في زمن كانت الكتب نادرة، وكان الوصول إلى المعرفة يقتصر على فئة قليلة، انطلقت قصة المطابع الأميرية لتصبح بوابة العبور إلى عصور جديدة، وقد اجتازت مصر عبر هذه المطابع عصرًا من الظلام والتخلف.
دخول الطباعة
تبدأ قصة دخول مصر لعصر الطباعة، مع وصول الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر إلى الشواطئ المصرية عام 1798. لم تكن الحملة مجرد عملية عسكرية، بل حملت في طياتها ثورة معرفية، إذ جلبت معها تقنيات حديثة، كان من أبرزها الطباعة.
لكن القفزة الحقيقية للطباعة جاءت بعد تلك الحقبة، حينما تولى محمد على باشا حكم مصر في أوائل القرن التاسع عشر. إذ أدرك أهمية التعليم والثقافة لبناء دولة قوية، فأسس مطبعة بولاق “المطبعة الأميرية” عام 1820، أول مطبعة رسمية حكومية تنشأ فى مصر، لتكون نقطة انطلاق لعصر جديد من الطباعة. وسرعان ما أصبحت المطابع الأميرية وسيلة لنشر الأفكار الحديثة وتطوير التعليم، فأصدرت العديد من الكتب المدرسية والعلمية والأدبية التي أثرت بشكل عميق في الحياة الثقافية في مصر.
تبدأ قصة دخول مصر لعصر الطباعة، مع وصول الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، لكن القفزة الحقيقية جاءت بعد ذلك، حينما تولى محمد على باشا حكم مصر في أوائل القرن التاسع عشر، وأدرك أهمية التعليم والثقافة لبناء دولة قوية، فأسس مطبعة بولاق "المطبعة الأميرية" عام 1820
"رُوجت شائعة بأن مطبعة بولاق، التي أسسها محمد علي، استقدمت آلات الطباعة من الحملة الفرنسية ولكن هذا غير صحيح، فمطبعة بولاق كانت جزءًا من رؤية محمد علي لتحديث مصر ولم يكن لها أي علاقة بتلك الآلات التي غرقت في قاع البحر بعد معركة أبو قير". يروي الدكتور أحمد منصور، مدير مركز دراسة الخطوط بمكتبة الإسكندرية لرصيف22: "عندما وصل نابليون إلى مصر، لم يأتِ فقط بجيوشه، بل أحضر أيضًا مطبعتين، إحداهما بالحروف العربية والأخرى بالحروف اللاتينية، لاستخدامهما في نشر المعرفة والأفكار التي تخدم أهدافه. كانت هذه المطابع جزءًا من طموح نابليون لفرض السيطرة الثقافية والعلمية على البلاد".
ويُضيف أن هدف نابليون بدخول المطابع لمصر لم يتحقق بسهولة، ففي عام 1799 دخلت سفن نابليون في مواجهة بحرية عنيفة مع الأسطول البريطاني بقيادة الأدميرال نيلسون في خليج أبو قير، وخلال المعركة غرقت إحدى السفن الحاملة للمطبعة اللاتينية، فتبعثرت حروف الطباعة في قاع البحر.
مطبعة بولاق
مرت سنوات طويلة قبل أن تكشف البعثات الأثرية التي أجريت تحت الماء في خليج أبو قير عن بقايا تلك الحروف الرصاصية التي ظلت مدفونة في الأعماق، واليوم، تقف هذه الحروف النادرة كدليل صامت على حقبة تاريخية فريدة، معروضة في متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، تروي للزوار قصة نابليون ومعاركه وسعيه للسيطرة عبر المعرفة.
يذكُر مدير مركز دراسة الخطوط بمكتبة الإسكندرية، أن مطبعة بولاق أول دور نشر في مصر والوطن العربي، بالإضافة إلى كونها أول مطبعة حكومية رسمية في البلاد، فكانت بمثابة نافذة للمعرفة والثقافة الجديدة، مؤكدًا أن محمد علي باشا كان حريصًا على تزويد مطبعة بولاق بأحدث آلات الطباعة، التي استوردها من ميلان بإيطاليا عبر نيقولا مسابكي.
وفي عام 1821، انطلقت المطبعة رسميًا، بدأت بطباعة أول إصداراتها، من بينها قاموس إيطالي-عربي وكتاب "صباغة الحرير"، الذي لا تزال نسخته محفوظة في مكتبة الإسكندرية، ليكون شاهدًا على بدايات الطباعة الحديثة في مصر.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، شهدت مصر طفرة ملحوظة في مجال الطباعة، حيث ظهرت مجموعة من المطابع بعد مطبعة بولاق تنوعت بين العربية والأجنبية، فتم تأسيس مطبعة منشأة المعارف، والمطبعة الوهبية، ومطبعة مصطفى الحلبي، ومطابع للأرمن واليونانيين
وسرعان ما تطورت المطبعة لتصبح منبعًا للكتب الأدبية والعلمية والمدرسية، موفرةً المعرفة لأبناء الشعب المصري، وفتحت الأبواب أمام جيل جديد من المثقفين، لتصبح بذلك رمزًا للتنوير الثقافي والعلمي في مصر.
"ومع مرور الأيام، تحولت مطبعة بولاق إلى قلب نابض للنهضة الثقافية في مصر، فلم تكن مجرد مطبعة، بل رمزًا للأمل والتغيير، تروي قصصًا جديدة عن كفاح شعب يسعى نحو النور والمعرفة".
وفي أواخر القرن التاسع عشر، كانت مصر تشهد طفرة ملحوظة في مجال الطباعة، يروي منصور: "في تلك الفترة، كانت هناك حركة نشطة تتشكل، حيث ظهرت مجموعة من المطابع الأخرى بعد مطبعة بولاق، وبالتحديد في الأربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر".
ويضيف أن صناعة الطباعة شهدت رواجًا كبيرًا، إذ تنوعت المطابع بين العربية و الأجنبية، إذ تم تأسيس مطبعة منشأة المعارف والمطبعة الوهبية ومطبعة مصطفى الحلبي، ومطابع للأرمن واليونانيين.
وفي مدينة الإسكندرية، وُجدت مطبعة أرمنية تُعرف باسم "الهيلب"، بينما كان اليونانيون يفتخرون بمطبعتهم داخل الجمعية اليونانية. ورغم كل هذه المنافسة، ظلت مطبعة بولاق هي الأساس، فاستمرت في طباعة الاستمارات والأوراق الحكومية والقوانين الرسمية للدولة حتى اليوم، تحت إسم الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية.
ويقول إن تلك المطابع أسهمت في إغناء الفكر المصري، وفتحت الأبواب أمام جيل جديد من المثقفين، مؤكدًا أنه بالرغم مرور المطبعة بمراحل وتحولات عديدة، تتنقل بين الأيدي والسلطات، إلا أنها كانت دائمًا تتجدد وتستعيد قوتها.
وظهور الصحف
"كانت الصحف تُعتبر منصة حيوية ساهمت في توجيه الرأي العام وتشكيل المواقف السياسية بفضل المطابع كان بإمكان الأدباء والصحافيين التعبير عن آرائهم بحرية مما أسهم في خلق بيئة فكرية نشطة"
لم يكن تأثير المطابع مقصورًا على الطباعة الأدبية فقط، بل امتد ليشمل الصحافة، وتأسست العديد من الصحف والمجلات التي تناولت مواضيع متنوعة، من السياسة إلى الثقافة والفنون.
وتعد "الوقائع المصرية" أول صحيفة رسمية محلية في مصر، حيث صدر عددها الأول في جمادى الأولى عام 1344هـ، الموافق 3 ديسمبر 1828. كانت هذه الصحيفة بمثابة مدرسة لأدباء الشرق عامة، وللمفكرين المصريين بشكل خاص، حيث ساهمت في نشر الوعي والثقافة.
ورغم مرور ما يقرب من 181 عامًا على إصدار "الوقائع المصرية"، إلا أنها لا تزال تحمل في طياتها جميع الأحداث والقوانين والقرارات التي تنظم العمل داخل الدولة. ولولا وجودها، لكانت العديد من المعلومات التاريخية والأحداث المهمة قد ضاعت، مما يبرز أهميتها كمصدر تاريخي موثوق.
تعد "الوقائع المصرية" أول صحيفة رسمية محلية في مصر، حيث صدر عددها الأول في جمادى الأولى عام 1344هـ، الموافق 3 كانون الأول/ ديسمبر 1828. وكانت بمثابة مدرسة لأدباء الشرق عامة، وللمفكرين المصريين بشكل خاص
ويشير منصور، إلى أن الحركة الصحفية في مصر بدأت تتطور بسرعة كبيرة، مع ظهور أسماء لامعة في هذا المجال مثل "الأهرام" و"المؤيد". وقد ساهمت مطبعة بولاق بشكل كبير في هذا التطور، حيث قامت بطباعة صحف مثل صحيفة “وادي النيل”.
كما نُشير إلى وثيقة من دار الكتب تفيد بأن بشارة تقلا مؤسس جريدة "الأهرام"، أرسل خطابًا رسميًا إلى رئيس مجلس الوزراء للحصول على أحرف مطبعة بولاق لطباعة الجريدة.
كان تقلا يعتقد أن مطبعة بولاق تمثل نموذجًا يحتذى به، وأن حروفها هي الأفضل في ذلك الوقت، نظرًا لأن المطبعة كانت تتخلص بشكل دوري من الحروف القديمة وتستبدلها بأخرى جديدة، مما يضمن جودة الطباعة ودقتها.
"شهدت صناعة الطباعة في مصر تحولًا تكنولوجيًا كبيرًا مع مرور الوقت. في القرن العشرين، بدأ استخدام الماكينات الحديثة والآلات المتطورة، مما زاد من كفاءة الإنتاج ورفع جودة المطبوعات".
يروي لرصيف22 الدكتور جورج نوبار، عميد كلية الفنون التطبيقية جامعة بدر، وأول أستاذ للمطبعة الإلكترونية في مصر، عن تطور الطباعة، يقول: "على مر الزمن، مرت الطباعة بمراحل عديدة؛ بدأت بالطباعة البارزة، ومع مرور الوقت ظهرت تقنيات جديدة مثل الأوفست، حتى وصلنا اليوم إلى عصر التقنية الرقمية. ويضيف: “مصر كانت من الدول السباقة في هذا المجال، وقد تطورت صناعة الطباعة فيها بشكل ملحوظ، وما زلنا نواكب هذا التقدم حتى اليوم".
ويستطرد: "أصبحت الطباعة تخدم مجالات عديدة، من أهمها مجال التغليف. فعلى الرغم من تحول الكتب والصحف الورقية إلى نسخ إلكترونية، يبقى التغليف من المجالات التي يصعب أن تكون إلكترونية. والطلب على التغليف زاد بشكل كبير، مما أدى إلى ازدهار مطابع التغليف وتوسعها بشكل ملحوظ، مما جعل هذا المجال خصبًا لتطور الطباعة، خاصةً في مصر".
ومؤخراً، ظهرت خدمة جديدة تسمح بالطباعة بمعلومات متغيرة لكل شخص حسب اهتماماته، والمعروفة باسم "الصحيفة المخصصة" (Personalized Newspaper). لم يعد هناك ضرورة لأن تكون الجريدة واحدة لجميع القراء؛ بل يمكن لكل قارئ أن يختار الموضوعات التي يهتم بها، وتُطبع له نسخة خاصة تحتوي على ما يريد قراءته. ورغم أن هذه التقنية لا تُستخدم بشكل واسع في مصر حاليًا، فإنها متاحة ولديها القدرة على جذب القراء من جديد.
ويُذكر عميد كلية الفنون التطبيقية، أن "من الأفكار المماثلة التي نُفذت في مكتبة الإسكندرية هي طباعة الكتاب فقط عند طلبه من القارئ، مما يلغي الحاجة إلى التخزين والمرتجعات، ويتيح تجربة مميزة لمحبي الكتب".
"تقلبات سعر الصرف واستيراد الورق من الخارج أبرز التحديات التي تواجه صناعة الطباعة في مصر"
ويشير جورج إلى أن "صناعة الطباعة اليوم تواجه العديد من التحديات، وأكبرها هو المرحلة الانتقالية الناتجة عن تقلبات سعر الصرف. وتعمل الدولة حاليًا على تعزيز الإنتاج المحلي للمواد الخام، مثل الورق والحبر، حيث لدينا مصانع متعددة، ولكننا لا ننتج الكثير من أنواع الورق محليًا، مؤكدًا أنها تعد أولوية ملحة، إذ يجب التنسيق بين القطاعين العام والخاص لجذب الاستثمارات الخارجية، ومن الضروري أن يتم تصنيع جميع أنواع الورق في مصر، مما يعزز توطين الصناعة المحلية ويضمن استدامتها في مواجهة التحديات الحالية".
وعلى الرغم من أن الشباب أصبحوا أحيانًا أقل اهتمامًا بالكتب الورقية، مفضلين الوسائط الرقمية، يبقى دور المطابع أساسيًا للحفاظ على الهوية الثقافية المصرية.
ويختتم الدكتور جورج: "يظل التحدي الأكبر اليوم هو كيفية التكيف مع التحولات السريعة في التكنولوجيا، بينما نحتفظ بجوهر ما يجعلنا مصريين، بينما تستمر المطابع في إضاءة الطريق نحو المعرفة، يبقى الأمل معقودًا على جيل جديد يحمل شعلة الثقافة ويرتقي بها نحو آفاق جديدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 5 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 15 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع