شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حبقة أمي التي بقيت هناك تنتظر موتاها

حبقة أمي التي بقيت هناك تنتظر موتاها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 12 نوفمبر 202412:12 م

كل يوم أجلس قبالة مشهد المغيب، وأنتظر العتمة كاملة من حولي، حتى أدخل منزل النزوح الموحش. ألتقط آخر أنفاس النهار، أو آخر دموعه، وأتهيّأ لاستقبال وحدتي، منفصلة عن عائلتي في غرفة لم أعتدها لكثرة رطوبتها. تلك الرطوبة التي تذكرك بقسوة الانفصال في الحرب وألم مغادرة حياتك إلى أجل غير مسمى.

غرفة غريبة عني، قبلت بها كي لا أصبح في الشارع كالآخرين، فأن تختار سقفاً يأويك في الحرب خير من تلك الخيمة التي حمّلوها بخفة رغم نيران الحرب، وبنوها عند أرصفة المدينة التي كانت تعج سابقاً بروتين المهرولين وعربات العرانيس.

أن تعبر تلك المسافة الطويلة من قريتك حتى تصل إلى منطقة صنّفوها بالآمنة والتي تكفي لتشعرك بالغربة عن أرضك وكرامتك، أن ترضى بالقليل في الحرب، كرؤية المستقبل لمصابك وهو يحاول سدّ فجوة قسوة هذا الانفصال، دون علمه بأن لهذه الحرب تشوّهاتها التي نخرت في نبض القلب. كيف لك أن تمعن في الشرح لتبرّر بكاءك اليومي وأنت مرهق ومستنزف ولا تستطيع الرؤية بوضوح؟

 الضباب عند المغيب يحيط بذاكرتك ويمتد ببطء، إلا أن سرعته تتماهى مع بؤسك المتغذّي من هذه الحرب، فيحول بينك وبين الماضي القريب الذي كان قبل اجتياح العدو لسمائنا. القريب عندما كنت تستيقظ في الصباح لتروي "الحبقة"، حبقة أمي التي بقيت في الدار لتذبل كصمودك، ومن ثم يأتي دورك لتشهق آخر أنفاس هذا الصمود، غير مكترث سوى بتلك المياه التي جفّت عند شرايين الحبقة.

غرفة غريبة عني، قبلت بها كي لا أصبح في الشارع كالآخرين، فأن تختار سقفاً يأويك في الحرب خير من تلك الخيمة التي حمّلوها بخفة رغم نيران الحرب، وبنوها عند أرصفة المدينة التي كانت تعجّ سابقاً بروتين المهرولين وعربات العرانيس

تعود لتتأمل في القريب، عندما كانت والدتك تذهب لزيارة القبور، وتطلب منك أن تواسيها في قراءة الفاتحة. أفكّر في القبور التي طالها غبار صواريخ العدو وأصوات الدمار من حولها، أفكّر بأخي الذي اعتاد صوت أمي عند ترتيلها القرآن، لتبلسم موته تحت تلك الحفرة. غادرت أمي قبر أخي قبل أن تغادر منزلها الآمن، وتركت عنده صدى لعله يعوّض غيابها حتى العودة.

هل يعلم أخي بأن أمي تركت عند قبره وعداً صادقاً بأنها باقية، بطيفها ولمسات يديها عندما كانت تطرق وبكل قوتها عند سياج القبر، مرات ومرات، كي يسمع وصولها؟ هل يعلم أخي بأنني أخاف عليه أيضاً من شظايا العدو، فلا أريد له أن يموت مرتين؟

لم أصدق يوماً بأن جسد أخي تحلّل تحت التراب، أراه كما كان عند لقائنا الأخير، ممدداً، هانئاً في عليائه، يتنفّس من تراب آخرته ويلفظ رحمته من حفرة ضيقة، إلا أنها آثرت موته وترأفت بعظام شبابه.

الالتصاق في الحرب يعني أن تكون شاهداً على أشلاء أحد الأحبة. الالتصاق في بلادنا يعني أن تعانق الأموات فقط، وتتقبّل أن الأجساد لن تتلاصق بعد اليوم

في هذه الحرب، استطاع العدو أيضاً أن يخترق عظام موتانا، فحلّق بطائراته فوق حفرتهم، وبسلاحه الهالك ناداهم بأن زوّارهم غادروهم على عجل. هذا العدو نادى على أخي ليقول له بأن عظام جسده لن تصمد أمام صواريخه، وبأن حفرته الآمنة ستنهار كما انهار سقف منزل والدته.

عدت إلى قريتي لكي ألتصق مع جسد والدتي. مللت استقبال وحشة الليل خالية من أنس العزيز، ولكن هنا في الجنوب، تستطيع أن ترى الدمار رغم الليل الحالك، تستطيع أن تشتمّ الدخان الذي تصاعد بفعل الصاروخ القاتل بداية العدوان.

تناديني أمي من غرفتها، تدعوني لأتشارك معها ليلها على صوت الطائرة الحربية. كنت في حاجة إلى تلك العودة، ولو لليلة واحدة، أرى فيها جمعتنا، أرى فيها وجه أمي قبل الرحيل الطويل. استقرّت أمي في الغرفة المقابلة لغرفتي، تناديني أن أتشاركها السرير. كنت أعاند أمنيتها، لأنه رغم سقف المنزل، كان باستطاعتي رؤية القاتل في الخارج يحوم بسلاحه فوق جسدها. كان هذا القاتل ينتظر اقترابي من أمي ليطلق نيرانه. أوهم نفسه بأن لديه القدرة وحده على اختراق جدران حشمتنا، ورؤيتنا نتنقّل بأجسادنا التي قاومت هدف العدو في إعاقة حركتها حتى الشلل، إلا أنه لم يعلم بأننا أيضاً، نحن ضحاياه، حفظنا تحرّكاته الوحشية رغم ظلام الفراغ الذي سببه في المكان. فراغ المنازل من نورها، فراغ الشارع من أبنيته، فراغ كل ما كان يحيط بنا من أحبة وجيرة حوّلها لردم منثور حتى عتبة دارنا.

هل تستطيع الاختباء من العدو؟ تلك الليلة قرّرت بأن أبتعد عن أمي وألا أقترب منها، لأن ما يرهق هذا العدو هو رؤيتنا نتعانق، رؤية هذا الفائض من المحبة رغم هدير السماء بفعل صواريخه. يعتقد بأنه سيهزم أيضاً هذا الثبات في الحب ويعتمد شرّه ليبعثره في النفوس الباقية في هذه الحرب. يعتقد هذا القاتل بأنه يفوق ذكاء الأرض التي أنجبتك، وعليه يحاول أن يفكك بجراثيمه كل ما يمثله هذا الالتصاق بين الأحبة.

ابتعدت عن أمي في ليلة أخيرة قبل الهروب النهائي، لأنه يا أمي يعزّ علي أن تموتي بين يدي، وأعلم بأنه يعزّ عليك أيضاً بأن أموت أمام وجهك المتواضع عند لحظات ثباته الأخيرة. أصدّق بأن الأرواح بعد فراقها للجسد الذي خاوته العمر، تراه على حاله وتستشعر ألمه بفعل خوائه. كيف لي يا أمي، بعد حياة سعيت جاهدة فيها لإزالة ألمك أن أهديك تلك الخاتمة؟ كيف لي يا أمي، أن أُهزم أمام القاتل وأعطيه رغبته وأسلّمه أجسادنا بتهاون؟

أن تستيقظ في الصباح لتروي "الحبقة"، حبقة أمي التي بقيت في الدار لتذبل كصمودك، ومن ثم يأتي دورك لتشهق آخر أنفاس هذا الصمود، غير مكترث سوى بتلك المياه التي جفّت عند شرايين الحبقة

لم أغف إلى جانب أمي، وذلك كان المخطط الذي نجّانا من صاروخ العدو، أو هذا هو السيناريو الذي أردت تصديقه. في الصباح، كان لدينا نصف وقت لننزح من القرية، وهذا هو الوقت الذي تتيقّن به بأن هذه المرة لن تستطيع إنقاذ صورة جدتك الوحيدة المعلقة في المنزل.

نصف وقت لتتبيّن بأنك ستخرج مجدداً فارغ اليدين، من دون ذكرى واحدة من الدار الذي سيمحوه العدو قريباً، علّك كنت بها ستبقى بصفتك ناجياً في الغربة، ولأن في التذكار جحيم الحرب اليومي، تنظر إلى تلك الغرف وتتركها كما رتّبتها قبل مناجاتك في الخلاص، تستأذن منها وتتلمّس جدرانها وتسامح انهيارها المرتقب.

كيف لك أن تقف خلال هذا الوقت لتفاوض على كل زاوية في المنزل؟ تساءلت أي من الأغراض عليّ حملها معي؟ لا شيء. لأنني لن أميز بين ألبوم الصور الذي يجمعني مع عائلتي، وبين ربطة شعر أمي وفرشاة أسنان جدي. فكل شيء في هذا المنزل هو المنزل بكيانه كله. هو هناك عندما رأيت الحرب تقترب منا، وهو أيضاً هناك عندما وقفت أمي تحت عريشة العنب، لتؤدي فريضة صلاتها الأخيرة قبل يوم من التهجير.

تخبرني صديقتي أن في أستراليا عندما يولد طفل، يطلب من الأم أو الأب أن يخلعوا ملابسهم من النصف الأعلى للجسد ليلتصق مع المولود الجديد. يضعون الطفل عارياً عند جسد والديه ليشعر بهذه اللحظة، لحظة الهوية ولحظة "الجمعة" التي حرم منها الجميع في بلادنا. الالتصاق في الحرب يعني أن تكون شاهداً على أشلاء أحد الأحبة، وليس عليك أن تخلع ثيابك أو تقترب، لأن هذا الجسد لم يبقى منه سوى يد، أو شبه يد، مغطاة بكفن، ميزته الوحيدة أنه يحجب عن أعيننا حجم الأجساد التي تقلّصت. الالتصاق في بلادنا يعني أن تعانق الأموات فقط، وتتقبّل أن الأجساد لن تتلاصق بعد اليوم. في هذه الحرب لن نستطيع حتى معانقة القبور، ولن تستطيع أمي العودة إلى حفرة موتاها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image