"أزعجني وقوف قوى الأمن على الحياد، وراودني سؤال: يعني ما عاد فيي كون دراغ أنا؟"، يروي نبيل (اسم مستعار، 28 عاماً)، وهو دراغ كوين لبنانيّ، قصته في الليلة التي لا تزال آثارها في نفسه. ويضيف: "عندما علمتُ بما جرى وشاهدتُ مقاطع الفيديو انزعجتُ كثيراً، إذ فكرت أنّني قد أكون مكان الذي ضُرِب، وأنّ المتعرّضين للهجوم هم أصدقائي".
الحادثة التي يشير إليها نبيل، وقعت في 23 من آب/ أغسطس 2023، حين هاجمت مجموعة مسيحيّة متطرّفة تدعى "جنود الرب" ملهى ليليّاً صديقاً لأفراد مجتمع الميم عين في بيروت إثر تنظيمه عرضاً كوميديّاً يعرف باسم "دراغ شو".
وقد أظهرت مقاطع فيديو انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعيّ حينها تَعرُّض روّاد الملهى، في منطقة مار مخايل في بيروت، للمحاصرة والاعتداء من قبل أفراد الجماعة المتطرّفة، الذين اعتبروا أنّ الملهى أقام حفلاً لـ"الشذوذ الجنسيّ وأعمال منافية للحشمة والاستهزاء بالعزّة الإلهيّة".
"لمّا استيقظتُ في اليوم التالي، قرأتُ ما يقارب أربعين رسالةً على هاتفي. كان أصدقائي يسألونني: هل أنت بخير"، يتابع نبيل مصرّحاً أنّه يتّخذ بعض التدابير للحفاظ على سلامته كأن لا يخرج في الشارع بزيّ العرض.
يُعتقد أن الهوموفوبيا بدأت في زمن أفلاطون، وقد استمرّت حتّى زمن "المركزيّة" في لبنان، وما تزال بعض وسائل الإعلام تُسهم في الإبقاء على النظرة السلبيّة تجاه أفراد مجتمع الميم عين، وتتركهم معرّضين للتهميش، والتنمّر، والاعتداءات
شهد لبنان في الآونة الأخيرة حملةً ممنهجةً وشرسةً ضد مجتمع الميم عين، إذ دخلت مؤسّسات سياسيّة ودينيّة - على اختلاف توجّهاتها - في سباق محموم لشيطنة اصطلاح "الجندر" أو النوع الاجتماعيّ، وترهيب كل من يدافع عنه أو يتعامل به، من بين أحدثها ما فعلته إدارة الرهبانيّة المارونيّة في المدرسة المركزيّة - جونية - إذ فصلت معلّمة ومنسّقة شهراً كاملاً عن عملهما بذريعة "تقديم مستند يتناول موضوع الجندر في العائلة" للطالبات والطلاب.
قرار الفصل جاء إثر توزيع المعلّمة رسومات على الأطفال في المدرسة تشرح تعدّد نماذج العائلات، ويظهر ضمن الرسوم إمكانيّة وجود والدين من الجنس نفسه (خلافاً لأنموذج الأسرة السائد)، الأمر الذي أثار غضباً واسعاً، خصوصاً بين أهالي الطلاب، ما دفع الرئاسة العامة للرهبانيّة المارونيّة إلى فتح تحقيق عاجل في الموضوع، وسط مطالبات بفصل المعلّمة والمنسّقة من عملهما.
هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها في لبنان، بل هي جزء من نمط مستمر من الحملات المناهضة للفئات المهمشة اجتماعيّاً، بما في ذلك أفراد مجتمع الميم (المثليون والعابرون جنسيّاً)، الذين يواجهون تمييزاً ورفضاً مجتمعيّين، وفي بعض الحالات تهديدات تشكّل خطورة على حياتهم/ن. هذا الوضع يجعل الوصول إلى الحقوق الأساسية، مثل الرعاية الصحيّة والسكن والفرص الوظيفيّة، أمراً معقّداً للغاية، في بلد يُعاقب فيه القانون العلاقات المثلية بالسجن، مما يجبر الكثيرين على إخفاء هويّاتهم/ن وميولهم/ن الجنسيّة.
في آب/ أغسطس 2023 أيضاً، شنّت وزارة الثقافة اللبنانية، على لسان الوزير محمد مرتضى، المحسوب على الثنائي "حركة أمل" و"حزب الله"، حملةً لمنع عرض فيلم "باربي" في لبنان بحجة ترويجه لـ"المثليّة الجنسيّة وهدم قيم الأسرة".
كذلك، صرّح الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، خلال إحياء ذكرى عاشوراء عام 2023، بأنّ المثليّة الجنسيّة "خطرٌ حقيقيٌّ داهم" وبأنّ "هذا المشروع يتنافى مع الفطرة الإنسانيّة"، داعياً كلّ بالغٍ سنّ التكليف إلى أن يواجه "هذا المنكر العظيم".
الكوير وواقع الإعلام العربيّ
في هذا السياق، ينتقد الناشط في جمعيّة حلم، ضومط قزّي، طريقة معالجة وسائل الإعلام في لبنان قضايا هؤلاء الأفراد، "فهي تساهم في تكوين أفكار مغلوطة من خلال نشر معلومات مضلِّلة"، على حد قوله.
"نستطيع أن نتحدّث عن مسارٍ تاريخيّ لوسائل الإعلام في لبنان. فمنذ سنوات، كانت برامج مثل 'فوق الـ18' و'العين بالعين' تبث صوراً نمطيّةً مسيئة عن أفراد مجتمع الميم عين وتصوّرهم بطريقةٍ مشوّهة تؤدّي إلى تكوين أفكار مغلوطة عنهم"، يوضّح قزّي.
يصوّر الإعلام اللبناني مثليّي/ات الجنس وكأنهم/ن مرضى يعانون خللاً في هرموناتهم، أو أنّ تعرُّض أحدهم/إحداهن للاغتصاب في طفولته/ا أودى به/ا إلى ما هو/هي عليه من ميول جنسيّة، وجميعها أفكار مغلوطة، وفقاً لقزّي.
ضوميط قزّي: لا تمنح وسائل الإعلام التقليديّة أفراد مجتمع الميم تمثيلاً عادلاً وملائماً، بل تكتفي بتقديم رواية مُكرّرة ومُتوقَّعة. وحتى في برامجها الاجتماعيّة، تضعهم/ن في مواجهة رجال دين مثلاً، أو تستضيفهم/ن بمفردهم/ن أحياناً وتطرح عليهم/ن أسئلة محددة (مثل: أيّ حمّام تستعمل في الأماكن العامة؟ وذلك بهدف تسخيف معاناتهم/ن)
وليربط بين كيفيّة تكوين تلك الأفكار والواقع، تطرّق الناشط الكويري إلى موضوع البرامج الكوميديّة التي أصبحت مصدراً يرجع إليه وينهل من عباراته من يريد التنمّر على أفراد مجتمع الميم عين، مثل شخصيّتي "مجدي ووجدي" في برنامج "ما في متلو".
كما يشير قزّي إلى العلاقة التبادليّة بين وسائل الإعلام والمجتمع، إذ تعد انعكاساً لثقافته بينما تسعى إلى تحقيق أرباح مادية. ولذلك، تُصبح هذه الوسائل مُعرضة للضغوط المجتمعية، إذ تخشى فقدان جمهورها إذا لم تتماشَ مع المعتقدات والقيم السائدة وإن كانت مسيئة وضارة بفئة هشّة.
إلى ذلك، لا يُنكر الناشط قزّي وجود وسائل إعلام بديلة تُسلّط الضوء على قضايا النوع الاجتماعيّ والجنسانيّة بطريقة إيجابيّة، مثل رصيف22 ودرج ميديا، تتميّز باستقلاليّتها عن أيّ جهات تمويل تقليديّة مثل رجال الأعمال، أو الأحزاب السياسيّة، أو التيّارات المحافظة، مبرزاً أنها تعتمد على تمويل من جهات تقدّميّة تُدافع عن حقوق الإنسان.
ويلفت قزّي إلى عدم وجود توازن أو مساواة في معالجة قضايا النوع الاجتماعيّ والجنسانيّة في مختلف وسائل الإعلام إذ قد تتقبّل بعض الوسائل المثليين لكنها لا تتقبل العابرين/ات، محذراً من مقارنة الواقع الإعلاميّ اللبنانيّ بالواقع العربيّ عند معالجة هذه القضايا، إذ إنّ هامش الحرية الموجود في لبنان، وإن كان محدوداً، سمح بتشكّل نسبة من وعي حول هذه المسائل في الوسط الإعلامي بينما في بلدان أخرى، مثل العراق، قوانين تجرّم حتى استعمال مفردة "جندر".
وبرأي قزّي، "لا تمنح وسائل الإعلام التقليديّة أفراد مجتمع الميم تمثيلاً عادلاً وملائماً، بل تكتفي بتقديم رواية مُكرّرة ومُتوقَّعة. وحتى في برامجها الاجتماعيّة، مع وجود بعض الاستثناءات، تضعهم/ن في مواجهة رجال دين مثلاً، أو تستضيفهم/ن بمفردهم/ن أحياناً وتطرح عليهم/ن أسئلة محددة (مثل: أيّ حمّام تستعمل في الأماكن العامة؟ وذلك بهدف تسخيف معاناتهم/ن) وتصويرهم/ن كأشخاص ضعفاء جاهلين لا حول لهم ولا قوة".
هل يجرّم القانون اللبناني المثليّة؟
من الناحية القانونيّة، يوضح المحامي إيلي غازو، أستاذ مادّة حقوق الإنسان في كلّيّة الإعلام في الجامعة اللبنانيّة، أن قوانين لبنان تهمّش مثليّي الجنس. فـ"المادّة 534 من قانون العقوبات تعاقب 'أيّ مجامعة على خلاف الطبيعة'".
في ظل هيمنة "الدين" على النقاش العام في لبنان، لن يحصل أي تقدّم في سن قوانين تناسب احتياجات المجتمع، وسيبقى مصطلح "الجماع على خلاف الطبيعة" غامضاً بلا تفسير واضح. كما أن التفسيرات الدينيّة تخلص إلى أنّ الهدف الأساسي للزواج هو الإنجاب، وبناءً على هذا المبدأ، تُعتبر العلاقات المثليّة غير مقبولة لأنها لا تُفضي إلى تكوين أسرة، حسب المفهوم السائد
ووفقاً لغازو، فإنّه وفي ظل هيمنة "الدين" على النقاش العام، لن يحصل أي تقدّم في سن قوانين تناسب احتياجات المجتمع، وسيبقى مصطلح "خلافاً للطبيعة" في القانون غامضاً بلا تفسير واضح. كما أن التفسيرات الدينيّة تخلص إلى أنّ الهدف الأساسي للزواج هو الإنجاب، وبناءً على هذا المبدأ، تُعتبر العلاقات المثليّة غير مقبولة لأنها لا تُفضي إلى تكوين أسرة، وفق المفهوم السائد، حسبما يقول.
يعرّج غازو على عمل القوى الأمنيّة في هذه الحالة، قائلاً: "أيّ إخبار يصل إلى السلطات المعنيّة بوجود مكان تحصل فيه مجامعةٌ 'على خلاف الطبيعة'، تتحرّى عنه القوى الأمنيّة المولجة بهذا الموضوع وتعتقل 'المشتبه بهم' للتحقيق معهم".
ويردف الخبير القانوني بأن تعديل تلك المادّة مرهون بثلثي النوّاب البرلمانيين المرتبطين بقاعدة شعبيّة لا يخالفون رأيها وإلّا خرجوا من دائرة اختيارها في أقرب انتخابات، وهو ما يزيد من تعقيد المسألة.
ختاماً، يُعتقد أن الهوموفوبيا بدأت في زمن أفلاطون، وقد استمرّت حتّى زمن "المركزيّة"، وما تزال بعض وسائل الإعلام تُسهم في الإبقاء على النظرة السلبيّة تجاه أفراد مجتمع الميم عين، وتتركهم معرّضين للتهميش، والتنمّر، والاعتداءات.
*أُنجز هذا التقرير ضمن تدريب على خلق المحتوى خاضته مجموعة من الشابات والشبان خلال منتدى "شباب مش عَ الهامش" الذي نظّمه رصيف22.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.