كان يا ما كان في قديم الزمان، فتاة تعيش في بيت فقير في مدينة اسمها بيروت. تقف يوميًا على شباك المطبخ تغنّي وتطلب من جارتها أن ترفع صوت الراديو كي تسمع الموسيقى. كلّما غنت صرخ عليها جارها المزعج الذي يحاول النوم. في العطل تقصد منزل جدتها العزيزة في القرية، تتشارك القصص معها وتدشر في الطبيعة. كانت حياتها عادية مليئة بالصمت والبساطة، لم تكن تعلم بعد ما يخبئه لها القدر.
لا خجل في الحزن مع فيروز
في يوم من الأيام وبعد مرور سنوات، صادفت الفتاة الحبّ واكتشفت معه سحر صوتها، فبدأت باستخدامه، ومنذ تلك اللحظة وهي تسيطر على قلوب الناس.
كنت في الثالثة من عمري حين مسّني سحرها. أذكر تلك اللحظة بوضوح، تقود والدتي سيارة التويوتا، ومن الكاسيت تنبعث أغنية "بنت الشلبية". حاولت أن أجدها، أن أرى وجهها، وحين فشلت اكتفيت بالاستماع والانغماس في دوامة أبدية سترافقني في كل مراحل حياتي، أنسى فيها الفرق بين الفرح والحزن، أنسى فيها أنّها ليست لي وحدي.
قابلت الفتاة السحرية مرة واحدة. كنا في العام 2011 ، وكانت قد قررت أن تنعم علينا بإطلالة نادرة، وقفت وسط المسرح مرتدية الأبيض وما إن بدأت بالغناء حتى بدأ الحضور بالبكاء، يصير الرجال والنساء أمامها سواسية، حزنهم واحد، وفرحهم واحد. صُدمت وقتها من قوّة سحرها، استطاعت أن تبكي الجميع دون أن يشعر أحد منهم بالخجل، تخطوا معها الحواجز الاجتماعية وفكرة الحزن، فهي حين تردّد جملة حزينة لا يكون وقعها على قلوبهم موجعًا، بل دواءً يقول لهم ابكوا تشفوا، صوتي هنا لمساعدتكم، خذوا ما أتيتكم بقوة، ساعة واحدة وسأرحل. لا أذكر أغلب أغنيات تلك الحفلة لكنّي أذكر هالة المشاعر التي بعثتها، كيف اختفى الوقت، وركعنا جميعًا في اللحظة وصلينا معها.
حب فيروز هو الحب الوحيد الذي إذا ما شاركناه لا ينقص بل يفيض، أعطني أغنية وخذ عشراً، وهذه نظرية لن تُبرهن نحاول أنسنتها فيها. عدا سحرها الذي يخضعنا، أعتقد أننا نرث حبها من أهلنا وتحديدًا أمهاتنا.
خدي الأيمن على خد أمّي الأيسر وقت النوم وهي تغني لي "نسم علينا الهوا". الكاسيت الشفاف في السيارة يدور على كل الطرقات ولا يكلّ من تقديم المشاعر المبهرة نفسها في كل مشوار. أبي المتدين يكفي أن أُّسمعه "ليلية بترجع يا ليل" حتى يغمض عينيه ويتذكر حبه الأول. جدتي التسعينية ما إن تنطق فيروز "الأوف" حتى تبدأ رجلها اليسرى بالهز بحركة لا إرادية. أصدقائي يتنافسون فيما بينهم على إيجاد أكثر جملة حزينة غنّتها، ويبدأون مشاركتها في العلن، لا خجل في الحزن مع فيروز، حزن فيروز وجه الأجداد تريحنا تجعداتهم التي شقت حكاياتهم على جلدهم، ويكفي أن يبتسموا ليعيدونا إلى زاوية من الطفولة مجبولة بالعاطفة.
ينطق صوتها عن قلوبنا حب الرجال الذين نهواهم بلا أمل، بأسلوب خالٍ من الوجع ومليء بالتفريغ، قولي لهم يا فيروز كم نحبهم وكم نريدهم وكم تمنينا لو سرقناهم من الجموع لكنّنا تركناهم، دعي صوتك يحلّ علينا بكامل حزنه ليسلب منّا الألم.
أليس غريبًا أنّنا حين نشارك أخبارنا وأغنياتنا نبتعد قدر الإمكان عن كل ما هو حزين كي لا يخرقنا الآخر، إلّا عندما يتعلق الأمر بفيروز، يتخطى الحزنُ الكتمانَ، ويصير حالة قائمة في حد ذاتها مليئة بالجمال، يعلّق الأصدقاء عليها بالقلوب وبكتابة جملهم المفضلة من الأغنية، فلا نشعر ولو لثانية واحدة بأنّ مشاعرنا ورغباتنا مباحة، لأنّ صوت فيروز يحصّننا.
تقف فيروز أمام كل شيء بفوقية تجعلها أهم من أي حزن، فرح، رجل أو وطن، تتحوّل إلى مصدر لا خجل فيه أو مذلة من الانكسار العلني، هي المرحلة ما بعد وما قبل حدوث الأشياء، زاوية آمنة لنا، نحن الذين خسرنا أصواتنا فاستعنا بصوتها، ليقول للجميع علنًا: "إنّها حزينة اليوم لكنّها بخير، وقعت في الحب الصامت منذ السنة الماضية ستكون بخير، نصبت له شركًا بأغنية لي ولم يرد، لا بأس صوتي أهم وصوتي بخير".
أخاف أن تموت فيروز وأنا في بلد غريب، تنكسر التعويذة السحرية ويعود إليّ كل الحزن الذي سلبته مني، فلا أجد من أشاركه معه، ومن يفهم عليّ لماذا أبكي على صوت فتاة لا أعرفها سكنتني منذ أن ولدت.
وما إن بدأت فيروز بالغناء حتى بدأ الحضور بالبكاء، يصير الرجال والنساء أمامها سواسية، حزنهم واحد، وفرحهم واحد.
استطاعت أن تبكي الجميع دون أن يشعر أحد منهم بالخجل، تخطوا معها الحواجز الاجتماعية وفكرة الحزن، فهي حين تردّد جملة حزينة لا يكون وقعها على قلوبهم موجعًا، بل دواءً يقول لهم ابكوا تشفوا.
أخاف أن تموت فيروز وأنا في بلد غريب، تنكسر التعويذة السحرية ويعود إليّ كل الحزن الذي سلبته مني، فلا أجد من أشاركه معه، ومن يفهم عليّ لماذا أبكي على صوت فتاة لا أعرفها سكنتني منذ أن ولدت.
لا مكان للصدفة مع فيروز، كما انتظرت 4 سنوات لتقتنع بأداء "كيفك إنت" ننتظر أيامًا وأغنياتٍ رغم كل عبثيتها مقصودة، في الصباح فيروز مقصودة وفي المساء أيضًا، بالنسبة لي أكثر جملة حزينة غنتها هي "وانطرتك على بابي بليلة العيد، مرقوا كل اصحابي وحدك البعيد" حاليًا الجملة الأكثر حزنًا: "ويا خسارة ما كتبنا" ربّما لأنّه مهما كتبنا عنها ولها لن نستطيع أن نعوض ما قدمته لنا.
كان يا ما كان في قديم الزمان فتاة صغيرة خسرت جدّها، حاولت أن تستعين بالقرآن والصلاة والعائلة لتعوض عن غيابه، عن يده الممسكة بيدها طوال السنوات الماضية، عن كعك العباس اليوميّ وقت الغداء، قصص النجوم والجلوس تحت السنديانة في كرم التين قرب العين، عن حبّ لن تسترجعه. كل محاولتها باءت بالفشل، وانغمست الفتاة في الحزن والصمت.
في إحدى الليالي جاءت الفتاة السحرية التي تخلت عن اسمها القديم، وقدمت للصغيرة أغنية كي تستمع إليها في بستان التفاح والزيتون الذي زرعته معه وأصبحت تمشي فيه وحيدة منذ رحيله، اقتنعت الفتاة أنّ هذه الأغنية لها وحدها، ووجدت فيها حضنًا وحبًّا تحتاجهما، فتحوّل الحزن في داخلها، إلى صوت جميل أحيا الوجه الأقرب إلى قلبها، ومنذ تلك الليلة كلما اشتاقت لجدّها، عادت وأنصتت إليها. اسم الاغنية "سألوني الناس" واسم الفتاة السحرية فيروز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون