لا تكتفي سياسات الاستعمار الاستيطاني بالسيطرة على مقدّرات الشعوب وإدارة المستعمرات فحسب، بل تعمد دائماً إلى استخدام الأساليب الإجرامية من أجل تحقيق أبرز أهدافها: إحداث تغيير ديموغرافي وعرقي واجتماعي عبر إبادة السكّان الأصليين أو تهجيرهم، واستبدالهم بمستوطنين جدد. ومع الوقت، تصبح هذه الأراضي "حقاً للمحتل"، وفلسطين إحدى ضحايا هذه السياسات الاستعمارية الاستيطانية، وأوضح نماذجها.
عبر التاريخ، تميّزت بريطانيا في استخدام الاستعمار الاستيطاني في كثير من دول العالم، وقبيل انتهاء الاستيطان بعد الحرب العالمية الثانية، لجأت إلى حل آخر ومعها دول الاستيطان التاريخية، من خلال إنشاء دولة إسرائيل. وبهدف تعديل التركيبة الديموغرافية بين العرب واليهود، ارتُكبت أولى المجازر بحق الشعب الفلسطيني سنة 1936، إبان الاستعمار الإنكليزي، وظلت متقطعةً طوال عقد، لكنها تكثّفت بشكل كبير في عامي 1947 و1948، أي خلال العامين اللذين سبقا إعلان قيام "دولة إسرائيل"، حيث تم ارتكاب 49 مجزرةً.
الوظيفة التهجيرية للمجازر الصهيونية
التدقيق في الأماكن التي ارتُكبت فيها المجازر على مدى عقدين، من سنة 1936 تاريخ أول مجزرة، وحتى سنة 1956 تاريخ العدوان الثلاثي (حرب مضيق السويس)، يؤكد على وظيفة هذه المجازر التهجيرية، حيث أن 93% من تلك المجازر (64 من أصل 69 مجزرةً)، ارتُكبت في الأقضية الفلسطينية التي أصبحت تُعرف لاحقاً باسم "أراضي الـ48"، أي الحدود "المعترف بها دولياً" لدولة إسرائيل، والتي تمثل 78% من أرض فلسطين التاريخية. 53 مجزرةً بين 1936 و1948، كانت كافيةً لقيام دولة إسرائيل وباعتراف دولي، بعد أن هجّرت الفلسطينيين إلى الداخل الفلسطيني (الضفة وقطاع غزة)، وإلى سوريا ولبنان بشكل خاص.
في أثناء ارتكاب تلك المجازر، اعتمدت العصابات الصهيونية على تكتيك يقضي بترك منفذ للهرب، لمن استطاع من السكان أن يبقى على قيد الحياة، وإبلاغ القرى الأخرى بما حصل من فظائع، بهدف نشر الترويع في القرى الفلسطينية ودفع أهلها "للنجاة" بأنفسهم.
في أثناء ارتكاب تلك المجازر بين 1936 و1956، اعتمدت العصابات الصهيونية على تكتيك يقضي بترك منفذ للهرب، لمن استطاع من السكان أن يبقى على قيد الحياة، فما الفارق عما يُرتكب اليوم في غزة؟
نجحت هذه السياسة آنذاك... وقُتل ما يعادل 1% تقريباً من الشعب الفلسطيني، وهُجّر ما يصل إلى 81% منه. كان عدد الفلسطينيين في المدن والقرى التي تم إعلانها "دولة إسرائيل"، ما يقارب 800 ألف نسمة، وقد تم تهجير نحو 650 ألفاً منهم، وفي المقابل، أتوا باليهود من مختلف أرجاء العالم، لا سيما من روسيا وأوروبا الشرقية وفرنسا من أجل توطينهم على أرض فلسطين، ووصل عددهم إلى 600 ألف يهودي خلال السنتين الأوليين لإعلان الدولة.
بحسب دراسة نشرها مركز القدس للدراسات، عن تاريخ اليهود في فلسطين، يتبين أنه حتى عام 1839، بلغ عدد اليهود المهاجرين إلى فلسطين ستة آلاف، مقابل 300 ألف فلسطيني عربي، وهذا يعني أن نسبة اليهود لم تكن تتجاوز 2% في ذلك الوقت. إلا أن موجات الهجرة المنظمة من مختلف أرجاء العالم، والتي توالت خلال ستة عقود لاحقة، أدت إلى رفع عدد اليهود في فلسطين إلى ما يقارب 559،000 يهودي. ويشير جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني إلى أن عدد السكان في فلسطين، في العام 1948، بلغ أكثر من مليونين، منهم نحو 31.5% من اليهود.
العصابات الصهيونية تؤسس الجيش... والمجازر تتواصل
بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، سنة 1948، وجلاء القوات البريطانية، كوّنت العصابات الصهيونية وقادتها أمثال موشي ديان وأرييل شارون ومناحيم بيغن؛ الجيش الإسرائيلي الذي تولّى استكمال المجازر، بعد أن نقلها إلى مرحلة أكثر إجراماً وفتكاً بالفلسطينيين، إذ وصل عدد ضحايا مجازره حتى عام 1956، إلى عدد ضحايا العصابات الصهيونية نفسه تقريباً، ما قبل الـ48.
اعتداءات على أنواعها بحق الشعب الفلسطيني
تعدّدت طبيعة الاعتداءات على الشعب الفلسطيني، أما الأكثر استخداماً منها فكانت الهجمات المسلّحة على القرى والمزارع، والتي رافقتها أبشع عمليات الإجرام من ذبح وحرق للأحياء من أجل إثارة الرعب ودفع أصحاب الأرض للنزوح والابتعاد عن مساكنهم، كما حصل في مجزرة دير ياسين، حيث قُتل نحو 360 فلسطينياً، بالإضافة إلى اغتصاب وحرق فتاة أمام أهلها، وفي مجزرة طيرة-حيفا حيث عمدت العصابات الصهيونية إلى نقل ما بين 60 و80 مدنياً بالباصات إلى حقل بالقرب من بلدة العفولة، وعند الظهيرة قاموا برش البنزين عليهم وإحراقهم أحياءً. وبلغت نسبة الضحايا في المجازر التي نُفّذت بالهجوم المسلح، 84% من إجمالي ضحايا المجازر الصهيونية.
وشملت الاعتداءات أيضاً إلقاء القنابل اليدوية على التجمّعات الفلسطينية، لا سيما في الأسواق والمقاهي، واستخدام براميل البارود والعبوات الناسفة في استهداف المنازل والفنادق، والسيارات المفخخة، وتفجير القطارات.
يقول الباحث المتخصص في الشؤون الفلسطينية، سامر مناع، لرصيف22، إن "الكيان الصهيوني، ومنذ تأسيسه، سعى إلى وضع ركائز الدولة على أوسع رقعة جغرافية، وبأقصى عدد من اليهود، استناداً إلى الفكر الصهيوني المركزي الذي يعبّر عن المجتمع الإسرائيلي بأغلبيته الساحقة، منذ ما قبل نكبة 1948، ولغاية العدوان الحالي على قطاع غزة. وبدءاً بتيودور هرتسل، ممثلاً لما يُعرف بالصهيونية الليبرالية، وصولاً إلى بنيامين نتنياهو، ممثلاً الصهيونية المحافظة الجديدة.
ويضيف: "يرتكز الفكر الصهيوني إلى أربع أفكار رئيسة، هي: التوسع في ضم الأراضي، الفصل القومي، التفوق اللاهوتي والهيمنة. أما آليات تنفيذ الأفكار والأهداف، فقد عبّر عنها صراحةً دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، بقوله: 'إن الوضع في فلسطين سيُسوّى بالقوة'، من خلال عدد من الأهداف، أبرزها: إخلاء السكان الفلسطينيين من أراضيهم بالوسائل كافة، ومحو وإزالة كل ما يثبت الوجود الثقافي والتاريخي للشعب الفلسطيني. أما ترجمة ذلك على أرض الواقع فكانت في نكبة عام 1948، بالإرهاب والترويع الذي تولته العصابات الصهيونية".
آنذاك، بحسب منّاع، "ساعدت في التطهير العرقي بحق الفلسطينيين الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، وهي الدول نفسها التي تستمر في دعم الاحتلال الصهيوني اليوم في عدوانه على قطاع غزة. كما ساهم فيها المجتمع الدولي الذي فشل خلال 75 عاماً في إيجاد آليات تكبح آلة القتل الصهيونية. أما أهم مظاهر التطهير العرقي، فظهرت في المجازر، ومحاولة إبادة وتهجير قرى بأكملها، وهذا ما حصل في أكثر من 530 قريةً فلسطينيةً".
"في كل هذه المجازر، كان السعي الدائم إلى تكريس الإرهاب بالقتل عبر الإبادة الجماعية لتشكيل بيئة مساعدة على عملية التطهير العرقي من خلال إخلاء المكان والجغرافيا بالكامل، وإزالة القرى بشكل كلي، واستبدالها بمستوطنات يهودية، أو تركها كمناطق جرداء وإطلاق أسماء يهودية عليها"، يشير منّاع.
العدوان على غزة استكمال للإبادة والتهجير
على الرغم من كل سياسات الإجرام التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين، وحصولهم على ثلاثة أرباع مساحة فلسطين التاريخية، إلا أنهم استمروا في سياسة التهجير. ولا يمكن إغفال أهمية اكتشاف مكامن غازية كبيرة في شمال غزة، وفي بحرها، في سعيهم إلى استكمال عملية التطهير العرقي المتواصلة إلى اليوم. ففي العام 2000، افتتح ياسر عرفات مراسم الاتفاق الرسمي بين السلطة الفلسطينية وشركة "بريتش غاز"، حول حقل "غزة مارين1" (راجع مقالة جمانة مصطفى في رصيف22، بتاريخ 24/11/2023: هل هي حرب الغاز الفلسطيني أيضاً)، فنسفوا اتفاق أوسلو، وعمدوا إلى تصفية عرّابَيه إسحاق رابين وياسر عرفات، ولجأوا إلى تكثيف الاستيطان في نطاق غزة وفي الضفة.
الظروف اليوم لا تختلف كثيراً عما حصل سابقاً، وعلى جميع الأصعدة: العالم ينظر، ولكنه يهتم لمصالحه الإقليمية والدولية الأهم بالنسبة له؛ عالم عربي مسيطَر عليه، وأيضاً منشغل بمصالح ضيّقة، وشعب مفتت دون أي رؤية
كذلك، في عدوان غزة اليوم، تستمر إسرائيل في سياساتها الاستعمارية الاستيطانية من خلال العمل على إبادة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وعلى تهجير القسم الباقي إلى خارجها. واسترجعت إسرائيل التكتيك ذاته الذي استخدمته في مجازر عام 1948، من تعمّد استهداف المدنيين في شمال قطاع غزة ووسطه، وترك مجال لهم للنزوح إلى جنوب القطاع على الحدود مع مصر، تمهيداً للقيام بعملية ترحيل جماعي باتجاه صحراء سيناء.
يقول منّاع: "آلة القتل الصهيونية تستمر اليوم في عمليات تطهير عرقي واضح في قطاع غزة، مع فارق تكثيف التمادي بوحشية المجازر على مرأى المجتمع الدولي ومسمعه، وبدعم غربي سافر، كذلك بتطور تكنولوجي في تجربة استخدام أسلحة محرّمة دولياً، كقنابل الفوسفور والزلزال وكمية هائلة من الصواريخ تضاهي قنبلتين نوويتين، والتلويح برمي قنبلة نووية في عصر حقوق الإنسان. ونتيجة الفشل في العمليات العسكرية، تمارس القوات الصهيونية حرب الإبادة والتطهير العرقي بقتل أكثر من 10 آلاف فلسطيني من المدنيين، نصفهم تقريباً من الأطفال، في مجازر شبه يومية، كمجزرة المستشفى المعمداني ومجازر مخيمات جباليا والنصيرات وغيرها، مع حملة تجويع مسعورة وقطع مختلف أنواع الإمدادات من وقود وكهرباء ومياه وأدوية في أبشع وجوه العقاب الجماعي.
من جهته، يقول الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، رازي نابلسي، إنه "منذ العام 1948، تعاملت إسرائيل مع الفلسطينيين كعقبات طبيعية تُشبه الجبل والشجر، يمكن إزاحتها من طريق بناء المشروع الصهيوني في فلسطين، وهو ما رافقته عمليّة نزع للإنسانية وعملية إنكار لوجود الفلسطيني كشعب وهوية قومية. وما يحصل اليوم لا يختلف لا من حيث الإطار الأيديولوجي، ولا من حيث القوة العسكرية، ولا الدعوات العلنية للطرد. وبرغم أنه يحصل على مرأى العالم، إلا أن الظروف لا تختلف كثيراً عما حصل سابقاً، وعلى جميع الأصعدة: العالم ينظر، ولكنه يهتم لمصالحه الإقليمية والدولية الأهم بالنسبة له؛ عالم عربي مسيطَر عليه، وأيضاً منشغل بمصالح ضيّقة، وشعب مفتت دون أي رؤية أو نظام سياسي موحّد".
مصادر أخرى: موسوعة القرى الفلسطينية، مركز الدراسات الفلسطينية، الموسوعة العريقة
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...