قد يعود البعض- في ضوء اشتداد جبهات الحرب التي تشنّها إسرائيل، والأسئلة السياسيّة الوجوديّة التي تفرزها هذه المرحلة حول مصائر الشرق الأوسط والقضيّة الفلسطينيّة والتحالفات الإقليميّة- إلى التاريخ وكتّابه، سواء أولئك الذين يُحسبون على جانب القوّة والسلطة، أو أولئك الذين كتبوا في الظلّ، لكنّهم امتلكوا قدرات استقراء خاصّة مكّنتهم من الاقتراب من فهم الحقيقة والتنبّؤ بالمستقبل المنظور، وربّما أبعد من ذلك بقليل.
ترك لنا التاريخ أسماءً بارزة في التأريخ والصحافة والسياسة الفلسطينيّة والعربيّة، شكّلت، ببصيرتها، بوصلةً ما في محيطها، فأعانته على إدراك قضايا كثيرة كانت تحيطها أسئلة جمّة فتجعلها من الضبابية بحيث تحتاج إلى عقول محلّلة ذات قراءة ثاقبة.
ومن هذه الأصوات، مجموعة من الصحافيّين الذين أسّسوا صُحفاً في فلسطين، أو ساهموا في صُحف عربيّة كان صوتها امتداداً لصوت فلسطين الرّافض للاستعمار الصهيونيّ، كمشروع بدأت ملامحه تتبدّى خلال الانتداب الإنجليزيّ. فاستطاعوا من خلال صحفهم وكتاباتهم أن يحذّروا من مخاطر هذا المشروع، حتّى قبل وعد بلفور الذي رأوا فيه شؤماً ونذيراً لكارثة حتميّة تجاه قضيّتهم العادلة.
ولم يكن هؤلاء بمتغاضين عن رؤية مكامن ضعف مجتمعاتهم، وبالتالي نقدها في سبيل تمكينها وتحصينها بالوعي، تجاه "المؤامرات" الوشيكة.
نجيب نصار أيقظ الوعي الفلسطينيّ
في الأوّل من كانون الثاني/يناير عام 1865، ولد الفلسطيني نجيب نصار في عين عنوب بجنوب لبنان، وتخرج في كلية الصيدلة من الجامعة الأمريكية ببيروت. وعلى الرغم من اهتمامه في مجالات التربية والصيدلة والزراعة، إلا أنّه انشغل في الشؤون السياسية منذ عام 1905، بعد أن اشترى أرضاً في طبريّا واستعار "الموسوعة اليهوديّة" من مستوطن إنجليزيّ عاونه على تعلّم الزراعة. ثمّ أسس في حيفا صحيفة الكرمل عام 1908.شعر نصار بخطر الصهيونية مبكراً، وعمل على نشر الوعي بين الفلسطينيين والعرب تجاه حقيقة المشروع الصهيوني، ونشر العديد من المقالات في هذا الشأن، خاصة في صحيفته "الكرمل".
وبحسب "أرشيف نشرة فلسطين" عام 2009، فإن جريدة الكرمل كانت الأولى في تاريخ فلسطين، والصوت الأول الذي حذر بوضوح مستمر غير مسبوق من جدية ومخاطر المشروع الصهيوني.
وقد هاجم نصّار حالة الجهل- التي يبدو أنها كانت سائدة آنذاك- بمخاطر الصهيونية. فقال: "هم يريدون الانتفاع بجهلنا والاستفادة من خمولنا، ومن تفرق كلمتنا، وضعف وطنيتنا، ليستولوا على بلادنا وموارد رزقنا".
ولأجل التعريف بهذا الخطر الذي يحيق بالعالم العربي، أيضاً، بدأ العمل في جمع كل ما قيل عن الصهيونية وأهدافها وما تسعى إليه حتى عام 1905، ونشره في كتاب صدر عام 1911، تحت عنوان "الصهيونية: ملخص تاريخها، غايتها وامتدادها حتى سنة 1905".
كما يشير نصّار في كتابه إلى أن فكرة عودة اليهود إلى فلسطين ترتكز إلى نصوص دينيّة في الكتاب المقدس، وأنّ القدس بالنسبة لليهود هي مركز تصدر منه الشريعة.
ويعلّق: "إنّ اليهود يستطيعون أن يجدوا ملاجئ في غير بلادنا، وتحت حكومات أخرى أعرق منا بالدستورية، لمَ لم تكن غايتهم سياسية؟".
"نحتاج إلى قادة مخلصين كهرتسل"
ولم يكتف نصّار في العمل على التوعية من خلال الكتابة، بل وضع حلولاً من أجل الخلاص: "نحتاج إلى الاعتماد على النفس، وعدم انتظار كل شيء من الحكومة. فاليهود شعب مشتت في الأرض، متفرق الكلمة، وليس له حكومة تجمع كلمته، وتدفع عنه الطوارئ والأخطار. ومع ذلك فقد تمكن رجل واحد (يقصد ثيودور هرتسل) من جمع كلمته، وجعله يتخذ هذا الهجوم، فلماذا لا نقوى نحن على الدفاع عن أنفسنا بأنفسنا؟ وننتظر من الحكومة أن تدرأ عنّا كل مصيبة؟". مشيراً، في نقد مباشر للقادة الفلسطينيين آنذاك: "البلاد تحتاج إلى قادة مخلصين كهرتسل، ينكرون ذواتهم في سبيل المصلحة العمومية". وقد انعكس هذا الموقف الحادّ والناقد على الرأي الشعبي في فلسطين.هاجم نصّار حالة الجهل- التي يبدو أنها كانت سائدة آنذاك- بمخاطر الصهيونية. فقال: "هم يريدون الانتفاع بجهلنا والاستفادة من خمولنا، ومن تفرق كلمتنا، وضعف وطنيتنا، ليستولوا على بلادنا وموارد رزقنا"فيؤكّد د. إلهام شمالي، في مؤلفه "الصندوق القومي اليهودي ودوره في خدمة المشروع الصهيوني في فلسطين"، على أنّ نصّار فضح في كتاباته الأسس العنصريّة الصهيونيّة التي طبّقها الصندوق القوميّ اليهوديّ، وعلى أنّ "أهالي فلسطين وجدوا في جريدة الكرمل منبراً حراً عبّروا فيه عن آرائهم وموقفهم من الاستيطان وتمدده، فكشفت النوايا الصهيونية تجاه فلسطين، وعملت على إيقاظ الوعي الفلسطيني الشعبي والرسمي".
ويرى المؤرخ الفلسطينيّ، بروفيسور مصطفى كبها أن نجيب نصار لم يكن أوّل من تحدث عن مخاطر الصهيونية. "بل سبقه في ذلك يوسف ضياء الخالدي، وراسل ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، لفترات طويلة، وحذر كثيراً من احتلال فلسطين، وحث اليهود على البحث عن مكان آخر"، يقول لرصيف22.
عيسى العيسى: "غداً تُباع فلسطين"
ولم يبذل عيسى العيسى، صاحب جريدة "فلسطين"، والمولود في يافا سنة 1878، مجهوداً أقلّ في محاربة الخطر الصهيوني. بل كتب العديد من المقالات التي كانت في ربّما ذات تأثير أشدّ في وقت لاحق من تأسيس صحيفة "الكرمل"، التي اهتمت بشكل أساس بالتحذير من بيع الأراضي للمؤسسات اليهودية. بينما نبّهت "فلسطين" من مخاطر بناء دولة يهودية، وهو ما أكده كبها في حديثه.وفقا لكتاب "الحياة السياسية العربية بالقدس"، فإن صحيفة "فلسطين" التي أصدرها عيسى العيسى عام 1911، أبدت اهتمامها منذ المراحل الأولى بالصهيونية ومخاطرها على فلسطين، وترجمة ما تكتبه الصحف الأجنبية عن الصهيونية والعودة إلى فلسطين.
ولا يتخيل البعض أن صحيفة "فلسطين"، ومنذ أعدادها الأولى، جاءت بهذا التحذير. ففي العدد 53 الصادر في 22 تموز/ يوليو، عام 1911 وجدنا مقالاً بعنوان "الاستعمار الصهيوني". جاء فيه: "إن أمنية دولة الإنكليز وبيت قصيدها، فصل القطرين السوري عن المصري، لئلا يكون بعضهم لبعض ظهيراً إذا اقتضى الحال. فإنكلترا تودّ أن تقوي اليهود في فلسطين، والقطر السوري، وتنشئ دولة مستقلة".
ويعلّق الكاتب بعد ذلك بكلمات شوهدت بالفعل الآن، فيقول: "هذه نبؤات أظن أن الزمان سيحققها، إذا بقيت دولتنا على ما هي عليه من التواني، وغض النظر عن مقاصد اليهود وعدم الاعتناء في صدر تيارهم القوي".
ويؤكّد العيسى أنّ "الدولة الحاذقة العاقلة تحتاط إلى الشيء قبل وقوعه، وتلافي الأمر قبل استفحاله، وإلا فلا يجدي الدواء إذا عضل الداء وبلغت الروح التراقي فتندم الدولة حين لا ينفع الندم، وتطلب الخلاص ولات حين مناص".
ما دام الصهيونيون يستولون على البلد قرية قرية، فغداً تباع القدس بأجمعها وفلسطين بكاملهاوأوضح أنّ التصدّي للصهيونيّة لن يحدث إلا بسيل الدماء: "إنّ مسألة الاستقلال أو تشكيل حكومة جديدة لا يدخل في حيز الإمكان إلا بعد أن تسيل الدماء كالأنهار، ويحصل من الأمور ما دونه خرط القتاد وشرط الحداد".
ثمّ يوجّه حديثه للحكومة: "إنّ خطر الاستعمار الصهيوني لمن أعظم وأعضل المشكلات السياسية التي سيولدها المستقبل عما قريب في بلادك. فإياك أن تهوني الخطب وتستصغري شأنه".
ولم تتوقف صحفية فلسطين عن حملتها في مقاومة الصهيونية، خلال الأشهر السابقة للحرب العالمية الأولى (1914-1918)، ومما قالته في عددها الصادر مطلع عام 1913: "إنه ما دام الصهيونيون يستولون على البلد قرية قرية، فغداً تباع القدس بأجمعها وفلسطين بكاملها. فإذا لم نتدارك الأمر كان حظ الدولة فيها حظها في طرابلس الغرب أو ربوع البقان"، بحسب محمد المصري في مؤلفه "الكاهن الثائر مانويل مسلم: اسمعي يا فلسطين".
"ألا تعلم أن السبب الرئيسي في قرار منعك من العودة إلى فلسطين هو حملتك ضد الصهيونية، وأن الصهيونيين هم من عارضوا عودتك"، هذا ما قاله الحاكم العسكريّ للدلالة على معاقبة عيسى العيسى، بحسب مجلة دراسات شرق أوسطيّة.
ولجأ عيسى العيسى في نيسان/ أبريل عام 1914 إلى مصر من جديد، بعد إيقاف عمل جريدته. ويؤكد د. مصطفى كبها أنّ عيسى العيسى ونجيب نصّار وغيرهما من الصحافيين كتبوا في الصحف المصريّة والسوريّة، التي فتحت أبوابها لهم للحديث عن مخاطر الصهيونيّة.
الأمير شكيب أرسلان: "تتحوّل فلسطين إلى مملكة يهوديّة حين ينقرض العرب"
وامتدّت الدعوة للتسلّح بالوعي تجاه المشروع الصهيونيّ إلى الفضاء العربيّ. فظهرت أصوات كصوت الأمير شكيب أرسلان، الذي برزت مساعيه عام 1925/وتعود أولى كتابات أرسلان التي عُثر عليها حول القضية الفلسطينية، إلى عام 1926. يؤكد فيها بقدر كبير من التفاؤل والثقة بالنفس أنه من المستحيل تحويل فلسطين إلى مملكة يهودية "إلا بعد أن ينقرض الـ70 مليون عربي من على وجه الأرض".
ويضيف أرسلان أنه لا يظن بأنّ 15 مليون يهودي مبعثرين "في كل ما عمّر ربنا"، يقدرون على مخاصمة هذه الكتلة الإسلامية المتصلة المتماسكة. كما ذكر عدة أسباب أخرى، منها أن النصرانية في العالم لن ترضى بتحويل فلسطين مملكة يهودية، على أساس أن كراهية دول أوروبا لليهود، هي أكثر بكثير من كراهية أهل الشرق لهم.
وتعليقاً على ذلك، يقول ناصر الحكيم في كتابه "جدليّة الفكر والعمل عند شكيب أرسلان" ما يلي: "يبدو واضحاً أن أرسلان يعتمد في ثقته بالنصر على وحدة العرب تجاه مشروع تهويد فلسطين، وكذلك على دعوة الجامعة الإسلامية التي كان أرسلان حتى تلك الفترة من دعاتها المخلصين. إذ يبدو أنه كان يعلق آمالا على نهوض عربي وإسلامي موحد الجهود، لإنقاذ فلسطين من براثن الصهيونية".
وبالرغم من تفاؤل الأمير شكيب أرسلان بنجاح مشروع مواجهة الخطر الصهيوني، فإنه يبدي في هذه المسألة ملاحظتين مهمتين؛ الأولى: لومه الزعماء الفلسطينيين في تزاحمهم على النفوذ والرئاسة، والثانية هي تأكيده أن بقاء فلسطين عربية أو تحولها يهودية وطرد العرب منها، أمر منوط بالعرب الفلسطينيين أنفسهم، قبل سائر العرب.
ويبدو أن الأمير شكيب أرسلان قد رأى بعد ذلك تراخي العرب نحو القضية، خاصة أنه عاد عام 1929 وأشار إلى أن مسألة الصهيونية لا تكاد تكون موجودة عند العرب، خاصة الفلسطينيين منهم، وأبدى استياءه من النزعة القومية العربية، وتراخي العرب في قضاياهم، خاصة قضية فلسطين.
وأدرك أن نجاح الكيان الصهيوني في فلسطين، سيكون من أهم أهدافه تصفية أية عملية وحدوية ونهضوية في العالم العربي، وركز خلال عام 1937 على دور الكيان الاستيطاني في ضرب النهضة والوحدة العربيتين، قائلاً: "أهداف إنجلترا من إنشاء الوطن القومي الصهيوني هي تثبيت سيطرة إنجلترا على فلسطين، عن طريق إعطائها لليهود".
وأدرك أن نجاح الكيان الصهيوني في فلسطين، سيكون من أهم أهدافه تصفية أية عملية وحدوية ونهضوية في العالم العربي، وركز خلال عام 1937 على دور الكيان الاستيطاني في ضرب النهضة والوحدة العربيتينولم يتوقف الأمير عند هذه التحذيرات، فالتطوّرات في أرض الواقع جعلته يرى خطورة أكبر على المحيط العربيّ وليس على فلسطين فحسب. ففي عام 1938، قال أرسلان "إنّ اليهود لن يكتفوا بفلسطين، بل سيحاولون في مراحل لاحقة قضم أراضي العرب المحيطة بفلسطين، وبالتالي العمل على تهويدها. لذلك فإذا لم يتمكن العرب من تثبيت عرب فلسطين في أراضيهم، فإن العالم بأجمعه سينسى وجود أمة عربية".
ويعلّق الحكيم على كتابات أرسلان- التي وصفها بأنّها تنمّ عن أفق سياسي ثاقب- قائلاً: "إنّ هذا التطاول الصهيوني خارج حدود فلسطين، هو الذي يحصل منذ تأسيس إسرائيل وحتى اليوم الحاضر".
محمد علي الطاهر: "إسرائيل ستفصل شرق العالم العربيّ عن غربه"
في زمن الأمير شكيب أرسلان، برز صوت صحافيّ فلسطينيّ آخر متنبّهاً لتداعيات المشروع الصهيونيّ، اسمه محمد علي الطاهر. بدأ حياته مراسلاً من فلسطين لجريدة "فتى العرب" الصادرة في بيروت. كما كتب في صحف عدة عن فلسطين. ومما كتبه مقال نُشر عام 1921 في جريدة "اللواء المصري". حذّر فيه من أن تصبح إسرائيل نقطة ارتكاز لاستعمار الإنجليز في الشرق الأدنى، وأن دولة إسرائيل ستفصل العالم العربي في آسيا عن العالم العربي في إفريقيا.ويؤكد كبها أنّ "محمد علي الطاهر كان من أكثر الأشخاص الذين نقلوا أمر فلسطين وما يحدث إلى العالم أجمع، من خلال جريدته "الشورى"، التي أسسها في مصر".
وإلى جانب ما ذكرنا من شخصيات ذو شأن في التوعية بمخاطر الصهيونية، والدفاع عن فلسطين، يشير المؤرخ د. جوني منصور، في حديثه لرصيف22 إلى أسماء أخرى بهذلت جهداً مشابهاً، على رأسها عيسى بندك، صاحب جريدة "صوت الشعب"، وسليمان التاجي الفاروقي، مؤسس صحيفة "الجامعة الإسلامية"، التي أكدت في أحد أعدادها أن "إنشاء مملكة يهودية في هذه البلاد هو مشروع خيالي محض"، بالإضافة إلى إبراهيم الشنطي، مؤسس جريدة "الدفاع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع