ثمة انطباع بأن مسيحيي لبنان يتعاطفون على نطاق واسع مع اليمين القومي المتطرف الفرنسي، بزعامة مارين لوبان، ومع التيار اليميني المتطرف الذي يمثّله دونالد ترامب، في الولايات المتحدة الأمريكية.
لا إحصائيات رسميةً تتيح التدقيق في ذلك. لكن الحديث المباشر مع الناس ورصد منصات التواصل الاجتماعي الرقمية أو تصريحات بعض المؤثرين المزعومين، يُظهران ميلاً واضحاً، لا يمكن التقليل من شأنه، إلى التماهي والتماثل مع تيارات وشخصيات كهذه؛ قوى ترفض القيم الليبرالية، وثقافة الانفتاح على الآخر، والتعددية الثقافية، وتدعو إلى مكافحة الهجرة، والدفاع عن الحدود الوطنية، وتدافع عن السيادة وتعارض المنظمات الدولية فوق-الوطنية، وتتمسك بالثقافة المحافظة والقيم التقليدية ودور الأسرة والدين، وتشدد على أهمية التجانس الاجتماعي.
رهان على اليمين المتطرف
لم يخفِ كثيرون مشاعر حزنهم على خسارة حزب لوبان، "التجمع القومي"، في الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية، في 7 تموز/ يوليو 2024، بعد فرحتهم بانتصار هذا الحزب في الانتخابات البرلمانية الأوروبية في فرنسا بين 6 و9 حزيران/ يونيو 2024. كانت الغصّة تملأ قلوبهم، وهم يتحدثون ويعترفون بأنهم كانوا يراهنون على انتصار اليمين المتطرف.
لتماهي مسيحيين لبنانيين مع لوبان وترامب تفسيرات متعددة. فهو يعكس من جهة، هاجس الأقليات في منطقة المشرق، ويندرج، من جهة ثانية، في خانة الشوفينية والتعصب. ماذا أيضاً؟
جولة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي الرقمي، تكفي لملاحظة مدى قوة رهان كهذا لدى البعض. مثلاً، صفحة "جنود الرب" (وهي مجموعة متطرفة ظهرت في السنوات الماضية)، على منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، هللت لفوز حزب لوبان في الانتخابات الأوروبية: "أقصى اليمين يفوز بالانتخابات الأوروبية ومارين لوبان تعلن استعدادها لتولّي السلطة في فرنسا… التغييرات، (استعدّوا)". ويعكس تعليق أحد المواطنين على فيسبوك، رغبةً قويةً في انتصار حزب لوبان في الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية: "الرب يسوع و(السيدة) العذراء (مريم) والقديسون معك وبإذن الله اليوم (سوف) ينتصر أقصى اليمين المسيحي في فرنسا على الشرّ".
لاحقاً، يشير تعليق آخر إلى أن دعم اليسار للمهاجرين واللاجئين في فرنسا، "قد يؤدي إلى تغيير الهوية الفرنسية"، مع أنه يلفت في الوقت نفسه إلى أن "(العنصر) الإيجابي الوحيد (في فوز اليسار في فرنسا، هو موقف هذا الفريق الإيجابي من القضية الفلسطينية واستنكاره جرائم إسرائيل وتأييده الاعتراف بدولة فلسطين". ثم يضيف أن اليسار سيساهم في إبعاد "فرنسا عن القيم المسيحية الكاثوليكية، وسينحرف نحو العلمانية الشاملة والإلحاد، داعماً بذلك حقوق المثليّين والشاذّين والمتحوّلين ومؤيداً الإجهاض".
كذلك علّقت صفحة "جنود الرب" على فيسبوك، على محاولة اغتيال دونالد ترامب، في 13 تموز/ يوليو 2024، بالقول إن هذه المحاولة تمّت "على يد أعداء الإنسانية"، لتضيف في تعليق آخر: "معنا هو الله، فاعلموا أيّها الأمم وانهزموا... لأن الله معنا اسمعوا إلى أقصى الأرض... لأن الله معنا أيّها الأقوياء انغلبوا... لأن الله معنا لأنّكم ولو قويتم، فستنغلبون أيضاً... لأن الله معنا". هذه العيّنة الصغيرة لا تعبّر عن رأي مجموعة أقلية في لبنان، بل عن رأي عام لا يمكن تجاهله.
صحيح أن تحالف اليمين المتطرف الفرنسي خاب أمله من نتائج الاقتراع في بيروت، في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، في 30 حزيران/ يونيو 2024، وذلك لأن مرشحه عن الدائرة العاشرة للفرنسيين في الخارج، جان دوفيرون (Jean De Veron)، حلّ في المرتبة الرابعة بحصوله على 17.99% من الأصوات في لبنان، بعد الفائز الأول، مرشح حزب الجمهوريين اليميني (26.46%)، يليه مرشح "الجبهة الشعبية الجديد" اليسارية (26.16%)، تليه مرشحة الائتلاف الحاكم (22.44%). لكن هذا لا ينفي أن نسبة التعاطف مع اليمين المتطرف مرتفعة في أوساط اللبنانيين، خاصةً المسيحيين منهم.
دوافع مختلفة
لهذا التماهي مع لوبان وترامب تفسيرات متعددة. فهو يعكس من جهة، هاجس الأقليات في منطقة المشرق، ويندرج، من جهة ثانية، في خانة الشوفينية والتعصب. ثمة من ينظر إلى ظاهرة تأييد شخصيات مثل ترامب ولوبان، بوصفها ظاهرةً تتغذى من نزعة الكراهية ضد المسلمين والأجانب. لكن في المقابل، هناك من يرى أن الخوف من تأثير تصرفات المتطرفين الإسلامويين، خصوصاً أن آثار ظاهرة "داعش" لا تزال قائمةً، هو الذي يدفع عدداً كبيراً من مسيحيي لبنان والشرق الأوسط عموماً إلى التعاطف والتماهي مع اليمين المتطرف والشعبوي في الغرب.
عندما كانت النازية في ذروتها، خلال الحرب العالمية الثانية، تلقّت البطريركية المارونية في لبنان، رسالةً تحذيريةً أمريكيةً واضحةً ضد التماهي مع حكومة "فيشي" الفرنسية، حليفة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. كانت واشنطن قلقةً للغاية من استخدام مطارات عسكرية في سوريا ولبنان
هكذا، تختلط الدوافع مع بعضها البعض، لكنها تؤدي إلى نتيجة واحدة؛ التقارب مع الغرب الذي لطالما دافع عنه مسيحيو لبنان، والذي لا يبدو اليوم تقارباً مع الغرب الليبرالي، غرب التعددية الثقافية، والغرب المنفتح على الآخر، بقدر ما هو تقارب مع الغرب المحافظ، غرب القوميات والعنصرية، والغرب المفرط في كراهية الأجانب. وهذا الاتجاه يتناقض مع الدور التاريخي التقدّمي الذي لعبه مسيحيو لبنان دفاعاً عن العالم الحرّ والليبرالية.
دروس التاريخ
عندما كانت النازية في ذروتها، خلال الحرب العالمية الثانية، تلقّت البطريركية المارونية في لبنان، رسالةً تحذيريةً أمريكيةً واضحةً ضد التماهي مع حكومة "فيشي" الفرنسية، حليفة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. كانت واشنطن قلقةً للغاية من سماح حكومة "فيشي" للمقاتلات الألمانية باستخدام مطارات عسكرية في سوريا ولبنان من أجل دعم الثورة العراقية ضد بريطانيا، في العام 1941، بحسب دراسة للأكاديمي أنطوان حكيّم، نشرها في مجلة (Cahiers de la Méditerranée)، باللغة الفرنسية، سنة 1994.
هكذا، في أيار/ مايو 1941، زار القنصل الأمريكي في بيروت، كورنيليوس فان إنغرت (Cornelius Van H. Engert)، البطريرك الماروني آنذاك بطرس عريضة، وأبلغه أن من مصلحة المسيحيين، والموارنة خصوصاً، دعم أي عملية عسكرية هدفها استئصال التهديد النازي في منطقة الشرق الأوسط، بحسب ما ورد في الرسالة الجامعية للباحثة فاليري-هيلين أزهري (Valérie-Hélène Azhari)، حول "السياسة الفرنسية في لبنان خلال الحرب العالمية الثانية"، في معهد العلوم السياسية في باريس، سنة 2003.
كان هذا الموقف بمثابة غطاء أمريكي لعملية عسكرية بقيادة بريطانية بين أيار/ مايو وتموز/ يوليو 1941، شاركت فيها قوات "فرنسا الحرّة" أيضاً، ضد الجيش الفرنسي التابع لحكومة "فيشي" في سوريا ولبنان، قطعت الطريق على محاولات تعزيز نفوذ ألمانيا النازية في المنطقة، لكنها أدّت أيضاً إلى إضعاف النفوذ الفرنسي في لبنان وسوريا. حينها، أدرك المسيحيون الموارنة أن القوة الأمريكية ستكون قوةً مهيمنةً في الغرب، وشعروا بضرورة نسج علاقات معها بعدما أيقنوا عدم قدرتهم على الاعتماد على الحاضنة الفرنسية، لأن قوة فرنسا تآكلت على الساحة الدولية إثر هزيمتها أمام ألمانيا النازية في العام 1940.
دور شارل مالك
التماهي مع أمريكا، منقذة الليبرالية والقيم الكونية في أوروبا والغرب في وجه الهمجية والشوفينية والتمييز العنصري والتفوق العرقي، وَضَع الموارنة ومسيحيي لبنان عموماً، في الموقع نفسه مع حماة الليبرالية في العالم، وهو الموقع النقيض للنازية والفاشية. انعكس ذلك في مساهمة المفكر اللبناني، شارل مالك، في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعية العام لمنظمة الأمم المتحدة في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948.
العالم الذي كان يطمح إلى المساهمة في بناء هذا الإعلان، هو عالم نقيض لما كانت تمثله النازية والفاشية، ولما يمثله اليوم اليمين المتطرف والشعبوي بخطابه المعادي للأجانب والهجرة والمساواة والعولمة. المادة 2 منه، تنص على أن "لكلِّ إنسان حقّ التمتع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة (فيه)، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي، سياسيًاً كان أو غير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر (...)".
التماهي مع أمريكا، منقذة الليبرالية والقيم الكونية في أوروبا والغرب في وجه الهمجية والشوفينية والتمييز العنصري والتفوق العرقي، وَضَع الموارنة ومسيحيي لبنان عموماً، في الموقع نفسه مع حماة الليبرالية في العالم، وهو الموقع النقيض للنازية والفاشية
وتنص المادة 13 منه في فقرتها الثانية، على أن "لكلِّ فرد الحقّ في مغادرة أيِّ بلد، بما في ذلك بلده، وفي العودة إلى بلده"، في حين تؤكد الفقرة الأولى من المادة 14، على أن "لكلِّ فرد حقّ التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتُّع به خلاصاً من الاضطهاد". أما المادة 18 من هذا الإعلان، فتنصّ على أن "لكلِّ شخص حقّاً في حرِّية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة".
توقيع شارل مالك على هذا الإعلان، ترك ليس للبنان فحسب بل للمسيحيين أيضاً، رصيداً معنوياً ثميناً في نادي العالم الليبرالي. وإذا كانت حصيلة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان غير مثالية اليوم، فذلك لأن العبرة في التطبيق. وإنْ كان هناك خطر فعلي على مستقبل هذا الإعلان ومبادئه، فإن السبب يتمثل في بروز التيارات الشعبوية والقوى اليمينية المتطرفة، في فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. فأين مصلحة مسيحيي لبنان والشرق عموماً في التفريط بهذا الرصيد الكوني؟
وإذا كان لهذا الرصيد من دلالة، فهي تتمثل في أن شارل مالك -الذي تشير سيرته الذاتية إلى أنه اضطر إلى مغادرة ألمانيا، حيث كان يدرّس الفلسفة، بعد وصول النازيين إلى الحكم في العام 1933 بسبب المضايقات العنصرية التي عانى منها- أسس لسياسة خارجية لبنانية فاعلة وغير محايدة وبعيدة كل البعد عن حالة اللامبالاة حيال المسائل الإنسانية والدولية العادلة.
انضمام لبنان إلى نادي الأمم، بعد تأسيس الأمم المتحدة، كان انضماماً إلى منظمة دولية تتدخل في المشكلات الدولية من أجل حفظ الأمن والسلم الدوليين، ومن أجل حماية حقوق الإنسان، وتقديم مساعدات إنسانية، وفرض التزام اللاعبين الحكوميين واللاعبين غير الحكوميين بتطبيق القانون الدولي. بالطبع، هذا الالتزام المناقض لسياسة العزلة (Isolationism)، لا يعني أن تتم التضحية بسيادة لبنان واستقراره من أجل قضايا دولية وخارجية، كما حصل في سبعينيات القرن العشرين مع المسألة الفلسطينية. لكن هذا الالتزام يتطلب أن يحافظ لبنان، والمسيحيون خصوصاً، على إرثه العالمي وعلى سمعته بوصفه بلداً، يدافع بقوة عن سيادته بكل تأكيد، لكن أيضاً بوصفه بلداً غير منعزل عن معركة الدفاع عن القيم الليبرالية والانفتاح والتعددية الثقافية والتسامح وتقديم الحماية، في وجه دعاة الكراهية والعنصرية والتفوق العنصري في العالم، وطبعاً عن حق الشعوب في تقرير مصيرها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون