شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
حين قال الخديوي ليعقوب صنّوع:

حين قال الخديوي ليعقوب صنّوع: "اسمع يا موليير"... الرقابة على المسرح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتاريخ

الثلاثاء 26 سبتمبر 202311:29 ص

توّجت الثورة الفرنسية بشعارات "الحرية، المساواة والإخاء"، ورغم هذا سنّت قانوناً للرقابة المسرحية في فرنسا منذ عام 1790، وهو القانون الذى تقرّر في مصر مع مجيء حملتهم عليها، فلم يكن "المسرح الممنوع" أو الرقابة المسرحية، وليدة عصر الحداثة الذي بدأ من ستينيات القرن الماضي وما بعده، فبعكس ما هو شائع، كانت الرقابة المسرحية قد بدأت فى مصر مع مجيء الحملة الفرنسية إليها.

البداية من"باب الهوى"

يذكر لنا الجبرتي فى تاريخه، أول إشارة لوجود المسرح المصري بشكله الحديث قبل عام 1800، وفيه يحكي عن إنشاء جنود الحملة الفرنسية لمسرح خاص بهم، يُسمح لبعض الأعيان والمؤيدين للحملة بدخوله بتذاكر كما هو النظام الآن، فيقول: "أنشأه بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهوى، وهو المسمى في لغتهم بالكمدي، وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشر ليال ليلةً واحدة، يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي مقدار أربع ساعات بلغتهم، ولا يدحل إليه أحد إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة"، وفى هذه الفترة وقبلها بقليل، وُجد فى مصر ما يُعرف بالمسرح الديني، وهذا المسرح هو ما فُرضت عليه الرقابة في البداية بأمر من الجنرال العام للحملة كليبر، وليس المسرحيات الأجنبية.

تحكي مسرحية "الضرتين" عن معارضة ظاهرة تعدّد الزوجات، وهو موضوع لم يعجب الخديوي إسماعيل  حينها، وكان يُطلق على يعقوب صنّوع "موليير مصر"، وبعدما انتهت المسرحية التي أغضبته، استدعاه وقال له: "اسمع يا موليير، إن لم تكن من صلابة العود بحيث ترضى أكثر من زوجة، فلا ينبغى أن تثير نفور الآخرين"

وقد قرّر الجنرال حينها إنشاء لجنة لتقيم الوضع القائم فى مصر من شتى النواحي، ومنها تقديم التقارير الخاصة بالآداب العامة والفنون. لكن المهم في هذا القرار ما يخصّ ضرورة تقديم تفصيلات دقيقة للجنرال، عن النواحي الفنية الخاصة بالمسرح الديني والمدني المصري، والغرض من هذه التقارير كان منع المسرحيين المصريين من إقامة عروض تثير الحماسة الوطنية والدينية ضد الحملة.

بعدها ورثت أسرة محمد نظام الرقابة من الأوروبيين، من ضمن ما ورثته فى سبيل تحديث مصر. وفي دراسته"الرقابة والمسرح المرفوض"، يقول الدكتور سيد علي إسماعيل، إنه لما كثرت الفرق المسرحية الأوروبية فى مصر، خاصة الفرنسية والإيطالية، من ضمن الجاليات التي استعان بهم محمد علي لتحديث مصر، كانت كل جالية من تلك ترعى عدداً من الفرق التمثيلية فى مصر، ما أدى إلى التنافس والتشاجر بين هذه الفرق، فأمر محمد علي حينها، كلوت بك، أن يوجه خطاباً دورياً إلى القنصليات الأجنبية وفرق التمثيل، مفادها تنظيم العلاقة بين الفنانين والجمهور. وهو الأمر الذي نفذه كلوت بك، وأرسل خطابات حدّد فيها الآداب العامة فى الأداء التمثيلي، وآداب حضور الجمهور للمسرحيات، مثل منع التدخين ومنع سب الجمهور للممثلين، والعقوبة بالحرمان من دخول التياترو للمتفرّج إذا تجاوز آداب الحضور أكثر من مرة.

"الضرّتين" أول مسرحية منعت رقابياً

تأسس أول جهاز رقابي نظامي رسمي في عهد الخديوي محمد توفيق، تحت اسم "حفظ التياتيرات وتشغيلها"، وذلك في عام 1879، إلا أن أول مسرحية مُنعت من العرض كانت في عهد أبيه، الخديوي إسماعيل.

كان الخديوي إسماعيل مهتماً كمحمد علي بتحديث مصر، وشغوفاً بالعلوم والفنون، وكان المسرحيون الموجودون في مصر، يعرضون الكثير من أعمالهم على المسرح الخاص بقصر الخديوي، الأمر الذي كان بمثابة الترخيص بعرض هذه الأعمال، ومن ضمن هؤلاء كان المسرحي يعقوب صنّوع، والذي قدم في بدايات عمله المسرحي بمصر، ثلاث مسرحيات على مسرح قصر الخديوي: "غندور مصر، البنت العصرية، والضرتين" والمسرحية الأخيرة هي التي مُنعت بأمر الخديوي، ربما بشكل غير مباشر، كأصدار أمر منع كتابي مثلاً، لكن حينها كانت إشارة ومزاج الخديوي فيما يسمع ويشاهد بمثابة الأمر القاطع.

تحكي المسرحية الممنوعة عن معارضة ظاهرة تعدّد الزوجات، والذي يُعدّ مصدر الصراعات وسبب الجرائم في العائلات، وهو موضوع لم يعجب الخديوي حينها. وقد كان الخديوي إسماعيل يُطلق على يعقوب صنّوع "موليير مصر"، وبعدما انتهت المسرحية التي أغضبته، استدعاه وقال له: "اسمع يا موليير، إن لم تكن من صلابة العود بحيث ترضى أكثر من زوجة، فلا ينبغى أن تثير نفور الآخرين"، وعندها سحب صنوع روايته من المسرح، ولم يعدها مرة أخرى مخافة على بقية المسيرة المسرحية. ورغم احتراز صنوع حينها إلا أن مسرحية "الضرتين" لم تكن الأخيرة الممنوعة.

تعدّدت أسباب المنع للأعمال المسرحية المصرية، وسواء كانت الأسباب سياسية أو اجتماعية أو دينية، إلا أن كل هذه الموانع صيغت في النهاية لتحجيم الأفكار التي تهدّد أصحاب المصلحة وتزعزع استقرارهم، حتى تعدت الأسباب إلى المنع بالتأويل، لكن من أهم الأسباب التي مُنعت من أجلها الأعمال المسرحية هي الأسباب السياسية والدينية.

"الآلهة غضبى"



ذكر الأكاديمي والمسرحي سيد علي، في كتابه "الرقابة والمسرح المرفوض" نماذج عدة من المسرحيات المرفوضة رقابياً، قديماً وحديثاً، ومن ضمنها مسرحية بعنوان "الآلهة غضبى، 1968" وجاء في أسباب الرفض الرقابي نصاً: "إن المسرحية ضد مصالح الدولة العليا. لما فيها من إسقاطات تساعد على البلبلة الفكرية وتبيّن أن الحاكم يريد التخلص من طبقة المتعلمين، لأنهم يشكلون خطراً عليه وعلى حياته"، وقد كانت المسرحية بالفعل إسقاطاً على هزيمة 5 يونيو 1967.

المسرحية تأليف بهيج إسماعيل، وتدور أحداثها حول حاكم جزيرة مجهولة ويلقب بـ "ظل الآلهة على الجزيرة"، وكان الحاكم سعيداً بأنه يحكم شعباً جاهلاً لايعترض، حتى جاءه الحكيم يوماً وأبلغه أن الأرض ستهتز وتبتلع الناس الذين بدورهم تجمعوا حوله ليجد لهم حلاً، فاقترح عليهم أن تقدم كل قبيلة منهم ثلاثة أفراد كقربان للآلهة الغضبى، ولما لم يفلح هذا الحلّ طالبه الشعب بالتقدم هو نفسه كقربان، وحينها ارتعد الحاكم خوفاً، وسأل الحكيم عن السبب الذي جعل الشعب يبدأ بالتفكير الآن؟ فأجابه الحكيم بأن المفكرين الخبثاء الذين استمدوا علمهم من خارج الجزيرة هم السبب، ما جعل الحاكم يطالب الشعب بتقديم الخبثاء كقربان، وبالفعل وافقوا على أن يقدّم أبناءه معهم لأنهم من ضمن الخبثاء، ولما دارت الأحداث واشتدت وطأة الضغط من الشعب بتحريض الخبثاء، انتحر الحاكم.

وقد ذكر سيد على إسماعيل في دراسة أخرى عن المسرح التقريري أو التسجيلي، أن هناك مسرحية بعنوان "أدهم باشا" منعتها السلطات، لأنها أدت إلى مشاجرات ومصابين بين الممثلين وبين الجمهور اليوناني في مصر، بعدما كانت المسرحية تعرض رواية تحكي فيها على هزيمة اليونان على يد الأتراك في حرب بينهم.

وفي العقد الأول من القرن العشرين، مُنعت مسرحية لحسن مرعي بعنوان"حادثة دنشواي أو صيد الحمام" والتي مثّلت إعدام المصرين في حادثة دنشواي، وقد أثارت هذه المسرحية انفعال وحمية المشاهدين بما حدث للمصريين في دنشواي من ظلم، فمنعت السلطات المصرية المسرحية من العرض.

من أهم المسرحيات التي منعت ولا تزال ممنوعة لأسباب دينية، مسرحية "ثأر الله"، من تأليف عبد الرحمن الشرقاوي، وقد منع الأزهر في بداية السبعينيات عرض هذه المسرحية التي كانت من إخراج كرم مطاوع وبطولة عبدالله غيث، وذلك بحجة عدم جواز تجسيم الحسين بن علي

"ثأر الله" مسرحية البروفة فقط

من أهم المسرحيات التي منعت ولا تزال ممنوعة لأسباب دينية، مسرحية "ثأر الله"، من تأليف عبد الرحمن الشرقاوي، وقد منع الأزهر في بداية السبعينيات عرض هذه المسرحية التي كانت من إخراج كرم مطاوع وبطولة عبدالله غيث، وذلك بحجة عدم جواز تجسيم الحسين بن علي، وظلت هذه المسرحية تعرض لمدة ثلاثين يوماً كبروفة فقط، لم يفتح شباك التذاكر أمام الجمهور. المسرحية التي تتناول رفض الحسين بن علي بن أبي طالب لمبايعة يزيد بن معاوية سنة 60 هجري، وتطور الأمر حتى حوصر وقتل في كربلاء بالعراق. وهناك بعض المقاطع لبروفات المسرحية موجودة على موقع اليوتيوب.

لاشك أن وجود هيئة رقابية لمنع الأعمال الفنية مأساة، لكن ثمة مأساة أفدح وهي اختيار الرقيب المنوط به المنح والمنع لهذه الأعمال. ففي الغالب يكون ذلك الشخص لا يمتلك من التعليم والثقافة ما يؤهله للعمل في مكان بهذه الخطورة، بالإضافة إلى أنه عادة مايكون موظفاً حكومياً يعمل بناء على لائحة منع مسبقة كنموذج، وبما أن الرقيب يكون موظفاً فدائماً ما يخشى ويحاول البقاء في عمله بقدر الإمكان، فيحاول العمل بكل كفاءة، والتي تكون، من وجهة نظره، منعاً أكثر للنصوص.

بالإضافة إلى أن اللوائح التي تعمل بها الهيئة الرقابية الموضوعة منذ خمسينيات القرن الماضي، ولا تزال على حالها، وهي المعمول بها حتى الآن بعد كل هذه العقود. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image