تزدحم الشاشات بصورها. تقترب عيناي من الخريطة على شاشة الهاتف، تبتعدان، تكبر الصورة وتصغر. أعيد قراءة اسمها مرة أخرى للتأكّد. تلاحق عيناي حدودها المرسومة بدقة، أحاول أن أبحث عن كذبة في داخلي تطمئنني أن أوامر الإخلاء من جيش العدو الإسرائيلي لا تشمل المدينة كلّها، ليس بعلبك كلّها. عبث. أطفئ هاتفي فتشتعل ذاكرتي بخرائط معلقة على جدران كياني، تعود في تلك اللحظة كأن المدينة كلّها أخليت لي.
دار أهلي، دار جدي العتيقة، مكتبة أبي وعمّي ذات السّنوات التسعين، تفوح منها رائحة الكتب والغبار، كلها تعود إليّ. سرب البطّ يسبح صوبي في بركة "البيّاضة"، يتلفت بحثاً عن طفلٍ يرمي له خسّة أو بقايا خبز. شجر الحور العالي في حديقة رأس العين، يرتحل ليرتاح على كتفيّ، فالمقاعد أسفل أغصانه فارغة. لا عجوز يستريح، ولا طفل يركض كي يسمع خشخشة الورق. رصيف مقاهي النّهر تصبّ ماءها الحزين على وجهي، وتلك الشجرة التي شربت في ظلها كوباً ساخناً مع من أحب تحت حبات المطر، هربت إليّ... أين أخبئها؟
"ساحة المطران"، نوافذ مبانيها الجميلة وقرميدها الأحمر. ذكريات الطفولة في المركز الثقافي الفرنسي. صوت جرس الفرصة في مدرسة الراهبات، أو سوق بعلبك القديم الذي كنت أجوبه مع أمي لساعات، في عمر "الذي لا يعجبه العجب".
كيف أخلي هذه الأماكن كلّها من خريطة؟ أي طريق "آمن" ستسلك؟ لا مكان آمن فينا، فذواتنا التي نبحث عن طريق فيها لنخبّئ ما تبقى لنا من ذكرى بتنا نخسر منها أجزاء. وفاؤنا لها حزناً قد يمتد دهراً. ماذا لو كان عميق القهر ينفع؟ ربما كانت توقفت الحرب لعقود. ماذا لو كان صوت صرخة حارقة يحرق؟ ربما كانت أبرمت اتفاقيات وقف النار لأجيال. ربما تستطيع الإنذارات أن تخلي الناس من الأماكن، لكن الأماكن تتربص بالنّاس أينما رحلوا. أغمر المدينة كلّها، أطبطب خاطرها. مكسورة بعلبك مثلنا. أي حزنٍ هذا الذي سنشفى منه؟
بعلبك مريولي ومدرستي، سفرة طعام عائلتي وفرحي وحزني وألعابي وكتبي، هي طفلتي وأمي وجدتي. بعلبك صوت فيروز الذي سمعته فيها دون أن أراه، هي حفلة فيروز منذ عشرين عاماً. أجميل وجه بعلبك؟ لست أدري... فليس باستطاعتي سوى أن أحبّه كلّه
لطالما رأيت في وجه بعلبك الذي لفحته الشمس جزءاً كبيراً من العتمة، لدرجة أنّي ما كنت أدرك إن كان وجهها فعلاً جميلاً. جزء العتمة فيه كان مخيفاً، دفع المدينة أن تلفظنا منها أحياناً، كي نعود إليها متعبين حين نبحث عن الضوء. هي مدينة الشّمس والعتمة. شاخت المدينة، صارت أعمدة وصوراً وخانة ضمن التراث العالمي. قلعتها، قلبها الذي من حجارة، يخفق بانفصال روحي تام عن المدينة، للحد الذي صارت فيه القلعة تختصر المدينة كلّها وكأنها غير موجودة سوى لمن يعيش فيها، كأنّ الشّمس بالكاد يصل شعاعها لسور قلعتها فقط، ثم يختفي.
في يوليو عام 2006، كان من المفترض أن تقف فيروز ومعها زياد الرحباني في أحد معابد القلعة. كان من المفترض أن تغني لنا، فتقطعنا حبال صوتها التي لا تشبه شيئاً عن واقعنا لساعات من الوقت، تلقي بنا على الأدراج منتشين. مع امتداد الحفل، كانت ستنفصل القلعة عن صفائح الأرض التي اهتزت يوماً ما في أسفلها فحطمت أجزاء منها، كانت ستعلو الهياكل وسنعلو معها.
لم يحدث الحفل، فقد اندلعت الحرب في لبنان. كانت حفلة فيروز بالنسبة لي حدثاً عظيماً، انتظرته كانتظار حب، فتلاشى. مع مرور الوقت، بقي هذا الحفل خيبة أملي الذي استعضت عنه برؤية فيروز تغني" فيه أمل" على مسرحٍ آخر، لكن هذا التعويض كان ناقصاً، يشبه فوزي بمنزل أحلامي دون بقعة أرض أنتمي إليها. مرّ ما يقارب عشرون عاماً، ما عادت إلى القلعة لا فيروز ولا عاد زياد. انتظاري لحفلهما هو انتظاري لكل الأشياء الجميلة في المدينة، وخيبتي بكل تلك الأشياء التي لم تحصل.
إنه انتظاري لرؤية بعلبك مدينة تعجّ بالحياة، ترقص بالضوء، تضجّ بالضحك، تغفو بأمان. السائحون فيها يملؤون الفنادق الكثيرة، يبتلون بعشقها، فيعودون مرّات ومرّات، حتى يتمنون لو يسكنون فيها، ويحتسون فنجان قهوتهم عند كل صباح، على شرفة تطل على بساتينها الخضراء.
إنّه انتظاري لرؤيتها مدينة تحبنا، تحضن العجوز حين يكبر، وتمسك حقائب الشّباب حين يهمّون بالرحيل ضجراً، تغمرهم وتفتح لهم ألف باب. إنه انتظار رتيب، أفقد فيه الأمل. لست أدري أي أغنية كانت ستغني فيروز يومذاك في حفلها الملغى. بعد عشرين عاماً، بقي صوتها "يا قلب يا مشبّك بحجارة بعلبك" خيالاً محضاً، أصول وأجول فيه كما أريد، أستقي تفاصيله من ذكريات أبي عن المدينة. بقيت المدينة صورةً جميلة في ألبوم أبي الأسود والأبيض، وصورة في ألبومي أحاول تلوينها. بقيت تشبه أحد أعمدة الهيكل في قلعتها: اهتزّ بعد زلزال عنيف لكنه لم يسقط.
الأماكن تتربص بالنّاس أينما رحلوا. أغمر المدينة كلّها، أطبطب خاطرها. مكسورة بعلبك مثلنا. أي حزنٍ هذا الذي سنشفى منه؟
اليوم، ومع اشتداد أصوات الحرب، تتبعني المدينة وتختبئ في ذاكرتي، تخبرني أنها تحبّني، فتحميني بالرّغم من كل الخطر الذي تعيش فيه. تحميني من كل خيباتي فيها، تلك الخيبات التي تتحجرّ في داخلنا فتبني جداراً فاصلاً بيننا وبين الرأفة والعشرة. تحميني من عتبي على صورة رسمتها لها ولم أرها يوماً، صورة وجهها في الشّمس. تحميني من رؤيته يحترق كي لا تؤذيني أكثر، فأتوقف عن حبّها وعن رؤية وجهها جميلاً.
لست أدري إن كنت أراه أصلاً جميلاً، فبعلبك ليست سائحاً موسمياً يأتي إليها، يُبهر ثم يجمع أغراضه ويرحل، ليست أعمدة ست أو كتاب تاريخ نقرأه ثم نعيده بين الكتب، ليست مذاقاً لصفيحة لذيذة تذوب في فمي. هي ليست قلعتي، هي ليست ليلة فاتنة في مهرجانات صيفية. بعلبك بيتي وغرفتي وأهلي، بعلبك مريولي ومدرستي، سفرة طعام عائلتي وفرحي وحزني وألعابي وكتبي، هي طفلتي وأمي وجدتي. بعلبك صوت فيروز الذي سمعته فيها دون أن أراه، هي حفلة فيروز منذ عشرين عاماً. أجميل وجه بعلبك؟ لست أدري... فليس باستطاعتي سوى أن أحبّه كلّه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...