شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رسالة من غزة إلى فيروز في عيدها

رسالة من غزة إلى فيروز في عيدها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الخميس 21 نوفمبر 202411:33 ص

مرحبا عزيزتي فيروز…

أشعر أنني لا أريد أن أكتب لك رسالة عادية، لكنك مصدر تلك العادية والحديث عن كل الأشياء بعادية وتلقائية، بعفوية وصدق، فمن تلك التي هربت من الشباك وتأتي لتعترف أمامنا بعادية؟ ومن تلك التي تحكي عن اشتياقها بعادية سواكِ؟

تجيبين عن كل الأشياء ببساطة وعادية وكأنك تسكنين القصر، والكوخ، وبيت المخيم، في الحي القديم، في الحي الجديد، في المقهى البسيط ذي الكرسيين أمام البحر، الكشك القريب، المطعم الفاخر البعيد. بعادية جداً.

أتعرفين يا فيروز، يا ساكنة البيت والمدينة: لم يصنع أحد في عالمي هذه البساطة مثلما صنعتِ بي، حتى بتّ أخشى عليّ من حفلة تقفين فيها أمامي وتغنين. حتماً لن أصدق. أتعرفين لم؟

يقول الطب والعلم إن أول حاسة تتشكل في ذاكرة الجنين هي حاسة السمع، ويقول علم النفس، إن حاسة السمع هي الحاسة التي تدخلك متاهات الشعور، فقيل "الأذن تعشق قبل العين أحياناً"، والأذن قد تدخلك نحو الخوف أحياناً، فكيف لفيروز أن تنتصر على صوت الانفجار والحرب؟

صوت العشق أقوى من صوت الخوف. لأجل الحب ننجو.

أتعرفين يا فيروز، يا ساكنة البيت والمدينة: لم يصنع أحد في عالمي هذه البساطة مثلما صنعتِ بي، حتى بتّ أخشى عليّ من حفلة تقفين فيها أمامي وتغنين. حتماً لن أصدق

لقد كنتِ التشكيل الأول لحاسة السمع لدي. ما زلت طفلة برفقة أمي في زيارة لبيت ستي لأمي. كانت ستي تقلّم ورق الريحان والنعناع في أصصها، ومن مطبخها تفوح رائحة الشاي بالميرمية، ومن غرفة خالي يأتي صوتك "خبطة قدمكن". تنازلت عن رغبتي بالتقاط الريحان ومشاكسة ستي وشرب الشاي، ووقفت بباب غرفة خالي. رأيته يشاركك الغناء ويصدح معك: "إنتو الأحبة"، لكن الجملة عالقة، وكأنها تشاركني وقوفي بباب الغرفة: "خبطة قدمكن". لوقت طويل ظننت أنك تسكنين غرفة خالي فقط.

أحب صوتك القادم من هناك، وكلما جاء اسمك وصادفت أحد يحمل اسمك، جاء صوتك من غرفة خالي في بيت ستي العتيق، ومعه رائحتان، الريحان والميرمية، ويد ستي تسند خاصرتها ويد أخرى تقلّم ورق الريحان.

أنتِ من هناك؟!

صوتك الذي يجب أن يأتي من بعيد والحياة تمضي، ركيزة الوقت الذي عرفته من صالة البيت مثلاً، من يستيقظ أولاً في البيت عليه أن يدير الإذاعة، الكاسيت، التلفزيون، الجوال نحو صوتك.

أنتِ التي تسكنين صالة البيت في الصباح، تشبهين أمي التي كانت تودعنا من هناك، من البيت الذي فيه صوتك، تفوح معه رائحة صابون الحلاقة لأبي وإخوتي، وصوت تسبيحات أمي تودعنا: "الله معكم"، وصوتك مازال. تصلي أمي في غرفتها وصوتك مازال.

أتعرفين يا فيروز؟

أول مرة اضطررت فيها لرعاية طفل صغير كان ابن أخي. كنت بالسابعة عشر، بين يدي طفل بعمر خمسة شهور. حاولت أن أتجاوز خوفي من  هذه الكومة من اللحم الغض، ذات الملامح الصغيرة والوجه الصغير وتصرخ باكية. فشلت. لكن صوتك البعيد جاء منقذاً. تذكرت حين قالت فيروز لطفل: "يلا ينام، يلا تجيه العافية كل يوم بيوم". سكن صراخه وصوتك يسكن حلم طفل بعمر الخمسة شهور، فشلت مراهقة في هدهدته.

صوت العشق أقوى من صوت الخوف. لأجل الحب ننجو

أما أيام الحرب، فلم نعرف كيف نسيطر على قلق الصغار وأصوات الانفجارات المتلاحقة. أنفاسنا المتلاحقة ندفنها كي لا يلحظها الصغار، نحن العاجزين عن إيقاف الصاروخ والموت عن خطف الصغار.

هدأت الغارات. كانت تسكن حضني "إيلياء"، إحدى الصغيرات. غنيت: "لأدبحلك طير الحمام" قالت: "بدي أنام... ما بدي حمام"، وأدارت وجهها مدركة عجزنا جميعاً عن إيقاف الخوف فقلت: "تنغسل أواعي إيليا وننشرهن عالياسمينة"، فنامت مبتسمة، وغالباً كانت تود أن تسألني عن الياسمينة. كنت سأجيبها: "صوت فيروز".

يسابق صوتك طريق الخروج من البيت نحو المدرسة، نحو الجامعة، نحو العمل، وبعض السيارات التي تستعد لاصطحاب الأطفال إلى المدرسة. صوتك يسابق ويتسابق مع إذاعة القرآن الكريم، ونشرة الأخبار، والمذيعة التي تقول: "صباح الأمل"، وموسيقى أغنية لتقطعها وتعيد: "صباح العزيمة"

أتعرفين يا فيروز؟

لو كنت سأصف صوتك كنت سأقول: "غناؤك وصوتك يصلح لكل زمان ومكان".

من شارع الحي الذي كنت أسكنه في السودانية، يسابق صوتك طريق الخروج من البيت نحو المدرسة، نحو الجامعة، نحو العمل، وبعض السيارات التي تستعد لاصطحاب الأطفال إلى المدرسة. شبابيك كثيرة وأصوات كثيرة. صوتك يسابق ويتسابق مع إذاعة القرآن الكريم، ونشرة الأخبار، والمذيعة التي تقول: "صباح الأمل"، وموسيقى أغنية لتقطعها وتعيد: "صباح العزيمة". كنت أود لو أقول لها: "اتركي لنا صوت فيروز ولا تقطعيه"، ومن شباك البيت يأتي صوت "سلملي عليه".

إنك الوحيدة التي تقول بعادية عن كل غريب دقّ بابك مرّة ومازال على بالك، وبعد حين نكتشف أنه ليس شيئاً واحداً بل كل ذاكرة لحواسنا.

أتعرفين؟

يعرفني أصدقائي بـ morning person. أحب الصباح وأنتمي له، إذ قالت لي أمي إن لحظة مولدي كانت صباحاً. أنتِ تقليد الصباح عند الجميع، فأشعر أننا ولدنا في نفس اللحظة: الصباح، ومن ثم لأن "الأسامي كلام" صار لكل واحدة منا اسم. الصباح لي فكرة، والفكرة هي "أنتِ". حتى حين أقرّر أن أسمع صوتك بغير الصباح، أشعر أن صوتك إيذان بالنهار، بالنور، بصوت البدايات، وارتباك البدايات والاعترافات، "وعزة نفسي كإنسان، اشتقتلك"، صوت الإنكار الخارجي وبداخلي يموج بحر من الاحتياج للقاء، "مش فارقة معاي". لكِ تكوينك الذي يجعلني أمازحك وأسألك: "لماذا لم تضربيه بالمزهرية وتنهي هذا العتاب يا فيروز؟"، ثم "كيف أحببتيه بالصيف؟"، ثم "لماذا لم تخبري الشرطة بفعل حنا السكران؟".تشبيهن ذاك الذي قال: "سرك في بير". وأكمل: "بير سيشرب منه كل الحي".

الوحيدة التي تحمل من الأمهات الغفران. تسمحين لنا بأن يأخذنا العشم بأن هذا مزاح الأولاد الأشقياء لأفكار أمهاتهم، دون عداء يتشكل، فتضحكين؛ وسرعان ما تغفرين.

أتعرفين يا فيروز: الآن أريد أن أختم رسالتي هذه غصباً كي يتسع عيدك للمزيد، وأخبرك أن اشتياقي وحنيني الآن أعرفه "لمين"، لشط السودانية، شمال غرب غزة.

"ما حدا يعرف بمطرحنا غير السما وورق تشرين، ويقلي بحبك أنا بحبك، ويهرب فينا الغيم الحزين". لا أحد غيرك يقول هذه البدايات، هذه الأمنيات بعفوية المراهقات وحضور سيدات القصر، لا أحد يشاركك

صوتك يسابق الموج في كشك العم "أبو إسماعيل". يصير البحر في صباحات الخريف هادراً بشكل يمنع السباحة، ثم ما يلبث أن يهدأ ويموج من بعيد، متجاوزاً كل هذا الصراخ في البحر، وعند الشط يستقرّ، ومن كشك العم "أبو إسماعيل" الخشبي تغنين:

"في أمل… إيييه في أمل

أوقات بيرجع من شي حنين لحظة تيخفف زعل"

صوت أعلى من كل الأصوات الهادرة، صوت الأمل أعلى يا فيروز، أليس كذلك؟

كتبت لك هذا فيما الأغنية التي تجرّأت على اختيارها في صباحات الحرب "كنا نتلاقى"، تحديداً:

"ما حدا يعرف بمطرحنا غير السما وورق تشرين،

ويقلي بحبك

أنا بحبك

ويهرب فينا الغيم الحزين"

لا أحد غيرك يقول هذه البدايات، هذه الأمنيات بعفوية المراهقات وحضور سيدات القصر، لا أحد يشاركك.

أعياد كثيرة تتسع أكثر وأكثر يا فيروز.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image