في كل مرّة تتصفّح فيها مواقع التواصل الاجتماعي، هناك احتمال كبير أن تصادف اقتباساً منسوباً إلى كاتب كبير، كنوع من "الحكمة السريعة" التي يمكن استهلاكها دون عناء التحقق. تخيّل أن نجيب محفوظ يدعو لارتداء الحجاب، أو دوستويفسكي يتحدث عن حسن الخاتمة! هذا النوع من الاقتباسات الزائفة ينتشر كالنار في الهشيم، لدرجة أن مؤسّسات إعلامية ضخمة، كـ "اليوم السابع" و"الشروق" و"المصري اليوم"، تقع في هذا الفخّ وتنشرها وكأنها حقائق ثابتة.
لكن هذه الظاهرة ليست حكراً على وطننا العربي؛ إنها ظاهرة عالمية بامتياز. تنتقل الاقتباسات الزائفة في عالمنا الرقمي بسرعة؛ كأنها تمتلك قوة سحرية تدفع الجميع لمشاركتها، وربما تكون هذه السرعة والتفاعل هو ما يجعلها تترسّخ كحقائق. تخيل أن مقولة "الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً وتتوقع نتائج مختلفة"، رغم شهرتها، لم تكن من أفكار أينشتاين؛ بل ظهرت لأول مرة في أحد اجتماعات دعم المدمنين في الثمانينيات، بعد وفاته بسنوات. ولكن ما الذي جعلها تُنسب إلى عالم الفيزياء العبقري؟ يعتقد الباحث غارسون أوتول، المتخصّص في تتبّع مصادر الاقتباسات، أن هذا النوع من الاقتباسات الزائفة يتمتع بجاذبية قوية، مستفيداً من مكانة أينشتاين كرمز للحكمة والعبقرية، ما يضفي مصداقية حتى على الأفكار الخاطئة
وهناك مثال آخر، "صنعنا القنبلة الذرية، لكن فأراً لا يفكر في صنع مصيدة فئران". تنسب هذه العبارة أيضاً لأينشتاين لتعزيز صورته كعالم يرفض نتائج الاختراعات القاتلة، رغم أنه لم يقلها. يرى أوتول، أن هذا "المغناطيس" يستقطب الشخصيات الشهيرة ليضع على ألسنتها ما يخدم الحكمة الجماعية، وهو ما يعكس رغبة المجتمع في صقل صوره الرمزية.
أما مارك توين، فهو مثال آخر على "مغناطيس الاقتباسات"، إذ تُنسب إليه العديد من الأقوال الساخرة والحكيمة التي لم يقلها فعلياً، مثل "الكلاسيكيات هي تلك الكتب التي يريد الجميع قراءتها ولكن لا أحد يرغب في قراءتها". في الواقع، نسب توين هذا القول إلى الأستاذ الجامعي كاليب توماس وينشستر، لكن، مع مرور الزمن، نُسبت العبارة لتوين، لأنها تتناسب تماماً مع أسلوبه الساخر المعروف.
بحسب الباحث أوتول، فإن انتشار الاقتباسات الزائفة إذن لا يتعلق بالحقيقة بقدر ما هو نتاج للسعي وراء حكمة مستمدة من شخصيات محبوبة ومقدرة. هذا البحث عن المعاني "المحفوظة" يعيد تشكيل تلك الشخصيات في عقول الناس، لتصبح رموزاً للحكمة، حتى لو لم تخرج هذه الكلمات من أفواههم قط.
في كل مرّة تتصفّح فيها مواقع التواصل الاجتماعي، هناك احتمال كبير أن تصادف اقتباساً منسوباً إلى كاتب كبير، كنوع من "الحكمة السريعة" التي يمكن استهلاكها دون عناء التحقق. تخيّل أن نجيب محفوظ يدعو لارتداء الحجاب، أو دوستويفسكي يتحدّث عن حسن الخاتمة!
يضيف أوتول أن بعض الأقوال الزائفة تنجذب إلى الشخصيات الشهيرة وكأنها قوى لا تُقاوم؛ فاسم مثل مارك توين أو أينشتاين يحمل وزناً يضفي على أي عبارة مصداقية وتأثيراً أكبر في الوعي الجمعي، وما إن تُنسب الحكمة إلى أحد هؤلاء حتى تتحول إلى "عملة متداولة"، يتناقلها الناس ويجدون فيها ضالتهم، خصوصاً إذا عكست المقولة صورةً ملهمة عن حياة الشخصية وأفكارها.
في نظر أوتول، هذه الظاهرة ليست مجرد تزييف أو إساءة نسب، بل هي جزء من "عملية تطور ثقافي"؛ حيث تصبح الاقتباسات ساحة للتنافس، ويحصل فيها "المقتبسون البارزون" على ميزة تجعل اقتباساتهم الخاطئة أكثر قدرة على البقاء والانتشار، وكأنها تخضع لانتقاء طبيعي. كل "حكمة ملفتة" مرتبطة بشخصية شهيرة تكتسب "بطاقة مرور" سحرية تفتح لها قلوب وعقول الناس، فتتحوّل من مجرد كلمات عابرة إلى جزء من الموروث الثقافي، تُردّد وتنتشر جيلاً بعد جيل، حتى وإن كانت مجرد وهم.
الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، الساحة الخصبة للاقتباسات الزائفة
في هذا العصر الرقمي المتسارع، حيث يمكن أن تنتقل المعلومة بضغطة زر، وجدت الاقتباسات الزائفة بيئة مثالية للنمو والانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومحركات البحث. هنا، في عالم يسوده التفاعل السريع والمشاركة المكثفة، تتصدر هذه الاقتباسات الواجهة بفضل منصات شهيرة مثل BrainyQuote وGoodreads. المشكلة أن هذه المواقع التي تهدف إلى جمع "حكم" وأقوال ملهمة، تنشر الاقتباسات دون التحقق من مصادرها بدقة، ما يجعلها وسيلة فعالة لترويج الزيف المعرفي.
يقارن أوتول انتشار هذه الاقتباسات بلعبة "الهاتف العربي" الثقافية، حيث تنتقل العبارة من شخص لآخر، ومع كل انتقال، تفقد جزءاً من دقتها أو تتشوّه، حتى تصبح شيئاً آخر تماماً. مثل لعبة "الهاتف العربي"، تتلاعب الألسن والنصوص بالاقتباسات الزائفة على الإنترنت، حتى تستقر في وعي الناس كحقائق ثابتة.
لكن لماذا يُعد الإنترنت بيئة خصبة لهذه الاقتباسات الزائفة؟ السبب يعود إلى طبيعة محرّكات البحث؛ عند البحث عن اقتباس، تعتمد الخوارزميات ترتيب النتائج على الشعبية وليس الدقة، ما يضع الاقتباسات الزائفة ضمن النتائج الأولى. هذا الانحياز يترك انطباعاً لدى المستخدمين بأنها دقيقة، فيقومون بمشاركتها وترديدها في أحاديثهم. يرى أوتول أن هذا "التصديق الشعبي" يضفي على الاقتباسات الزائفة طابعاً من الشرعية، يجعل من الصعب التشكيك فيها.
من خلال التكرار المستمر، تتسلل هذه الاقتباسات الزائفة إلى دائرة التأثير الأكاديمي، حيث تجد طريقها إلى الكتب والمقالات، وحتى الدراسات العلمية أحياناً، فتتحول من وهم إلى "حقيقة أكاديمية" يعتمد عليها الباحثون والقراء. وهكذا يصبح من الصعب على القارئ العادي تمييز الواقع عن الزيف. بالفعل، أشارت دراسات حديثة إلى أن العديد من الكتب الأكثر مبيعاً تتضمن اقتباسات زائفة، تُستخدم لتعزيز حجج معينة أو لإضفاء طابع فكري على الموضوع، وبذلك يجد القارئ نفسه محاصراً في عالم من الحقائق المشوهة التي يصعب تصحيحها، حيث تتغلغل هذه الاقتباسات الزائفة بعمق في الثقافة الشعبية والأكاديمية على حد سواء.
مع ظهور "الميمات" الثقافية التي تدمج اقتباسات وصوراً لشخصيات تاريخية، يصبح من السهل استغلال هذه الصور لجذب الانتباه والترويج لمفاهيم غير دقيقة. أي صورة تحمل اقتباساً مؤثراً، خاصة إذا كانت مرتبطة بشخصية مشهورة، ستجد طريقها إلى الانتشار، بغض النظر عن دقة محتواها. وهكذا، يتحول الإنترنت إلى ساحة خصبة لتكاثر الاقتباسات، حيث تستخدم هذه الأخيرة كأدوات للتأثير الشعبي والسياسي، وتصبح جزءاً من الدعايات المعاصرة التي تهدف إلى تشكيل الرأي العام بأساليب خفية ولكنها مؤثرة.
في نهاية المطاف، تثبت الاقتباسات الزائفة أنها أكثر من مجرد عبارات غير دقيقة؛ إنها جزء من التحولات الثقافية التي تميز عالمنا اليوم. ومع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي في ترتيب المعلومات وتنظيمها، يصبح من الضروري تطوير أدوات وتقنيات للتحقق من دقة الاقتباسات ومصادرها، حتى تبقى الحقيقة محفوظة وسط هذا الزخم الرقمي المتغير.
عبر التاريخ، استُخدمت الاقتباسات الزائفة كأدوات فعّالة لتوجيه الرأي العام والتأثير على مواقف الناس، فعندما يُدعى إلى اقتباس من تشرشل، مثلاً، يصبح الأمر وكأنه يحمل وزناً تاريخياً، ما يصعب على الأفراد رفضه أو الاعتراض عليه
الاقتباسات كوسيلة للتأثير
في عالم مشحون بالأحداث السياسية المتلاحقة، لم تعد الاقتباسات الزائفة مجرد كلمات ضائعة بين صفحات التاريخ، بل تحولت إلى أدوات دعائية قوية تستخدمها بعض الجهات لتعزيز أفكار معينة أو تلميع صورة شخصيات بعينها. يكفي أن تُنسب عبارة إلى شخصية تاريخية لها وزنها، مثل أوتو فون بسمارك أو ونستون تشرشل، حتى تكتسب هذه العبارة قوة ومصداقية سياسية تجعلها أكثر انتشاراً وقبولاً لدى الجمهور، لتحقيق أهداف سياسية محددة.
في الواقع، يستغل القائمون على الحملات السياسية الاقتباسات الزائفة لتعزيز مواقفهم؛ فكلما ارتبطت هذه الأقوال بأسماء مرموقة، زادت قوتها وتأثيرها على الجمهور. على سبيل المثال، تُستخدم الاقتباسات المنسوبة إلى تشرشل غالباً لتحفيز الهمم أو توجيه الانتقادات للخصوم، فهو رمز للشجاعة والإصرار في أوقات الأزمات. تزداد هذه الظاهرة وضوحاً خلال الأوقات الانتخابية، حيث يتم اللجوء إلى اقتباسات معيّنة لتحفيز الناخبين أو لتشويه صورة الخصوم، ما يجعل من الاقتباسات الزائفة جزءاً من لعبة سياسية معقدة.
تشير الأبحاث إلى أن الكلمات التي تُنسب لأشخاص ذوي مكانة مرموقة تزداد تأثيراً عندما تخدم أجندات معينة، فخلال الحركات الاجتماعية أو الحملات الانتخابية، يمكن أن يعزّز اقتباس زائف منسوب إلى شخصية مشهورة شعور الانتماء والولاء لدى الجمهور، ما يعطي الانطباع بأن الأفكار المطروحة لها جذور تاريخية قوية. في هذا السياق، يلعب الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً حاسماً في نشر هذه الاقتباسات بسرعة هائلة، ويجعلها أكثر تأثيراً وأسرع انتشاراً.
يتعلق قبول الجمهور للاقتباسات الزائفة بعدة عوامل نفسية. يشير الباحث غارسون أوتول إلى أن الاقتباسات الزائفة تعزّز الشعور بالشرعية والانتماء؛ إذ يسهل على الأفراد استيعاب الأفكار عندما تأتي مزيّنة باسم شخصية تاريخية محبوبة. ويحدث هذا غالباً في سياق النقاشات السياسية، حيث تُستخدم الاقتباسات لتقديم رؤى وآراء بشكل جذاب وسهل الاستيعاب. فعندما يُدعى إلى اقتباس من تشرشل، مثلاً، يصبح الأمر وكأنه يحمل وزناً تاريخياً، ما يصعب على الأفراد رفضه أو الاعتراض عليه.
عبر التاريخ، استُخدمت الاقتباسات الزائفة كأدوات فعّالة لتوجيه الرأي العام والتأثير على مواقف الناس. على سبيل المثال، هناك اقتباس شائع يُنسب للجنرال الأمريكي كولين باول: "إذا لم تكن لديك المعلومات الصحيحة، فأنت على وشك أن تفقد الحرب". ورغم عدم وجود دليل موثق على أن باول قال هذه العبارة، إلا أنها وجدت طريقها إلى الخطابات السياسية، ما أضفى على مضمونها قوة ومصداقية. هذا المثال يوضح كيف يمكن استخدام اقتباس منسوب إلى شخصية عسكرية بارزة لتبرير مواقف سياسية أو عسكرية، ما يعزّز من تأثيره لدى الجمهور.
في سياق آخر، تتجلى الاقتباسات الزائفة بشكلٍ واضح في الحملات الانتخابية، حيث يلجأ بعض المرشحين إلى استخدام أقوال مشهورة على وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز مواقفهم. على سبيل المثال، قد يُنسب اقتباس إلى أينشتاين يتحدث عن أهمية الابتكار أو التعليم، ويُستخدم ضمن حملات انتخابية، رغم أن الاقتباس لا علاقة له بأينشتاين، ولكن، نظراً لما يتمتع به اسم أينشتاين من ثقل، فإن هذه الكلمات تحمل تأثيراً إضافياً، يدفع الناخبين نحو الاقتناع بالأفكار المطروحة. وهكذا، يصبح الاقتباس الزائف أداة فعالة لتعزيز صورة المرشحين وإقناع الجمهور برسائلهم السياسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...