شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
محمد علي الطاهر... الصحافي الذي تنبّأ بحال فلسطين الآن قبل 75 عاماً

محمد علي الطاهر... الصحافي الذي تنبّأ بحال فلسطين الآن قبل 75 عاماً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الاثنين 27 نوفمبر 202305:20 م


في أحد أيام عام 1896، وُلد طفل صغير في مدينة نابلس الفلسطينية، لعائلة ممتدة في يافا، لكنه لم يعلم أن الأرض التي شهدت مسقط رأسه لن تستقرّ له أبداً، وإنما سيعيش حياةً عصيبةً في سبيل الدفاع عنها، وانتشالها من العدو الصهيوني المحتل، الذي انتبه إلى خطته مبكراً، ولطالما حذّر منها، وتحدث عنها كأنه يرى في أفقه ما سيحدث في المستقبل. إنه الصحافي الفلسطيني محمد علي الطاهر.

نشأة محمد علي الطاهر

لا يتخيل أحد أن هذا الرجل الذي عاش حياته مدافعاً عن أرضه بقلمه الصحافي، لم يتلقَّ أي تعليم في المدارس، وإن جل تحصيله كان من الكتّاب الذي ألحقه به والده، وفقاً لما ذكر محمد فتحي عبد العال، في مؤلفه المعنون بـ"تاريخ حائر بين بان وآن". 

بدأ محمد علي الطاهر، حياته مراسلاً من فلسطين لجريدة "فتى العرب"، التي كانت تصدر في بيروت؛ ومن خلالها نبّه إلى خطر الصهيونية مبكراً، في مقال له حمل عنوان "الصهيونيون في فلسطين" عام 1914. 

الرجل الذي عاش حياته مدافعاً عن أرضه بقلمه الصحافي، لم يتلقَّ أي تعليم في المدارس، وإن جل تحصيله كان من الكتّاب الذي ألحقه به والده

وبحسب كتابه الذي حمل اسم "خمسون عاماً في القضايا العربية"، فإن محمد علي الطاهر، ذكر في هذا المقال، أن يهود "حارة تل أبيب"، يستعملون نقوداً نحاسيةً نُقش عليها خاتم سليمان، ولهم طوابع بريدية عليها صورة هرتزل، زعيم الحركة الصهيونية، وأن يهود الحارة ينظّمون استعراضات عسكريةً، محذراً الناس من "اليهود الذين ينشئون حكومةً يهوديةً داخل الحكومة العثمانية".

وبسبب مظالم جمال باشا العثماني آنذاك، هاجر الطاهر في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، إلى مصر هرباً منه، لكن السلطات البريطانية اعتقلته بسبب "حكاية لا أصل لها"، واستمر الاعتقال أكثر من سنتين في معتقل الجيزة منذ أيلول/ سبتمبر 1915، إلى أواخر 1917.

وبعدما خرج من المعتقل، بدأ في العام نفسه العمل في جريدة "الكواكب"، التي كانت تصدرها في مصر الحكومة الحجازية الهاشمية، ويرأس تحريرها الشيخ الفلسطيني محمد القلقيلي (نسبةً إلى قلقيلية في فلسطين)، بناءً على طلب الأخير، وفقاً لما ذكر في مؤلفه "نظرات الشورى".

التحذير من إنشاء دولة يهودية 

بعد الحرب عاد محمد علي الطاهر إلى فلسطين، التي خضعت للاحتلال البريطاني العسكري، وعمل مديراً للبريد والتلغراف في نابلس، فاطّلع بحكم وظيفته على أمور كشفت له أن الحكومة كلها أصبحت في يد الإنكليز واليهود.

ووفقاً لما ذكر الطاهر في مؤلفه "ظلام السجن"، فإنه حين تشكلت الحكومة المدنية برئاسة هربرت صموئيل، الذي عيّن مديري الإدارات من الإنكليز واليهود، استقال الرجل من وظيفته، وكان يحلم باحتراف الصحافة، لكنه لم يستطع إصدار جريدة في فلسطين، بسبب قلة النفقات.

وبسبب إصراره على حلمه، وطريقه الذي بدأه في الدفاع عن أرضه من خطر الصهيونية، عاد الطاهر إلى مصر، ليعمل في التجارة، ومن خلالها يدبّر رأس مال يمكّنه من إصدار جريدة.

ويذكر محمد فتحي عبد العال، أن الطاهر افتتح دكاناً في حي الحسين في القاهرة، ليبيع فيه ما يستورده من نابلس من زيت الزيتون، وتحول دكانه مع الوقت إلى ملتقى للوطنيين المصريين وغيرهم من أنحاء العالمين العربي والإسلامي، وتوسّع نشاطه في مصر فأنشأ "مكتب الاستعلامات العربي الفلسطيني"، وأسس "اللجنة الفلسطينية" عام 1920.

"عدد اليهود بفلسطين بدأ يرتفع، فزاد خلال عامين من 40 إلى 60 ألفاً، وأن حكومة فلسطين مع كونها بريطانيةً، قد أصبحت في قبضة اليهود فعلاً، وعلى رأسهم هربرت صموئيل، المندوب السامي، الذي يُعدّ من أدهى وأخبث زعماء الصهيونية"

وكتب الطاهر في صحف عدة عن فلسطين، وكان مما كتبه مقالاً عام 1921، نشره في جريدة "اللواء المصري" حذّر خلاله العالم العربي من كون الإنكليز يستهدفون إنشاء دولة يهودية في فلسطين، لتصبح نقطة ارتكاز لاستعمارهم في الشرق الأدنى، وأن دولة إسرائيل ستفصل العالم العربي في آسيا عن العالم العربي في إفريقيا، مؤكداً أن "عدد اليهود بفلسطين بدأ يرتفع، فزاد خلال عامين من 40 إلى 60 ألفاً، وأن حكومة فلسطين مع كونها بريطانيةً، قد أصبحت في قبضة اليهود فعلاً، وعلى رأسهم هربرت صموئيل، المندوب السامي، الذي يُعدّ من أدهى وأخبث زعماء الصهيونية، فكان اليهود في تلك الأيام يلقبونه بأمير إسرائيل الأول"، وفقاً لمؤلفه المعنون بـ"معتقل هاكستب".

إصدار جريدة "الشورى" في مصر

ونشأت بين الطاهر والدكتور محمد حسين هيكل (1888-1956)، علاقة طيبة عام 1923، حين كان الأخير رئيساً لتحرير جريدة "السياسة"، التي أصدرها الحزب الحر الدستوري، فكان ينشر فيها الأول عشرة فصول كبيرة عن القضية العربية، في أواخر الحكم العثماني ومشكلات بلاد العرب.

ويقول محمد علي الطاهر عن ذلك: "كنت أعمل على توسيع نشر هذه الجريدة في العالم العربي، ولي من ذلك التوسيع مأرب، هو أن يكثر عدد قرّائي الذين أنشر بينهم فكرتي، وأبثّ فيهم رأيي".

وفي عام 1924، تحقق حلم محمد علي الطاهر، وأنشأ جريدة "الشورى"، وصدر العدد الأول منها في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1924، ووضع هويتها بسطر دائم كان يُنشر في كل عدد منها: "جريدة تدافع عن سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن"، ولما اتّسع مجال نشرها وصفها بأنها "جريدة تبحث في شؤون البلاد العربية والأقطار المستبعدة".

بعد ما يقرب من عام، وتحديداً في آب/ أغسطس 1925، زار محمد علي الطاهر، فلسطين، ولاحظ أن بلدة "العفولة" في مرج ابن عامر، قد مُحيت من عالم الوجود، وقامت على أنقاضها مدينة يهودية، فلما رجع إلى مصر نشر تفاصيل كل ما رأى ونعى إلى "العالم الإسلامي والشعوب العربية أول بلدة عربية استشهدت"، وأنذر بأن هذا المصير سيكون مصير فلسطين كلها، وفقاً لكتاب "ظلام السجن".

من هو "الخواجة فلسطين"؟

لاقت دعوة محمد علي الطاهر للقضية الفلسطينية، عقبات كثيرةً في مصر، تحدّث عنها بقوله: "كان بعض الناس يقولون لي: من هو الخواجة فلسطين؟ وبعضهم يظن الصهيونية اسماً لامرأة فيقول لي: ماذا عملت معك هذه المرأة؟ وشيخ عظيم قال لي ولمن معي: فلسطين دي تبقى إيه؟ وهناك شيخ عظيم مثله كان يستغرب ما يجري في فلسطين من جهاد، ويظن أن المسلمين فيها متعصبّون يضطهدون اليهود، وشيخ ثالث هو مفتي الديار رفض إعطاء فتوى يكفر فيها الفلسطيني الذي يبيع الأرض"، بحسب كتاب "خمسون عاماً في القضايا العربية".

وتعرّض للاعتقال عام 1925، على يد إسماعيل صدقي، وزير الداخلية آنذاك، بسبب تظاهره ضد آرثر جيمس بلفور، صاحب الوعد الشهير، الذي زار مصر وهو في طريقه إلى فلسطين لتدشين الجامعة العبرية في القدس.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، لكن بحسب الدكتورة عواطف عبد الرحمن، في مؤلفها المعنون بـ"المشروع الصهيوني الاختراق الصهيوني لمصر"، فإنه عندما تولّى إسماعيل صدقي، رئاسة الوزراء عام 1930، صادر جريدة "الشورى" وأغلقها.

"كان بعض الناس في مصر يقولون لي: من هو الخواجة فلسطين؟ وبعضهم يظن الصهيونية اسماً لامرأة فيقول لي: ماذا عملت معك هذه المرأة؟ وشيخ عظيم قال لي ولمن معي: فلسطين دي تبقى إيه؟"

وظل الطاهر يعيش في مصر مدة 30 عاماً من دون جنسية، بحجة أنه أقام في مصر أكثر مما عاش في فلسطين، والحقيقة أن الإنكليز أرادوا ذلك تأديباً له على عدم دعم الاعتراف بشرعية استعمارهم ومحاربة فظائعهم، حتى لُقّب بـ"العربي التائه".

"الصهيونية لولا إنكلترا ما كانت!"

وكان الطاهر مهتماً بحال فلسطين في كل أحوالها، وما يطرأ عليها من تغيرات تحت الاستعمار البريطاني ووجود اليهود، فكتب في إحدى المرات يقول، وفقاً لمؤلفه "ظلام السجن": "فلسطين لم تشعر بشيء غير طبيعي في حياتها، إلا بعد أن شرّفها الإنكليز بانتدابهم السعيد، فالصهيونية لولا إنكلترا لا تُعدّ شيئاً يؤبه له، لكن بريطانيا تريد مخالفة النواميس الطبيعية وأبسط قواعد الإنسانية بأن تزيل بقوتها وجبروتها أهل فلسطين من فلسطين، وأن تقتلعهم اقتلاعاً لتسكنها اليهود، على ظنّ منها بأن العالم سيكون عدّتها على الأمة العربية".

ورأى الصحافي الفلسطيني، أن بريطانيا تعمل بخطى سريعة على تهويد البلاد، كي تضمن "جعل البلاد الفلسطينية في حالات اقتصادية واجتماعية سيئة، لتسهيل بناء الوطن القومي فيها لليهود، بل إن الحكم البريطاني قد أشغلنا عن العمل لوطننا ولأنفسنا وجعلنا ننهمك في الاشتغال بمقاومته وبالدفاع عن حياتنا".

وقبل أشهر من نشوب ثورة فلسطين الكبرى عام 1936، عاد الطاهر لزيارة الوطن القديم فلسطين، وأخذ إذناً بالإقامة فيه سنةً، فأنذرته السلطات بالخروج، وإلا اتخذت معه الإجراءات القانونية، وفي مصر كان ضمن المقبوض عليهم سياسياً بأوامر السلطات البريطانية، وأودع أحد المعتقلات سنة 1940.

الطاهر يتنبأ بمستقبل فلسطين

داخل السجن، أصيب الطاهر بمرض، فنُقل إلى أحد المستشفيات، واستطاع أن يهرب وتنكّر واختفى أحد عشر شهراً بين المحافظات، حتى ظهر فجأةً في رئاسة مجلس الوزراء، في أثناء اجتماع مصطفى النحاس باشا بالصحافيين في آذار/ مارس 1942.

وعندما أُقرّ مشروع التقسيم في فلسطين، كتب محمد علي الطاهر، كلمات ممزوجةً بالمرارة والحزن: "هذه أول مرة وآخر مرة بلا شك يسجل فيها التاريخ، أن مصير أمة برمتها يوضع في سوق المزاد العلني، وتعطى فيه الرشوة جهاراً، وأول مرة يعرض فيها مستقبل أمة في ميدان الاقتراع".

ومن خلال ما رآه الطاهر على أرض فلسطين في هذه الأثناء، رسم المستقبل الذي ستكون عليه بلاده، وما ستعيشه في السنوات التالية، وكأنه يشاهد ما يحدث حالياً بأم عين، وأصبح الوضع بالفعل على ما نحو ما ذكر.

كتب الطاهر في أحد مقالاته يقول، وفقاً لمؤلفه "خمسون عاماً في القضايا العربية": "إلى أن يعرف العرب بعضهم بعضاً على الأقل، وإلى أن يتحقق المنام المعسول بأن ينتظموا في سلك واحد؛ فإن دولة العصابات اليهودية بفلسطين باقية في أمان واطمئنان على الدوام، إلى أن يشتد ساعدها ويقف عودها، وهناك تسمع من العالم العربي البكاء والندم وصرير الأسنان، لكن بعد فوات الأوان، وبعد توسيع الدولة اليهودية المظفرة".

"إذا كان العالم العربي لا يقضي الآن على الدولة اليهودية وهي فلول من عصابات وقبل أن تتكتل وتصبح دولةً قانونيةً حقيقيةً، فإنها ستقضي عليه غداً"

وتهكم محمد علي الطاهر، على حال العرب وموقفهم من اليهود، عام 1949، فكتب يقول: "إذا كان العالم العربي لا يقضي الآن على الدولة اليهودية وهي فلول من عصابات وقبل أن تتكتل وتصبح دولةً قانونيةً حقيقيةً، فإنها ستقضي عليه غداً وإن عجز العرب عن ذلك فهم غداً عُجّز... وستحاصر دولة اليهود العالم العربي عسكرياً في الجو والبحر، وتفرض عليه بالقوة اتفاقيات اقتصاديةً ومعاهدات عسكريةً تضعه تحت حمايتها واستعمارها".

رفض المشاركة في حكومة "عموم فلسطين"

وفي عام 1948، شكّل صديقه أحمد حلمي عبد الباقي باشا، حكومة عموم فلسطين، في غزة، بقرار من جامعة الدول العربية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقّى من فلسطين، وأصدر له جواز سفر فلسطينياً، ثم دعاه للمشاركة في الحكومة، وانتقاء أي وزارة يختارها، وأتبع ذلك عام 1949، بمنحه جواز سفر دبلوماسياً، لكن الطاهر اعتذر عن قبول أي مركز في حكومة عموم فلسطين، ولو كان شرفياً، كي لا يفقد حرية حركته وقلمه، بحسب موقع "محمد علي الطاهر".

كلمات الطاهر التي كتبها دفاعاً عن فلسطين، وإعلام الناس بما يحدث فيها، لم تمرّ بسلام؛ ففي يوم 21 تموز/ يوليو عام 1949، أصدر إبراهيم عبد الهادي باشا، رئيس الوزراء في مصر آنذاك، الحاكم العسكري العام أيضاً، أمراً عسكرياً باعتقال الطاهر، وإيداعه السجن، بسبب فضح وقائع ضياع فلسطين، وتوجيهه اللوم إلى كلٍّ من المسؤولين الفلسطينيين والعرب على حد سواء.

وبحسب كتاب "خمسون عاماً في القضايا العربية"، فإنه بعد خروج الصحافي الفلسطيني من السجن، غادر في نيسان/ أبريل 1955، إلى بيروت، بعد أن عاش في القاهرة 40 عاماً تخللها عذاب وجهاد وصراع مع الاستعمار وأعوانه، وسجون واعتقالات.

وبعد رحلة طويلة في الدفاع عن أرضه، توفي أبو الحسن محمد علي الطاهر، في بيروت يوم 22 آب/ أغسطس عام 1974، بعدما دخل مستشفى الجامعة الأمريكية قبلها بأيام، على إثر اشتداد المرض عليه، ودُفن في مقبرة شهداء فلسطين.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard