في الواحد والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1935، ولدت فيروز، أيقونة العرب، وسيدة الغناء التي أهدت العالم صوتًا لا يشبه إلا نفسه. تسعون عامًا مرت منذ أن أطلّت هذه المعجزة الفنية على عالمنا، لتكون أكثر من مغنية، بل رمزًا للحنين، وللحب، وللأمل الذي لا ينطفئ. اليوم، ونحن نحتفل بعيد ميلادها التسعين، نعود لاستحضار إرثها الفني والإنساني الذي تجاوز الزمن والجغرافيا، ليلامس كل قلب عرف معنى الشوق والدهشة.
بدايات أسطورة
نشأت فيروز في حي بسيط من أحياء بيروت، حيث كانت الحياة تسير على إيقاع هادئ بعيد عن ضوضاء المدن الكبيرة. في طفولتها، لم تكن تعلم أن صوتها سيصبح يومًا علامة فارقة في الموسيقى العربية. اكتشفها الموسيقي محمد فليفل وهي لا تزال صغيرة، وأقنع والديها بالسماح لها بالغناء. لاحقًا، كانت بدايتها الفعلية مع الإذاعة اللبنانية، حيث التقت الأخوين رحباني، عاصي ومنصور، اللذين سيغيران مسار حياتها الفنية.
مع عاصي الرحباني، الذي أصبح زوجها وشريكها الفني، بدأت فيروز مسيرتها الذهبية. الأغاني الأولى كانت بسيطة ومليئة بالحب، لكنها حملت ملامح مشروع موسيقي جديد سيضع الأغنية العربية في مستوى مختلف. ومع الوقت، أصبحت فيروز صوتًا يعبر عن الحنين للوطن، وعن الأحلام التي لا تخبو.
الأغنية التي لا تموت
صوت فيروز كان دائمًا يشبه الوطن. حين تغني "زهرة المدائن"، تشعر وكأنك ترى القدس بعينيك. وحين تقول "بحبك يا لبنان"، يكتمل المشهد بألوان الجبال ورائحة الصنوبر. أغانيها ليست مجرد كلمات وألحان، بل هي حالة إنسانية، تحمل في طياتها ذكريات أجيال وأحلام شعوب.
لم تقتصر أغانيها على الوطن، بل شملت الحب بأجمل تجلياته. أغنيات مثل "كيفك إنت"، و"أنا لحبيبي"، و"سألوني الناس"، ليست مجرد مقطوعات رومانسية، بل هي قصائد حية تعبر عن مشاعر الإنسان بكل صدقها وتعقيداتها.
صوت فيروز كان دائمًا يشبه الوطن. حين تغني "زهرة المدائن"، تشعر وكأنك ترى القدس بعينيك. وحين تقول "بحبك يا لبنان"، يكتمل المشهد بألوان الجبال ورائحة الصنوبر. أغانيها ليست مجرد كلمات وألحان، بل هي حالة إنسانية، تحمل في طياتها ذكريات أجيال وأحلام شعوب
أحد أبرز إنجازات فيروز التي لا يمكن نسيانها كان دورها في المسرحيات الغنائية التي أنتجها الأخوان رحباني. في هذه المسرحيات، مثل "بياع الخواتم" و"لولو"، جسدت فيروز شخصيات مختلفة، من فتاة بسيطة تحمل الأمل لقريتها، إلى حبيبة تعيش صراعًا داخليًا بين الحب والواجب.
المسرح الرحباني لم يكن مجرد استعراض موسيقي، بل كان منصة لتقديم قصص تعكس الواقع العربي بأسلوب شاعري. كانت فيروز في هذه المسرحيات تحمل صوت الشعب، تحكي عن الظلم والأمل، عن الحب والانتظار، وعن الحلم الذي لا ينكسر مهما اشتدت الظروف.
صوت الشتات والأمل
لأبناء الشتات اللبناني والفلسطيني والعربي، كانت فيروز أكثر من مغنية. كانت وطنًا متنقلًا يحمل في نغماته صوت البيوت المهجّرة، ورائحة الأرض التي تنتظر عودة أصحابها. أغانيها مثل "راجعون" و"زهرة المدائن" أصبحت نشيدًا لكل من يشعر بالغربة داخل وطنه أو خارجه.
هذا الارتباط بالوطن والأمل جعل فيروز صوتًا خالدًا، قادرًا على أن يجمع بين المختلفين. في زمن الانقسامات السياسية والاجتماعية، يبقى صوتها هو الرابط الذي يذكرنا بأننا جميعًا ننتمي إلى حلم واحد.
فيروز صوت يحمل في طياته أبعادًا فلسفية عميقة. كلمات أغانيها تتأمل الحياة بحلوها ومرها، تطرح أسئلة عن الوجود، وعن الزمن، وعن الإنسان في علاقته بالآخر وبالمكان.
على الرغم من غيابها عن الأضواء منذ سنوات طويلة، فإنّ فيروز لم تختفِ يومًا. هذا الغياب الواعي يعكس فلسفتها التي تعطي للفن كل ما يستحقه، فهي تعرف أن الخلود لا يتحقق بالبريق، بل بالصدق والبساطة
أغانٍ مثل "زهرة المدائن"، و"كان عنا طاحونه"، و"بحبك يا لبنان" تعبر عن تجربة الإنسان مع فقدان الأمان، ومع الأمل الذي ينبع رغم كل شيء. فيروز لم تكن فقط صوتًا يغني، بل كانت حالة فكرية وفنية تدعوك للتأمل والبحث عن المعنى.
على الرغم من غيابها عن الأضواء منذ سنوات طويلة، فإنّ فيروز لم تختفِ يومًا. في كل عيد ميلاد لها، وفي كل صباح نسمع فيه أغانيها، نشعر وكأنها ما زالت معنا. هي ليست بحاجة إلى الوقوف على المسرح أو الظهور في المقابلات الإعلامية لتثبت وجودها، لأن صوتها كافٍ ليكون حاضرًا في كل بيت وكل قلب.
هذا الغياب الواعي يعكس فلسفتها العميقة في الحياة. فيروز تعطي للفن كل ما يستحقه، فهي تعرف أن الخلود لا يتحقق بالبريق، بل بالصدق والبساطة.
تأثيرها على الأجيال الجديدة
صوت فيروز لم يتوقف عند الجيل الذي عاصرها، بل استمر ليؤثر في أجيال جديدة من الموسيقيين والفنانين. اليوم، يعيد فنانو الموسيقى البديلة والفرق المستقلة تقديم أغانيها بأساليب جديدة، في إشارة إلى أن إرثها الفني لا يزال ينبض بالحياة.
يبقى صوتها الرابط بين العرب في كل مكان. الشباب يرون في فيروز صوتًا خالدًا، يعبر عن القيم التي تجمعنا رغم كل الاختلافات.
في عيد ميلادها التسعين، نحن لا نحتفل فقط بعمر فيروز، بل بكل ما مثّلته من قيم ومعانٍ. فيروز ليست تسعين عامًا من الزمن، بل تسعون عامًا من الحب، من الحلم، ومن الأمل الذي لم يخذلنا أبدًا.
لأبناء الشتات اللبناني والفلسطيني والعربي، كانت فيروز أكثر من مغنية. كانت وطنًا متنقلًا يحمل في نغماته صوت البيوت المهجّرة، ورائحة الأرض التي تنتظر عودة أصحابها
صوتها هو مرآة لجماليات الحياة التي نخشى أن نفقدها. حين تغني، تشعر وكأن الزمن يتوقف، وكأن الحنين يصبح أجمل، وكأن الجمال لا يزال ممكنًا في عالم ينسى أحيانًا قيمة الأشياء النبيلة.
فيروز ليست سيدة الغناء العربي فحسب، بل هي حالة فنية وإنسانية تعبر عن كل ما هو جميل في حياتنا. في عيدها التسعين، نقول لها: شكرًا لأنك كنت الصوت الذي يحمل أرواحنا حين كنا نحتاج إلى ملاذ، وشكرًا لأنك بقيت صادقة مع نفسك ومع فنك.
فيروز، صوتك سيظل يرافقنا، يذكّرنا بأن الأمل ممكن، وبأن الحنين هو جزء من إنسانيتنا، وبأن الجمال، حين يكون صادقًا، لا ينطفئ أبدًا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاتلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو