قبل مئة عام أو أكثر بقليل، بدأت المجموعات اليهودية بالتمهيد للتمدد في الأراضي العربية في فلسطين. ساعدتها في ذلك أموال المساعدات الأوروبية، وما قدّمه الأثرياء اليهود، للإنفاق على عمليات الاستيطان والتوسع في الأراضي العربية، حتى أن ذلك مثّل تحولاً جذرياً للبنية الاقتصادية لليهود، وفق ما يقوله المؤرخ الفلسطيني، سميح شبيب، في ورقة بحثية له عن الاستيطان. لكن الأمر لم يتوقف على فلسطين، بل تحولت التبرعات لتصير إحدى أبرز أدوات الدعاية الإسرائيلية، لتحقيق تطلعات قادة إسرائيل في القارة الإفريقية.
خطة مخابراتية للتغلغل
على مدار عقود ماضية، وظفت إسرائيل مجموعةً كبيرةً من الأدوات الناعمة للتغلغل في القارة السمراء، كانت في مقدمتها التبرعات والمساعدات التي وُظّفت في المجالات المدنية والعسكرية على حد سواء، حيث قدّمت إسرائيل مساعدات لأكثر من 40 دولةً إفريقيةً في ميادين الاستخبارات والتدريبات العسكرية، وفي الصحة والزراعة، والتدريب العمالي، وهو ما يقول عنه الباحث ياسر أبو الحسن، إنه تم بإشراف مباشر من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وفي مقدمتها الموساد.
أبو الحسن يضع يده على ظاهرة التغلغل الإسرائيلي، في المجتمعات الإفريقية الفقيرة، التي تعرضت لأزمات سياسية وإنسانية، في ورقة بحثية له، حيث يشير إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق دافيد بن غوريون، كان أول من صاغ هذه التحالفات عام 1958، وذلك لتحييد الدول الإفريقية عن مساندة القضية الفلسطينية، حيث حرصت إسرائيل على تشكيل شبكة أمنية تولّت التواصل مع الجهات الإفريقية، سواء كانت حكومات أو حركات تحرر، أو حتى حركات تمرد، بغرض كسب تأييد الأفارقة، أو على الأقل تحييد موقفهم، خاصةً أنهم بغالبيتهم داعمون للمواقف العربية في مواجهة إسرائيل.
على مدار عقود ماضية، وظفت إسرائيل مجموعةً كبيرةً من الأدوات الناعمة للتغلغل في القارة السمراء، كانت في مقدمتها التبرعات والمساعدات التي وُظّفت في المجالات المدنية والعسكرية على حد سواء، حيث قدّمت إسرائيل مساعدات لأكثر من 40 دولةً إفريقيةً... في أي قطاعات استثمرت تل أبيب في إفريقيا؟ وكيف خدم ذلك مصالح إسرائيل؟
ويشير الباحث إلى أن إسرائيل ركزت على الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وفي منطقة القرن الإفريقي، لا سيما الدول غير العربية، حيث استثمرت علاقاتها مع إثيوبيا وحصلت على جزيرة "دهلك" عام 1975، الموجودة حالياً في إريتريا، ولا تزال تشهد وجوداً عسكرياً إسرائيلياً حتى الآن، كما حاولت التغلغل أيضاً في جنوب السودان، وقدمت مساعدات عسكريةً وتدريبيةً للحركات المسلحة في الجنوب السوداني قبل انفصاله عن السودان الشمالي.
تجنيد طلاب دارفور
ويمضي الباحث قائلاً إن الجمعيات الإسرائيلية وصلت إلى دارفور سنة 1972، ونجحت القنوات الإغاثية الإسرائيلية في استقطاب بعض طلاب جامعة الخرطوم من أبناء دارفور، وقدّمت لهم منحاً تعليميةً في تل أبيب، كما جرى توظيف بعضهم في مراكز بحوث تدار بواسطة متقاعدين في الجيش الإسرائيلي وناشطين في المخابرات الإسرائيلية، كما دعمت الاستخبارات الإسرائيلية عدداً من الحركات المسلحة في دارفور، وقدمت لها المساعدات العسكرية والمدربين العسكريين، وعلى رأسها حركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور، الذي زار إسرائيل في العام 2009 طلباً للدعم. كما قدّمت إسرائيل 5 ملايين دولار أمريكي لأهالي دارفور عن طريق الجمعيات الإسرائيلية الناشطة في مجال حقوق الإنسان والتي تعمل في ظل منظمات دولية.
استحضار المظلومية اليهودية
لم يكن عمل المنظمات الإسرائيلية في دارفور خالياً من التوجهات السياسية أيضاً، إذ يقول أبو الحسن، إن هذه المنظمات ربطت ما يحدث في دارفور من انتهاكات لحقوق الإنسان، بالمحرقة اليهودية النازية، في محاولة لخلق قاعدة متعاطفة مع اليهود، ومؤيدة لهم هناك، مشيراً إلى أن هذه التحركات تأتي ضمن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي روّجت له النخب الإسرائيلية أواخر القرن الماضي.
دعم الانفصاليين لم يقف عند حد دارفور السودانية، بل كررت إسرائيل التجربة مرةً أخرى في إقليم بيافرا الانفصالي في نيجيريا، حيث مدّت المتمردين بالمال والسلاح تحت ستار العمل الإنساني، وذلك على الرغم من العلاقات الجيدة مع الحكومة النيجيرية وقتها.
"ماشاف"... يد إسرائيل الناعمة في إفريقيا
يتفق مع الطرح السابق الباحث التركي إنجين أكتشاي، الذي يؤكد أن المساعدات الخارجية والجهود الإغاثية هي إحدى أبرز أدوات السياسية الخارجية لتل أبيب في إفريقيا، مشيراً في ورقة بحثية له، إلى أن أبرز مثال على ذلك هي وكالة التنمية الإسرائيلية "ماشاف" التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية، والتي دُشّنت خصيصاً للترويج للدولة اليهودية في الخارج، بقرار من رئيسة الوزراء السابقة، غولدا مائير، عقب أول زيارة لها إلى إفريقيا عام 1959، وكانت بمثابة ردّة فعل على طرد إسرائيل من مؤتمر قمة عدم الانحياز.
يقول أكتشاي، إن إسرائيل استخدمت بطاقة المساعدات بشكل احترافي اعتباراً من ستينيات القرن العشرين، حيث نفّذت الوكالة سالفة الذكر عشرات المشاريع في الدول الإفريقية، لا سيما الدول المحيطة بالدول العربية، ولم تكتفِ بالأنشطة الإغاثية والتنموية بل نظمت أعمالاً ميدانيةً في إفريقيا لتدريب العمال، وتقديم المنح للطلاب حتى في البلدان التي لا تقيم إسرائيل علاقات دبلوماسيةً رسميةً معها، حيث وظفت الجهات الاستخباراتية "الهستدروت"، وهو المنظمة العمالية في إسرائيل، لبناء شبكة علاقات مع مثيلاتها في الدول الإفريقية.
يقول أكتشاي، إن إسرائيل استخدمت بطاقة المساعدات بشكل احترافي اعتباراً من ستينيات القرن العشرين، حيث نفّذت الوكالة سالفة الذكر عشرات المشاريع في الدول الإفريقية، لا سيما الدول المحيطة بالدول العربية، ولم تكتفِ بالأنشطة الإغاثية والتنموية... ماذا نعرف عن ماشاف، يد إسرائيل الناعمة في إفريقيا؟
الولايات المتحدة راعية للعلاقات
تشير التقارير البحثية المعنية بالعمل الإنساني في إفريقيا، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت راعيةً دوماً للتغلغل الإسرائيلي في إفريقيا، حيث وظفت الوكالة الأمريكية للتنمية (حكومية)، طاقاتها للتواجد الإسرائيلي في القارة، كما وقّعت واشنطن مذكرة تفاهم مع حكومة إسرائيل لتنفيذ مشروعات ضمن مبادرة "Power Africa"، وهي الخطوة التي وصفها رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بـ"التطور الرائع والعظيم"، مؤكداً أنها امتداد للعلاقات الإسرائيلية الإفريقية التي تعطلت في السابق بسبب الصراع العربي الإسرائيلي.
وبموجب المذكرة، ستتمكن الشركات الإسرائيلية من تنفيذ مشاريع توصيل الطاقة الكهربائية إلى قرابة 60 مليون إفريقي، تموّلها الوكالة الأمريكية، كما أنها ستتيح لهذه الشركات التواصل مع المسؤولين الحكوميين في القارة والحصول على المنح النقدية، والاتصالات مع كيانات التمويل، وتقديم المشورة المهنية والقانونية، ودراسات الجدوى للجهات الحكومية في القارة.
الاستخبارات الأمريكية تمهّد الطريق
يقول الباحث الألماني ديرك كوهنرت Dirk Kohnert، المتخصص في الشأن الإفريقي، إن المخابرات المركزية الأمريكية والقوى الغربية سهلت وموّلت دخول إسرائيل إلى القارة السمراء عبر بوابة المساعدات، حيث قُدّمت تل أبيب للأفارقة على أنها "القوة الثالثة" بعد أمريكا والاتحاد الأوروبي، وبفضل هذه الوساطة وصلت المساعدات الإسرائيلية إلى أكثر من 40 دولةً إفريقيةً.
ولا يقتصر العمل على المنظمات الحكومية الإسرائيلية، بل تعمل أكثر من 30 منظمةً إسرائيليةً في القارة السمراء، من بينها جمعية التنمية الدولية في إسرائيل، وهي منظمة تضم نحو 170 كياناً إسرائيلياً، بالإضافة إلى اشتراك عدد من المنظمات الأخرى في إطلاق مبادرات للعمل في إفريقيا في مجالات الزراعة والصحة والكوارث، وتنفيذ مشاريع في كينيا والكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وأوغندا.
الرياضة ضمن الأيديولوجيا الصهيونية للدعاية
لم تقف السياسة الخارجية لإسرائيل عند حد توظيف التبرعات، والمساعدات الإنسانية، وعمليات التدريب، لخدمة مصالح تل أبيب، بل حتى الرياضة ذاتها تحولت لنصير إحدى أدوات الأيديولوجيا الصهيونية في الداخل والخارج، كما يقول الباحثان الإسرائيليان حاييم كوفمان ويائير جليلي، في دراسة لهما، حيث يشيران إلى أنه يمكن توظيف الرياضة كأداة للترويج لإسرائيل في ظل تنامي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
الدور الذي يمكن أن تلعبه الرياضة في الترويج للكيان المحتل، دفع الباحثان الإسرائيليان تال صامويل أزران ويائير جليلي Yair GalilyوTal Samuel Azran، إلى القول بأن الدبلوماسية الرياضية لطالما تعطلت بسبب قوة الأندية العربية، وتضامنها مع الفلسطينيين، إلا أن اتفاقيات التطبيع التي وُقّعت في 2020 مع أربع دول عربية قد تكون مدخلاً لمزيد من التطبيع، وهو ما حدث بالفعل إذ دخل إلى الدوري الإماراتي لكرة القدم، ثلاثة لاعبين إسرائيليين.
لم تقف السياسة الخارجية لإسرائيل عند حد توظيف التبرعات، والمساعدات الإنسانية، وعمليات التدريب، لخدمة مصالح تل أبيب، بل حتى الرياضة ذاتها تحولت لنصير إحدى أدوات الأيديولوجيا الصهيونية في الداخل والخارج، كما يقول الباحثان الإسرائيليان حاييم كوفمان ويائير جليلي
ولا يقف الأمر عند حدّ التطبيع الرياضي، بل يدعو مدرّس الأعمال الرياضية في جامعة بن غوريون، يوآف دوبينسكي، إلى ضرورة توظيف التكنولوجيا الرياضية الإسرائيلية لكي تكون أداةً للدعاية الإسرائيلية في المنطقة، مشيراً إلى أن الشركات الناشئة الإسرائيلية تعمل حالياً مع أكبر البطولات والامتيازات الرياضية في العالم، وهو ما يجعلها قادرةً على تعزيز سمعة إسرائيل في ظل تضرر سمعتها نتيجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
في تحليل له، يرى مركز المعلومات الوطني الفلسطيني، أن إسرائيل لطالما سعت إلى تعميق الخلافات الإفريقية الإفريقية، مستغلّةً أدواتها الناعمة بما فيها المساعدات الاستخبارية والخدمات الأمنية والتدريبات العسكرية وتجارة السلاح؛ وذلك لضمان تحقيق نفوذ سياسي في القارة في مواجهة منافسيها الإقليميين.
ويشير إلى أن تل أبيب أظهرت خلال العقود الماضية اهتماماً كبيراً بالأشخاص الأفارقة ذوي النفوذ، الذين من بينهم "ميلس زناوي" في إثيوبيا، و"أسياسي أفورقي" في إريتريا، والرئيس الكونغولي الراحل "موبوتو سيسيكو"، و"جون غارانغ" في جنوب السودان، و"يوري موسيفيني" في أوغندا"، وكل ذلك لكسب نخبة قد تدعم مواقفها المستقبلية وتحافظ على نفوذها في القارة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع