شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لم تخبرني أمي أبداً أن أبي طار أمتاراً

لم تخبرني أمي أبداً أن أبي طار أمتاراً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 15 نوفمبر 202411:07 ص

لم تخبرني أمي أبداً أن أبي طار أمتاراً، حين كان يهم بالعودة إلى منزلنا. كان القصفُ كثيفاً، ولم يكن في المشهد سوى أصوات الانفجارات والضوضاء الثقيلة وأصداء الموت، التي ملأت العالم من حوله. تمدّدت الجثث قربه، وفاحت رائحة الدمّ. تفحصّ أبي رأسه المُدمى وافترش الأرض بعد أن أصبحت الحياة رمادية من حوله. ذابت الكلمات بشكل تدريجيّ. كان أبي يعتقد أن لجميع الحوادث كلمات، كان يعتقد أنّ الكلمات لا تتبدّد، وأنّه يستطيع الصراخ وسط الفاجعة.
ارتمى أبي على الأرضِ، بعيداً عن سيارته الصغيرة، كقطعة من الحطب، بانتظار مجيء أحد، لكنّه، كعادته وقف بجراحه وجرّ جسده وراءه، يواجه مرّة أخرى ما ألف مواجهته في أيّام الحرب الأهلية كجنديّ لبنانيّ.
أخبرتني أمي حين هربتْ مرتعدةً إلى منزل الجيران، مذعورة من الأصوات الضخمة، أنّ أبي وقف أمامها بملامحه الهادئة، وكأنه قد تجاوز كلّ خوف، لكن مع رغبة مستبدّة في العيش. لقد وقف أمام الموت وأزاح عنه القطع القماشية المُبللة بالدماء، وتأكد من أنًّ تلك الثقوب التي أصابت جسده، أمست جزءاً منه، بجانب تلك الحفرة العميقة في فخذه، التي لا تزال شاهدة على قسوة الحرب الأهلية اللبنانية.

في كتابها "الكتاب الأبيض"، تقول هان كانغ إنّ: "هنالك أشياء معيّنة تظلُّ منيعةً أمام القدرة المدمّرة للزمن. وينطبق ذلك على المعاناة!"، وأضيفُ على قولها: وعلى الذكريات أيضاً، التي هطلت ببطء كبلورات من الثلج القاسي على جسدي، مخلّفةً وراءها ندوباً صغيرة من الآلام الصامتة. فحينما أغلقتُ الهاتف بعد حديث طويل مع أمي، شعرتُ أنّ دموعاً كثيرة كانت في طريق سقوطها، لكنّها تحجّرت في عيني، كطبقة رقيقة من الثلج على سطح ماء ساكن. اتجهتُ بدوري إلى مطبخي الواقع في أقذر أحياء إسطنبول، صنعتُ يومها ما يربو عن الاثنتي عشرة كعكة، بعد ان حشوتها بكثير من الكرز والمكسرات، ثمّ ألقيتها جميعاً في حاوية النفايات.

أخبرتني أمي أنّ أبي وقف أمامها بملامحه الهادئة، وأزاح عنه القطع القماشية المُبللة بالدماء، وتأكد من أنًّ تلك الثقوب التي أصابت جسده، أمست جزءاً منه، بجانب تلك الحفرة العميقة في فخذه، التي لا تزال شاهدة على قسوة الحرب الأهلية اللبنانية

مكتبتي التي هُدّمت مرّتين

حملتُ الهاتفُ مرّة أخرى وسألتُ أمّي عن مكتبتي الصغيرة التي تركتها في بيتنا المُتصدّع تحت وطأة الانفجارات، ردّت قائلةً: "لا أعلم ماذا حلّ بالمكتبة". تأملتُ يومها وجهي، لم يكن فيه شحوب، بل فقد كلّ الألوان. هل يكون الموت عادة هكذا؟ شفافاً ومجمداً؟
في الثامنة عشرة من عمري، خلال سنتي الجامعية الأولى في مدينة صيدا، لم يكن في منزلنا سوى بضعة كتب ومجلّات: موسوعتان علميتان، حفظتُ تفاصيلهما عن ظهر قلب، أعدتُ قراءتهما مرّات ومرّات، وطبعة قديمة لمؤلفات جبران خليل جبران، وقصائد مبتذلة لنزار قبّاني لم تلزمني قط، أهديتها لجارتنا، لكنّ سطراً منها بقي محفوراً في ذاكرتي، كنتُ قد كتبته على ورقة، علقتها على الرفّ الأعلى من المكتبة: "ماذا أعطيكِ سوى قدر يرقصُ في كفّ الشيطان؟".
لم تخلُ أرفف مكتبتنا التي توسطت منزلنا، من نسخ متنوعة من "مفاتيح الجنان، والتعاويذ" التي شغلتني منذُ طفولتي لما تحتويه من سحر، كنتُ أظنّه يقيني ليلاً من الأشباح والجنّ وجميع المخلوقات التي كانت تفلتُ من حواسي. كانت مكتبي الواقعة بين غرفة أخي المسكونة بالأشباح والأصوات الغريبة التي اعتدنا أن نسمعها وأن ننسج الحكايات عنها، وبين غرفة نومي، تشكلّ المركز الذي يمسك منزلنا.
بدأتُ ارتياد الجامعة لثلاثة أيام في الأسبوع فقط، جرّاء نقص المال. كنت أركب "الفان" يومي الثلاثاء والخميس، أمّا يوم الاثنين فكنتُ أخصّصه للذهاب بسيارة الأجرة، أقف على قارعة الطريق التي تربط بلدة "الدوير" بـ "أنصار"، عند السابعة صباحاً تماماً، وأتجه إلى مدينة النبطية. هناك، كنتُ أصل بين السابعة والنصف والثامنة، حيث كان سوق الاثنين (النبطية) بانتظاري. مشهد نابض بالحياة، كأن الزمن يختزل نفسه فيه، مزيج من الوجوه والألوان وروائح التوابل التي كانت تذكرني دائماً بأغنية سليمان: "اهدئي أيتها الرياح الشمالية، وتعال أيها النسيم الجنوبيّ، وهب صوب حديقتي كي تزهر أشجار التوابل وتحمل ثمارها".

"خلّصوا الأغاني هني ويغنّوا ع الجنوب، خلّصوا القصايد هنّي ويصفّوا ع الجنوب، خلصّوا القضايا هنّي ويردّوها ع الجنوب، ولا الشهدا قلّوا ولا الشهدا زادوا.."
أولّ كتاب اقتنيتهُ هو "عالم صوفي"، رواية في تاريخ الفلسفة. تفحصتهُ جيداً، قلبتُ صفحاته قليلاً ثمّ رميته في محفظتي. أخرجتُ ما لديّ من نقود، عددتها بإمعان وأعطيتها للبائع. لم أكن أعرف وقتها أنني سأعثر على مكتبة عشوائية قرب النجمة الشرقية، عند نزلة "الديماسي". كان البائع يفرش الكتب كل يوم اثنين على الأرضية، يرميها ثمّ يحتضنها ويعيدُ ضبطها كما لو كانت جوقات شعبية. كان ركنها صغيراً، ومتواضعاً. كنتُ أقف أمامها بهيبة، ألقي التحية على البائع التي باتت ملامحه غائبة عن ذاكرتي، تماماً كاسمه. أتأمّل الكتب بلهفة، أختار منها كتابين وأدسّهما في حقيبتي، ثمّ أواصل طريقي إلى مدينة صيدا.
كنتُ أحرص على العودة باكراً، لأقف مرة أخرى أمام الكتب، ألقي عليها نظرة أخيرة قبل أن أودّعها حتّى الاثنين المُقبل، كما لو أنها مخلوقات حقيقية، نمت بيننا لغة خاصّة تفردت بها، لغة تشبه همساً سريّاً، لا أستطيع اليوم وصفها تماماً. كانت هذه اللحظات تُشعرني وكأنني أتركُ جزءاً مني هناك، لأعود كلّ مرة لألتقيه من جديد.

أميّ التي حرصت يوماً أن تبني لي مكتبة، كانت تتمنى أن تكون هذه الأرفف ملاذاً لدراستي الجادّة. لكنّها على الرغم من ذلك، لم تحبّ الكتب قطّ، بل كانت تأنبني كلما اشتريتُ كتاباً جديداً نهار الاثنين، ووضعته على أحد الرفوف. كانت تكرّر للجيران بقلق: "نور جنّت. إنّها تقرأ ليلاً نهاراً، أحسبُ أنّ الكتب أفسدت عقلها وعينيها". كانت أمي دائماً محاطة بدندنة تصدر منّي. كان لديّ إعجاب خاصّ بتلك الصورة التي قرأتها مرّة عن أثينا القديمة، إذ كان العديد من القرّاء ينشرون ألواح الصلصال أمامهم، أو يفتحون لفائف الكتابة ويدندنون بسيل من الكلام. ذلك أنّ المرء وقتها لم يكن يعتبر الضوضاء ناحية مزعجة، أو ربما كان لا يعرف أنّ القراءة يمكن أن تحدث أيضاً بصمت.
لم أسأل قطّ صاحب مكتبة الطريق عن مصدر كتبه، أو عن موقع مكتبته الحقيقية، لم يكن يهمني حقيقةً، إذ كنتُ أرى أنّ هذه الكتب كائنات حيّة، تنتقل معه من مكان إلى آخر، لتتنفس هواءً جديداً بعيداً عن ظلال الرفوف المُظلمة.
في ذلك السوق كانت الكتب تُعيد تشكيل وجودها، وكانت تشارك أسرارها مع كلّ من يقترب منها. لقد كان سوق الاثنين بمثابة عملية إنقاذ لكتب منسية كمقبرة، ولم أكن أعلم أبداً أنّ هذه الكتب ستُنجب كائناً أصبحتُ عليه الآن. كما تقول إيزابيل الليندي في هذا السياق: "قدّم لي الأدب تعريفاً عن نفسي. كلمة كلمة وصفحة صفحة، لقد ابتكرتُ نفسي الجامحة المتوهجة".

لم أسأل قطّ صاحب مكتبة الطريق عن مصدر كتبه، أو عن موقع مكتبته الحقيقية، لم يكن يهمني حقيقةً، إذ كنتُ أرى أنّ هذه الكتب كائنات حيّة، تنتقل معه من مكان إلى آخر، لتتنفس هواءً جديداً بعيداً عن ظلال الرفوف المُظلمة

اختراع الحكايات

كعادتها في بداية كلّ شهر، كانت أمي تصحبني إلى سوق الاثنين، تحديداً إلى محل "مشعل للتوابل"، لتبتاع منه حاجتها. كانت مولعة بالتوابل، وأعتقد أنّ جميع النساء في بلداننا تستخدمن كميات وافرة منها في تحضير أطباقهنّ. وقرأتُ ذات مرةً أنّ المؤرخ اليوناني الشهير "هيرودوتس"، كتب عن القرفة التي اكتشفها الفينيقيون وادّعوا أنّ الطيور هي التي جلبتها إلى الجزيرة العربية، إذ كانت تحملها إلى أعشاشها على حواف الجبال.

وللحصول على القرفة، كان العرب يقطعون جثث حيوانات ضخمة، ثمّ يضعونها قرب العشّ، وما إن تحمل الطيور اللحوم إلى أعشاشها، حتى تثقل الأعشاش بوزن اللحم وتنكسر، فتتساقط عيدان القرفة إلى أسفل الجبل، فيهرع العرب لالتقاطها.
وقرأتُ أيضاً، عن واد يُدعى "وادي كبش القرنفل"، الذي لم تطأه أقدام أي من التجار أو البحّارة، إذ لم يتمكن أحد من الذهاب لرؤية شجرة القرنفل التي تنمو فيه، عدا الجان، وحدهم الذي كانوا يتاجرون بثماره. فقد كان التجّار يرسون على الشاطئ، يضعون بضاعتهم وأغراضهم هناك، ثمّ ينتظرون حتّى صباح اليوم التالي، ليجدون أكياساً من كبش القرنفل موضوعة قرب متاعهم، وكأنها ظهرت بفضل الجان.
ويقال إنّ مذاق كبش القرنفل عندما يكون طازجاً يكون لذيذاً، وإنّ السكان قرب ذلك الوادي، اعتادوا على تناوله، مما جعلهم محصنين من الأمراض. أذهلتني هذه الحكاية، فقد تذكرتُ أمّي التي دأبت على وضع حبات من كبش القرنفل كلّ يوم في فمها، معتقدةً بأنّ هذه الحبّات تمنحها عافيةً لا يطالها الزمن.

في إحدى المرات، سردتُ هذه الحكايات على مسامعهم داخل محل التوابل، فابتسم صاحب المحل، بينما طردتني أمي من شدة خجلها، قائلةً له: "لا تواخذنا… بنتي بتحب المزح". وكما جرت العادة، كنتُ أنتظرها خارج متجر مشعل، أجوب ببطء أزقة سوق النبطية المعتادة، حتى أصل إلى "حلويات السلطان". كنتُ مهووسة بشراء "معمول مدّ بقشطة". كنتُ أنظر إلى هذه الحلوى نظرة بانورامية، قبل أن أُدخلها إلى فمي. كانت تمدني بكلّ تاريخها، فمن المعروف أنّ المعمول عرفتهُ الشعوب القديمة، كالكنعانيين والفراعنة، حتّى أنه يقال إن شكل المعمول ما هي إلا رسمة الإله آتون، إله الشمس عند المصريين القدامى.
وكانت النساء يتشاركن صنعه في مطابخهن الكبيرة، حتى أن أمي اعتادت تحضيره في مطبخها الكبير، وهذا الأخير لم يكن مجرد فضاء لإعداد الطعام، بل أيضاً مساحة لتبادل النميمة والضحكات والأحاديث.

في المرّة الأخيرة التي زرتُ بها مدينتي النبطية، تحديداً في شهر أيّار الفائت، تجوّلتُ في أزقتها. كانت هي نفسها مدينتي التي عرفتها. وقفتُ قليلاً مستعيدة عادة الاستماع إلى الكاسيتات التي يشغلها محل "الشعّار"، وآخر ما سمعته قبل أن أغادرها إلى إسطنبول "خلّصوا الأغاني هني ويغنّوا ع الجنوب، خلّصوا القصايد هنّي ويصفّوا ع الجنوب، خلصّوا القضايا هنّي ويردّوها ع الجنوب، ولا الشهدا قلّوا ولا الشهدا زادوا..".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image