم الناسخ والمنسوخ هناك من يُنكره من القدامى مثل التابعي عبيد بن الليثي، والفقيهين محمد بن بحر الإصفهاني، والفخر الرازي، ومن المحدثين: محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومحمد الغزالي.
حتى الحديث المُحتجّ به على فرضية الصيام، كونه من أركان الإسلام، هناك أيضاً من يختلف عليه، لعدم ذكره في "موطأ" الإمام مالك، الذي عاش في المدينة في القرن الثاني الهجري، أي قبل قرنٍ كامل من ميلاد البخاري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...