يقولون "الثقة اللّي بتنكسر ما بتترمّم وما بتتعوّض"، جملة تتردّد كثيراً بين الأفراد، تعبّر عن خيبات الأمل التي يتعرّضون لها نتيجة مواقف وأحداث يواجهونها في صداقتهم وعلاقاتهم العائليّة والعاطفيّة، يقررّون من بعدها استبعاد كلّ من خذلهم أو أساء معاملتهم من حياتهم.
لكن في بعض الحالات، قد يتراجع البعض عن هذا القرار ويقرّر إعطاء فرصة ثانية لمن يثبت له مع مرور الوقت أنّه يستحقّها من خلال التغييرات التي يجريها على نفسه وعلى حياته.
جهاد (وهو اسم مستعار بناء على طلب المصدر)، لبناني ثلاثيني، ورب ّعائلة، يعمل مربّياً مختصاً في مركز تأهيل "أم ّالنور" للرجال، بالإضافة إلى عمله طاهياً، هو قصّة حيّة على ذلك. وأم النور هي منظمة لبنانية غير حكومية وغير هادفة للربح، تأسّست عام 1989، وتُعنى باستقبال متناولي المخدّرات وتوجيههم وتأهيلهم ومرافقتهم ومتابعتهم من دون تمييز بسبب الجنس، أو العرق، أو الدين أو الجنسية.
يعود جهاد إلى الوراء، تحديداً إلى عام 2000، ويسرد لرصيف22 بداية قصّته مع تناول المخدّرات ومع الآلام والنجاح والكفاح، بعد مرور 12 عاماً على تعافيه من هذه التجربة التي يصفها بأنها كانت صعبّة للغاية.
ابن الثالثة عشرة، آنذاك، كان قد اختبر رغم صغر سنه الكثير من صعوبات الحياة، ومن مشاكل عائليّة إلى مشاكل نفسيّة ومادّية، في مقدّمتها مرض والدته بمرض السرطان ورؤيته لها وهي تتألّم وتتناول "المورفين" كمسكّن فتذهب إلى عالم آخر حيث لا ألم هناك.
"ما كان عندي حلّ تاني، يا بموت أو بفوت على الحبس، يا بجرب وبشوف إذا في طريق للخلاص...". لماذا يرفض البعض منح المتعافين من تناول المخدّرات فرصة ثانية؟
أحبّ جهاد تأثير الدواء على والدته وأراد تجربة هذا الشعور، شعور نسيان المنغّصات والهروب من ظروف الحياة والواقع المرير. فبدأ بتناول دواء والدته، وانطلقت رحلته مع المخدّرات ومع كل ما ستخلّفه من أضرار وآلام عليه.
امتدّت مدّة تناوله للمخدّرات 12 عاماً كاملةً، وخلال هذه السنين، لم يترك مادة مخدّرة وقعت يده عليها إلاّ جرّبها. "بوقتها ما كنت عارف شو عم أعمل، بس كان بدي شي ينسيني"، يروي جهاد. وحتّى دخل السجن عام 2005، ولمدّة خمس سنوات بتهمة الاتجار بالمخدّرات والترويج لها، بينما كان يحملها للاستعمال الشخصي فقط، على حد قوله، وأحياناً لإعارة صديقه الذي كان يطلب منه تزويده بها.
واصل جهاد تناول المخدّرات أثناء وجوده في السجن، واستخدمَ كلّ مادّة تتوّفر أمامه إذ كانت تدخل عبر بعض حراس السجن في السرّ. لكنه في داخل السجن، تعرّف على المساعدة الاجتماعية والدكتورة الجامعية هناء ناصيف التي كانت مشرفة على مركزٍ أقامته "جمعيّة عدل ورحمة" لتأهيل مستخدمي المخدّرات، وهذه السيدة هي التي ساعدته واهتمّت به خلال سجنه وبعد انتهاء محكوميته.
لاحقاً أيضاً، عرّفته على الأب هادي العيّا، مؤسس الجمعيّة التي هي غير حكومية لبنانية، وقد تأسست عام 1996 وتعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان، وخاصة حقوق السجناء في السجون اللبنانية وعائلاتهم.
ومنذ ذلك الحين، بدأ جهاد بمساعدتهما، خفّض كميّة تناوله للمخدّرات تدريجياً. لكن ليس لوقت طويل لأنه فور خروجه من السجن عام 2010، واصل طريقه إلى المخدّرات، حتّى وصل ذات يوم إلى جرعة زائدة أدخلته في غيبوبة أربعة أيام وكادت تُنهي حياته. هنا، أحسّ أنه كان على شفير الموت وخسارة حياته.
وبينما كان يرقد في المستشفى، زاره الأب هادي والدكتورة هناء واقترحا عليه فكرة دخول مركز تأهيل "أم النور" والخضوع للعلاج فيه. بين القبول والرفض، تخبّطت مشاعر جهاد، فرأسه يقول: "أريد الاستمرار في النسيان والهروب"، وقلبه يقول: "كفى أوجاع وآلام" فينما هو يقول: "ما كان عندي حلّ تاني، يا بموت أو بفوت على الحبس، يا بجرب وبشوف إذا في طريق للخلاص...".
قَبِل جهاد عرض الدكتورة هناء وتوجّه فور خروجه من المستشفى إلى مركز التأهيل في بلدة سهيلة - كسروان، حيث خضع للعلاج طوال عام ونصف العام. وخلال فترة العلاج، واجه صعوبات عدّة، لخّصها في كلمة واحدة هي "التغيير".
يشدّد جهاد على أنّ "التغيير صعبٌ جداً"، خاصّةً في الحالة التي كان عليها قبل اللّجوء إلى المركز، لكن الذي زاد قدرته على احتمال صعوبات العلاج وتحدّياته كانت إرادته. يقول: "ما كنت إنسان، وكان بدّي أصير إنسان". ثم يردف بأنّه أراد تحدّي نفسه أيضاً، والإثبات لذاته قبل الإثبات للآخرين أنّه يستطيع أن يعيش حياةً عاديةً وأن يتخلصّ من الإدمان.
بعد انتهاء فترة علاجه، قرّر جهاد إعادة بناء حياته بمساعدة الدكتورة هناء والأب هادي وعاد إلى مجتمعه وبيئته بكل عزيمة وإصرار. خلال فترات عودته الأولى لم يكن الأمر سهلاً إذ لم يلمس تقبّلاً له من محيطه الاجتماعي، ومن أقربائه، وأصدقائه، وجيرانه، وزملائه القدامى الذين حاول العمل معهم مجدداًً، فرفضوه وهمّشوه. ولم يتقبّلوا فكرة أنّه "إذا الشخص بدو يخلص، بيقدر يخلص..."، بحسب تعبيره.
هذه المعاملة من محيطه، دفعته إلى تغيير مقر سكنه والانتقال للعيش في منطقة أخرى بعيدة عن معارفه وعن أحكامهم. فأنشأ، بمساعدة الأب هادي، محله الخاصّ لإعداد الطعام وبيعه.
تقول حويك إنّ الإعلام عامل مهم ّجداً في تسليط الضوء على مختلف القضايا الاجتماعية وتفاعل المجتمع معها. وترى أنّ المجتمعات عامّةً تميل إلى الاهتمام في القضايا الإنسانية الأخرى وتضع قضية متناولي المخدّرات والمتعافين منها في الدرجة الثانية، وهذا بسبب نظرتهم الخاطئة والمضلّلة في ما يخصّ هذه القضية
نجح مشروع جهاد واستمر عدّة سنوات، وأصبح إعداد الطعام بالنسبة له، ليس باب رزقٍ بل هواية يحبّها ويتقنها.
أمّا بالنسبة لزواجه، فقد كان يعرف زوجته منذ الصغر ومن ثم فرّقتهما الحياة، لتعود وتجمع بينهما عقب خروجه من السجن.
عندها أخبرها بكلّ شيء عن نفسه وعن حياته، وكانت متقبّلة ومستعدةً لمجابهة كلّ ظروف الحياة معه، لكن على شرط أن يخضع للعلاج وألّا يعود للماضي ويعاود تجاربه نفسها.
يوضّح جهاد أن زوجته كانت دافعاً كبيراً له لاستمراره، فقد وقفت إلى جانبه في أصعب الظروف ولم تتخلَّ عنه، ووفّرت السند له من كل النواحي، خاصةً عندما قرّر الخضوع للعلاج وافتتاح محله الخاص.
واليوم لا يزال جهاد يمرّ بالكثير من صعوبات الحياة مثل كلّ فرد يتخبّط فيها، لكنّه لم يعد ذاك الشخص الضعيف الباحث عن سبيل للهروب من مشاكل الحياة بل يواصل مسيرته كمربٍّ، يساعد الأفراد الذين يعانون ما عاناه هو في مراهقته وبدايات شبابه، وذلك من خلال وجودهم في مركز أم النور للخضوع للعلاج، عبر إقامة اجتماعات تحفيزية ووضع خطط لحياتهم ومستقبلهم.
يحكي جهاد: "عملي كمربٍّ، أصبح أهم رسالة أقوم بها، وهي أن أقدم المساعدة بالطريقة نفسها التي قُدمت لي عندما كنت بأمسّ الحاجة لها".
الإعلام والفرصة الثانية المستحقة
للإعلام دور كبير جداً، خاصّة في عصرنا هذا، عصر مواقع التواصل الاجتماعيّ، تقول مسؤولة قسم التواصل في "أمّ النور"، يارا حويك لرصيف22 في مكاتب الجمعية في عينطورة - كسروان. وتضيف أنّ الإعلام عامل مهم ّجداً في تسليط الضوء على مختلف القضايا الاجتماعية وتفاعل المجتمع معها. وترى أنّ المجتمعات عامّةً تميل إلى الاهتمام في القضايا الإنسانية الأخرى وتضع قضية متناولي المخدّرات والمتعافين منها في الدرجة الثانية، وهذا بسبب نظرتهم الخاطئة والمضلّلة في ما يخصّ هذه القضية.
بدورها، تُثني المعالجة النفسية المتخصّصة من مركز التأهيل، ريتا ديك، على هذه النقطة قائلة إنّ نقطة الانطلاق التي يجب أن ينطلق منها الإعلام ليتعامل بطريقة سليمة مع هذه القضية هي اعتماد فكرة أنّ: "الادمان ليس قراراً بل هو مرض".
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك خلافاً بين المصادر الطبّية حول العالم في تصنيف اضطراب تناول مواد الإدمان إذ يصنفه فريق مرضاً، وأحياناً اضطراباً دماغياً مزمناً، وفريق آخر يعتبره خياراً.
وهذا المرض - على حد وصفها - يعود إلى عدّة أسباب وعوامل تجتمع معاً عند الفرد فتؤدي إلى الإدمان، منها الظروف الحياتية الصعبة، ومشاكل عائلية وعاطفيّة، وطفولة مريرة، ووجود شخصية مستعدّة لدى الفرد وتوفّر المخدّرات في محيطه.
تتابع مسؤولة قسم التواصل حديثها قائلةً إنّ ما ينقص الإعلام والمجتمع اللبنانيّ، هو "التعاطف مع هذه القضية واعتبارها بمثابة القضايا الأخرى المهمة والانتباه بشكل دقيق إلى المصطلحات التي يستعملانها في وصفها، خاصة في ما يخصّ فئة المتعافين منه".
"كلّ ما علينا فعله هو اعتبار المتعافي إنساناً عاديّاً، والتعامل معه على هذا الأساس. فهو يحقّ له العيش بشكلّ طبيعيّ لأنه وقع في تجربة سيئة، تعلّم منها وخرج ليعود إلى حياته"
وتذكر: "من دون أن نشمل الجميع، لكن هناك بعض الجهات الإعلاميّة التي تسعى إلى نقل الأخبار والمعلومات من دون التأكّد من صحتّها، ويتبيّن في ما بعد أنّه ليس هناك وجود لأيّة خلفيّة علميّة لهذه المعلومات".
أمّا في ما يخصّ احتضان البيئة للمتعافي وكيفية التعامل معه، فتقول المعالجة النفسية لدى المركز: "كلّ ما علينا فعله هو اعتبار المتعافي إنساناً عاديّاً، والتعامل معه على هذا الأساس. فهو يحقّ له العيش بشكلّ طبيعيّ لأنه وقع في تجربة سيئة، تعلّم منها وخرج ليعود إلى حياته".
كذلك تقول إنّ كل ما قام به خلال فترة معاناته مع الإدمان كان بسبب الصراعات التي يعيشها في داخله، وتنعكس على سلوكه، لكنها لا تعني أنه شرير وسيىء، بل هو إنسان أراد الهروب من واقع مرير ولم يجد سوى المخدّرات وسيلة له.
وترى أن ّعملية استرجاع ثقة البيئة في المتعافي ليست أمراً سهلاً، فعامل الوقت له تأثير كبير عليها، بالإضافة إلى رؤيتها له يقوم بالتغييرات اللاّزمة على نفسه وعلى حياته من خلال مظهره الخارجي، وسلوكه، وتعامله مع الآخرين ولغة جسده.
وتختم: "لكنّه، يستحّق الفرصة الثانية".
بالفعل، كان للوقت دور كبير في تحسّن علاقة جهاد مع عائلته، بعد استقراره وزواجه وعمله، وهو على تواصل دائم معهم.
تحت عنوان: "اسمحوا لي"، يختم جهاد المقابلة معه، داعياً "اسمحوا لي أنّ أعبّرعن رأيي، اسمحوا لي أن أعبّر عن مواهبي، وأن آخذ فرصة ثانية، فأنا أستحقّها".
*أُنجز هذا التقرير ضمن تدريب على خلق المحتوى خاضته مجموعة من الشابات والشبان خلال منتدى "شباب مش عَ الهامش" الذي نظّمه رصيف22.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 6 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف