"منذ بزوغ العقل والرغبة بالثأر بداية كل الشرور، وفاتحة المذابح. على الناس الانشغال بالحياة أكثر من مسايرة الحقد"، يكتب أحد أصدقائي الغزّيين في منشور له على صفحته الشخصية.
بقيتُ سنوات طويلة أنظر للقضية الفلسطينية على أنها انتقام وثأر لدماء أطفال غزّة وجروحهم النازفة، ولاعتداءات الصهاينة على المسجد الأقصى، وأنّ الله سينتقم لنا منهم يوماً ما، فنحن مظلومون وهم الظالمون. كبرتُ فيما بعد ودخلتُ مرحلة النضج العقلي، واكتشفتُ أنني أنظر إلى كل ما حولي من مفهوم الانتقام والانتقام الإلهي، إذ آمنت أنّ من آذاني دون وجه حق سيُصاب بالأذى، لأنه مخطئ والله لا يسكت عن الحق، فهو يُمهل ولا يهمل، وأنّ قراءة "آية الكرسي" ستساعدني في النجاح بالامتحان، وفي رسوب ذلك الوغد الذي أقدم على إيذائي.
أما اليوم فأعتقد أنّ الانتقام للموتى والقتلى والشهداء لن يفيد الأخيرين في شيء، فهم قد فقدوا القدرة على التواصل مع الحياة، ولن يعيدهم الانتقام إليها، ولكنه في بعض الحالات قد يرسلنا إليهم، حتى نحن الذين لا نريد الانتقام ولا نؤمن به أصلاً قد ندفع ثمنه باهظاً، فلو انتقمت البشرية لكل قتيل، فبكل تأكيد لن يبقى مخلوق واحد على وجه الأرض، ولا تحتاج معرفة ذلك إلى دراسات أو أبحاث.
والحقيقة أنّنا حين نود الانتقام، نفعل ذلك لأجل أنفسنا، لأجل الحقد المشتعل في داخلنا، وأحياناً لأجل رغبتنا في رؤية العدل في الحياة، وهذا ما لم يكن ممكناً في معظم الحالات، وخاصة في النزاعات السياسية والعسكرية التي تميّز شرقنا الأوسط، ورغم وجود الكثير من الشواهد التاريخية على أنّ القوي هو من ينتصر، لكن هناك الكثير ممن لم يتعلّموا الدرس بعد، ومردّ ذلك في أغلب الحالات هو العقائد الأيديولوجية التي تستحوذ على التفكير وتسيطر عليه وتعيق نموه وانفتاحه، فتَعِد معتنقيها بالانتقام الإلهي من أعدائهم بعد كل خسارة.
نحن الذين لا نريد الانتقام ولا نؤمن به أصلاً قد ندفع ثمنه باهظاً، فلو انتقمت البشرية لكل قتيل، فبكل تأكيد لن يبقى مخلوق واحد على وجه الأرض، ولا تحتاج معرفة ذلك إلى دراسات أو أبحاث
كلٌّ يغني على ليل انتقامه
قد يكون أحد أسباب عدم تعلّمنا من الحوادث التاريخية التي لم تنصف الحق يوماً، هو وجود ظواهر أخرى من فعل الطبيعة، عادةً ما نفسّرها على أنها انتقام إلهي لنا من أعدائنا، ونظن بعدها أننا في حالة تعادل مع العدو، إذ فسّر الكثير من الجمهور "إعصار ميلتون" الذي ضرب فلوريدا، بأنه انتقام إلهي على اغتيال السيّد، ما بدا لي وكأنه آلية دفاعية نفسية بإزاحة عبء الانتقام لمقتل نصرالله، فالله قد انتقم منهم شرّ انتقام، وترفعٌ عما يصاحب الانتقام من قتل مدنيين لا ذنب لهم، فالفاعل هنا هي العدالة الإلهية التي لا يمكن محاسبتها.
فيما رأته طبيبة سورية، في منشور لها على فيسبوك، بأنه انتقام الله من الولايات المتحدة على محاربتها "ضدنا" في سوريا ولبنان، ونسبة، قد تكون قليلة، ترى الإعصار انتقاماً لإعدام صدام حسين، وكلٌّ يغني على ليل انتقامه. الكل يريد أن يفرغ ما بداخله من أحقاد ومظلوميات ويلصقها بالظواهر الطبيعية، ليداوي جروح نرجسيته بأنّ الله قد انتقم له، كما كتب أحد الأصدقاء على صفحته: "قتل الحسين رضي الله عنه وقطع رأسه تمّ بتنفيذ مباشر من قائد الجيش عمر بن سعد وبإشراف والي العراق ليزيد عبيد الله بن زياد بن أبيه' ولم يكن يزيد على علم بالأمر لكنه في الوقت نفسه لم يحرك ساكناً تجاه قاتليه. المهم أن الاثنين (عمر وعبيد) ينتهي بهما المقام إلى أن تقطع رأسيهما وتحمل إلى المختار الثقفي الكذاب".
عندما تسود ثقافة الانتقام والانتقام الإلهي في أي مجتمع، فهذا قد لا يعني بالضرورة أنّ هذه الثقافة تعبّر عن المجتمع، وإنما عن الفئة المهيمنة عليه، وما علينا نحن الذي نعيش فيه سوى مشاركتهم في دفع الفاتورة. يشبه الأمر دخولك إلى مطعم لتتقاسم الفاتورة مع جميع الزبائن: "بس أنا ما طلبت خاروف محشي، كيف حاطينه بالفاتورة؟"، تقول غاضباً مخاطباً الكاشير، ليجاوبك بكل لطف ولباقة: "سياسة المطعم إننا نتشارك الفاتورة جميعاً، شوف حتى صاحب المطعم دفع حصته هوي وابنه! هي وحدة المسار والمصير أستاذ، شكراً لتفهمك". يبدو المشهد سوريالياً هزلياً، لكنه مع الأسف يتسع ليضمّنا في أحضانه.
الانتقام: كبت ومظلوميات
ولكن لماذا نضع الانتقام نصب أعيننا في هذا الشرق؟ وقد يكون أحد الأجوبة هو الكبت الذي نعيشه، والذي يبلغ ذروته عند الإسلاميين المتشدّدين. تخيلوا الحياة دون موسيقى وأغانٍ ومشروب ورقص وحفلات ورحلات وحب وجنس، ستنتج حتماً إنساناً مكبوتاً لا يمكن توقع الصفات القاسية التي سيحملها، والخطورة أنه قد يصبح مؤثراً بطريقة ما، أو يستلم قيادة حزب أو فيلق أو تنظيم، لأنه استبدل الحياة بالأغاني الدينية والجلسات الفقهية، وإن شذّ عنها قليلاً يبقى إحساس الذنب يأكل قلبه، ليفرّغ كل هذا الجوع للحياة بالانتقام من العدو، فيشنّ عليه حروباً، ولو كان يعرف مسبقاً تكلفتها الباهظة، لكنها ستوفّر متنفساً للغضب والكبت والانتقام من الحياة نفسها التي لم يعشها، إذ ماذا يفعل القادة الدينيون للميليشيات دون حرب؟ يبقون في إطار الكلام والخطابة والتنظير والصلاة؟ ربما لا يبدو الأمر ممتعاً بالنسبة لهم دون حرب تجعلهم يرون الانتقام الإلهي على حياة أعينهم ويتحقق على أيديهم، مع التذكير أنّ إسرائيل هي المجرم الأول والعدوّ الأول والسبب الأول في دماء غزة ولبنان.
وتتغذّى رغبة الانتقام على الشعور بالغبن والظلم، ونحن هنا بلدان المظلوميات التاريخية المتعددة، وبغض النظر عن صحّة المظلومية وحقيقتها وأحقيتها، فإنها -أي المظلومية- مدرسة سيئة للسياسة، وعند وصولها للحكم بغية رفع المظلومية عن نفسها وغيرها، نتفاجأ بأنها تولّد مظلوميات جديدة لدى الأطراف الأخرى، تنشأ عنها دوافع انتقام إلهي جديد.
فسّر الكثير من الجمهور "إعصار ميلتون" الذي ضرب فلوريدا، بأنه انتقام إلهي على اغتيال السيّد، ما بدا لي وكأنه آلية دفاعية نفسية بإزاحة عبء الانتقام لمقتل نصرالله، فالله قد انتقم منهم شرّ انتقام، وترفعٌ عما يصاحب الانتقام من قتل مدنيين لا ذنب لهم، فالفاعل هنا هي العدالة الإلهية التي لا يمكن محاسبتها
لماذا لم تنتقم اليابان؟
ألقت الولايات المتحدة بقنبلتين نوويتين على اليابان، خلفتا دماراً غير مسبوق، وانبعاثات وإشعاعات امتدّ تأثيرها لسنواتٍ طوال، فلماذا وكيف تجاوز اليابانيون الرغبات الأساسية بالانتقام؟ لماذا لم نسمع عن مظاهرات مليونية ترفع شعار "الموت لأميركا"، ولا عن تفجيرات انتقامية للسفارات الأمريكية؟ على العكس من ذلك، بنت اليابان نهضتها على القيم الغربية، وأصبحت حليفة الولايات المتحدة، وبنت الأخيرة على أرض اليابان قواعد عسكرية، والحالة ذاتها مع فيتنام التي عاث فيها الأمريكيون خراباً ودماراً.
ألمانيا النازية، هي الأخرى قصفت بريطانيا وقتلت فيها مدنيين، واجتاحت فرنسا وهولندا وبلجيكا والنرويج والدنمارك وغيرها من الدول الأوروبية، واغتصبت نساءها وقتلت أطفالها، فلماذا اليوم تقيم أفضل العلاقات معها؟ لماذا لا تشعل الدول الأوروبية وفيتنام واليابان طوفاناً انتقاماً ضد من احتلّ أراضيهم ودنّس نساءهم؟
يجيب القائد العربي أنه ليس لديهم كرامة. نعم ليس لديهم كرامة لإدخال شعوبهم في أتون حرب يقضي فيها مليون قتيل، انتقاماً للمئة ألف قتيل الذين قضوا في الحرب السابقة.
يجيب القائد بأنّ الأقصى ينادينا، وأنا أجيب على لسان أحد أصدقائي، وهو بائع خضار: "صرلكم مية سنة عم تتقاتلو على هالجامع، صار رايح مليون طفل مشانو، والله أنا إذا ابني بيصرلو شي من ورا جامع، بحرقو"، وأتفق معه بالفكرة بأنّ قطرة دم طفل أو رجل أو امرأة تساوي عندي كل مقدسات الأرض.
هل يوجد دولة متقدّمة بنت أسس تقدمها على عقيدة الحق والانتقام الإلهي؟ ولنكون أكثر بساطةً في الطرح، هل نفعكم الانتقام ممن تكرهون في حياتكم الشخصية والمهنية والعلمية؟ هل كان يوماً ذا جدوى حقيقية؟
لماذا لا يضر العدو
وإن كانت إسرائيل ومستوطنوها أكثر تطوّراً في النواحي التقنية والعلمية والعسكرية والطبية والبحثية، ولكنّ فكرة الانتقام الإلهي لا تزال معششة في رؤوس معظمهم، وبالوعد الإلهي "بوطنهم" فلسطين، الذي يتبلور في جرائمهم أمام عدسات المجتمع الدولي بحق الفلسطينيين واللبنانيين، دون أدنى رادع أخلاقي أو إنسانيّ. إنه الانتقام الإلهي على الهولوكوست، ولكن لماذا لم يُضعفهم هذا الاعتقاد؟
إنّ أحد الأجوبة المنطقية قد تكون بأنهم لم يكتفوا بإيمانهم بالانتقام الإلهي، وإنما استغلوا المعنى المتولد عنها، بغض النظر عن الأحقية والصدقية، كدافع للبحث والتقدم العلمي والتكنولوجي، فيما اكتفينا نحن به، وابتُلينا بأنظمة وأحزاب لا همّ لها سوى السلطة والحفاظ عليها والانتفاع منها، وتمرير مشاريع خارجية، مقابل دولة الاحتلال التي كان هدف قادتها في معظم الحالات، تحقيق الأمن والتقدم للمستوطنين، ووجود ديناميكية سياسية داخلية تستثني من يخفق في ذلك، هذا ما علينا أن نتعلّم منه في حال أردنا هزيمة إسرائيل في يوم من الأيام، علينا أن نتعلّم من عدونا حتى نهزمه بعد الإقرار بهزيمتنا أمامه، بدل تكرار أسطورة الانتقام الإلهي على مسامع أجيالنا.
وإن كنا عاجزين لهذه الدرجة عن إقناع أصحاب عقيدة الانتقام بعدم جدواها، لماذا لا نحاول نقلها إلى مكانٍ آخر؟ أو تحويلها إلى شيء مفيد؟ أو إعادة تدويرها؟ وكيف يمكننا أن نكسر قوقعة الرطانة اللغوية التي تعيش ضمنها عقيدة الانتقام، ونفتح لها أبواباً جديدة عليها، مثل الخيارات الحرة والحسابات الواقعية؟
التعديل عند العجز عن التغيير
وإن كنا عاجزين لهذه الدرجة عن إقناع أصحاب عقيدة الانتقام بعدم جدواها، لماذا لا نحاول نقلها إلى مكانٍ آخر؟ أو تحويلها إلى شيء مفيد؟ أو إعادة تدويرها؟ وكيف يمكننا أن نكسر قوقعة الرطانة اللغوية التي تعيش ضمنها عقيدة الانتقام، ونفتح لها أبواباً جديدة عليها، مثل الخيارات الحرة والحسابات الواقعية؟
لماذا لا نحاول تعديل مفهوم الشجاعة الأسطورية الذي تتمخض عنه فكرة الانتقام الإلهي، ذلك النوع من الشجاعة الذي ظهر فيه السنوار يواجه أحدث التقنيات العسكرية بعصاه، بسبب شجاعته الأولى في هندسة هجوم السابع من أكتوبر، وشجاعة نصرالله في إعلان حرب الإسناد على إسرائيل، مستندين بشجاعتهم على فكرة أنّ الانتقام الإلهي سيكون على أيديهم، متخيلين النصر المؤزر في نهاية النفق.
هل يمكننا إقناعهم أنّ ياسر عرفات كان أكثر شجاعة حين انسحب من بيروت؟ وأنّ الملك فيصل كان أكثر شجاعة حين انسحب من دمشق بعد إنذار غورو لتجنّب قصف القوات الفرنسية لدمشق وحقن الدماء؟ بالتأكيد لن يُعجب الكثيرون بهذا النوع من الشجاعة، الذي لولاه لما كان بعضنا/هم موجوداً في هذه اللحظة، وقد تبدأ يقظتنا من اللحظة التي نعي فيها أنّ أحد أسباب وجودنا، عدول أحد أسلافنا عن قراره بالانتقام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي