يختلف أنصار ترامب عن خصومه في الرأي في كل شيء تقريباً، لكنهما يتفقان على اعتبار ترامب أيقونة معروفة وظاهرة عالمية، والسبب أن شكله وطريقة كلامه وتصريحاته عناصر يسهل التعرف عليها وتمييزها، ولهذا كان محلّ تقليد من قِبل نجوم الاسكتشات والكوميديا، وكان ضيفاً دائماً في عالم "الميمز" والنكات على السوشال ميديا.
صورة طريفة ومتداولة مثل صورة قط بوجه وشعر ترامب مثلاً تدفع للتساؤل: هل يوجد رئيس أمريكي آخر، بخلاف ترامب، يمكن للملايين تمييزه فوراً من شعره ليس إلا؟!
صورة قط بملامح وشعر ترامب.
يمنح ترامب بهذه التركيبة الطرفين، أنصاره وخصومه، أرضية خصبة في عالم السوشال ميديا، يستخدمها أنصاره للسخرية من خصومه، ويستخدمها خصومه للسخرية منه ومن أنصاره، وفي الحالتين يبقى ترامب ضيفاً دائماً بشكل شبه يومي على شاشات الهواتف للجميع.
يحاول صناع فيلم المتدرّب The Apprentice الإفلات من تكرار المحتوى الخاص بترامب، عبر ثلاثة محاور مميزة، أولها أن يكون فيلماً عن ترامب الشاب لا الرئيس والسياسي العجوز، وأن يبتعد عن الطابع الكوميدي الساخر المكرّر، وأن يقدم سيباستيان ستان شخصيته بأسلوب جديد
بسبب هذا الكم من الحضور الإعلامي والبصري لترامب نفسه، أو للأخبار والمواد المتعلقة به، وبسبب طبيعته وآرائه المثيرة للجدل، ظلّ ترامب بعيداً عن شاشات الدراما الجادة، من منطلق أنه إذا كان الأصل مثيراً للجدل وبطابع كاريكاتيري من حيث الشكل والصوت والسلوكيات، فما الذي يمكن لفيلم أو مسلسل درامي جاد أن يضيفه ويثير اهتمام الجمهور؟
في هذا الإطار، يحاول صناع فيلم الدراما "المتدرّب" أو The Apprentice الإفلات من تكرار المحتوى الخاص بترامب، بمنح الفيلم ثلاثة محاور تميّز رئيسية، أولها أن يكون فيلماً عن ترامب فترة شبابه وليس عن سياساته كرئيس وسياسي عجوز. وثانيها أن يبتعد الفيلم عن الطابع الكوميدي الساخر المباشر عن ترامب المتكرِّر في المواد التليفزيونية. وثالثها أن يقدم الممثل سيباستيان ستان دور ترامب، دون اعتماد طريقة التقليد الكاريكاتيري المعتادة، بل بطريقة مختلفة تبحث عن جوهر لترامب بدلاً من مظهره.
يخدم كل محور من الثلاثة المحورين الآخرين، فاختيار تقديم حياة ترامب فترة شبابه من أوائل عقد السبعينيات حتى عام 1987 عندما نجح في أن يفرض اسمه على سوق الاستثمارات العقارية في نيويورك، وتحوّل إلى نجم في عالم رجال الأعمال، إجراء يمنح الجمهور مبدئياً مساراً منعشاً ومختلفاً عن كل ما يعرفه ويتابعه يومياً عن ترامب السياسي المعاصر، ويأتي الإطار والطابع البصري المختلف للسبعينيات ليدعم عنصر "الطزاجة" أكثر وأكثر.
تصوير السبعينات بصرياً في فيلم The Apprentice.
والتناول العام والأداء التمثيلي الجاد البعيد عن التقليد الكاريكاتيري المعتاد لترامب، يرسّخ أكثر وأكثر هذه اللمسة، ليصبح إيحاء أن الفيلم يتناول ترامب آخر، قديم، لا يعرفه الجمهور، نتج عنه ترامب المعاصر الذي يعرفه الجميع، أقوى.
عنوان الفيلم نفسه "المتدرّب"، يسير على النهج نفسه. فهو من ناحية اسم برنامج تلفزيوني معروف لدى الجمهور الأمريكي، استمر ترامب في تقديمه من عام 2004 حتى عام 2015، ومن ناحية أخرى هو الوصف الذي يوجز حالة ترامب في الفيلم، كمتدرّب يتعلّم من أستاذ، بفضل اختيار السيناريست غابرييل شيرمان والمخرج الإيراني الأصل علي عباسي علاقة العمل والمصالح بين ترامب الشاب والمحامي روي كوين كمحطة ميلاد ترامب الحقيقية، ونقطة التحوّل التي تعلّم ترامب بفضلها الكثير، وصاغت لاحقاً كل قناعاته وأخلاقياته، ليصبح مطابقاً للصورة التي تطرحها ميديا اليسار عنه حالياً بانتظام - نرجسي واستغلالي وعنصري وكاذب وفارغ ومتلاعب بالآخرين.
على اليمين جيرمي سترونج في دور روى كوين.
بهذه الطريقة الأقل مباشرة والأكثر ذكاءً من الأسلوب المعتاد في صياغة ترامب كـ"مسخ شرير"، كان من الممكن أن يحقق الفيلم أهدافاً اضافية انتظرها كثيرون، وأن يصبح حلقة مهمة من الدعاية المضادة لترامب في موسم الانتخابات، لكن الفيلم يفقد كدراما مصداقيته وقدرته على الإقناع، ويسقط من وقت لآخر في فخ التسطيح.
تُقدّم الأحداث في مقطع مثلاً ترامب وهو يقترح صفقة كبرى ويعد كذباً ودون أي تخطيط مسبق أقرانه المستثمرين إذا وافقوا على مساندته في الصفقة، بالحصول على دعم حكومي قيمته عشرات الملايين، ثم يحاول لاحقاً إصلاح كذبته التي قالها بعشوائية، بالبحث عن مسار ما للحصول على الدعم الضريبي الحكومي المطلوب.
يطرح هذا المقطع وغيره رؤية يسارية طفولية ساذجة متكررة في كثير من الأعمال الفنية عن عالم البيزنس، حيث كل شيء عشوائي وبسيط وسهل، ويمكن حسمه بكذبة أو رشوة أو تهديد، لكن حتى الفساد في مناخ تنافسي معقّد مثل المناخ الأمريكي، يحتاج حتماً إلى ذكاء وتنظيم وتخطيط. لا يمكن النجاح دون هذه العناصر، ولو كانت الأمور بهذه السهولة لنجح الآلاف.
يوجد فارق درامي كبير بين تقديم ترامب كشخص فاسد أو متلاعب، وبين تقديم عالم البيزنس كله كملعب سهل وتافه، لا يحتاج فيه اللاعب إلا كذبة أو اثنتين بعشوائية في كل صفقة ليحقّق نجاحات استثنائية ويواصل الصعود. ثمة فارق بين تقديم الكذب والرشوة والابتزاز كجزء محوري من عالم الفساد المنظم أو كصفة ملازمة للبطل، وبين تقديمهم كشيء بسيط يسهل على أي طفل ساذج تنفيذه.
سيستمر الاختلاف في الآراء حول ترامب ودرجة شيطنته، لكن خصوم وأنصار ترامب، على السواء، يستحقون أعمال درامية أكثر نضجاً في نقده من فيلم "المتدّرب" من حيث النظرة إليه وإلى الخلفيات التي جاء منها ربما بعد وضع كل ما يخصّه على مائدة التشريح بهدوء وتأمل، دون تحديد نتائج مُسبقة للفحص
قد يكون هذا الخطأ نفسه الذي ارتكبه اليسار دوماً بخصوص ترامب. فالرغبة في إسقاطه تنتهي دوماً بنظرة غير موضوعية إليه كشخص تافه وفاشل وغبي وغير قادر على إتمام أي شيء، بينما يخبرنا الواقع أن هذا الـ"ترامب" نفسه شقّ طريقه للصعود في عالم البيزنس والميديا قبل السياسة، ونجح مرتين في هزيمة اليسار الأمريكي في الانتخابات، والفوز بمنصب الرئاسة، رغم كل محاولات الميديا اليسارية لإيقافه وتشويه صورته. بل يرى البعض أنه في الحقيقة نجح في المرتين، بفضل محاولات الميديا اليسارية وصمِهِ بصورة غير مقنعة.
سيستمر الاختلاف في الآراء حول ترامب ودرجة شيطنته، لكن خصوم ترامب وأنصاره على السواء، يستحقان أعمالاً درامية أكثر نضجاً في نقده من فيلم "المتدّرب" من حيث النظرة إليه وإلى الخلفيات التي جاء منها، وربما يكفل الزمن بعد عقود من الآن تقديم ذلك فعلاً في أعمال فنية أكثر جودة، عندما ينظر الجميع بمنظور الماضي لترامب وليس بمنظور الاستقطاب والتنافس السياسي الساخن المعاصر بين اليسار واليمين، ويضع الغالبية كل شيء يخص ترامب ونتائج فترات حكمه على مائدة التشريح بهدوء وتأمل دون تحديد نتائج مُسبقة للفحص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...